المفكر والشهيد الأرمني تانيال تشبوكريان (فاروجان) (1884-1915)

استطاع فاروجان أن يكون صوت الفكر الأرمني والمتنبئ لمستقبل شعبه المشرق، فنجده شاهداً على المجازر التي ارتكبت بحق شعبه، فلم يستطع البقاء صامتاً، فاستغل قلمه ليوصل صوت شعبه إلى العالم الذي كان شاهداً غير مبالٍ لما يحدث من انتهاكات بحق الإنسانية.

بالنسبة لهُ الأتراك يجسدون الشر الموجود في العالم، وذلك كان واضحاً بالطريقة التي كانوا يقتلون بها الأرمن، فكانت مليئة بالمتعة والسعادة وكأنهم يقدمون ذبيحة لله، بينما في الواقع كانوا يجسدون الشيطان بحد ذاته.

هذا كله بالإضافة إلى عوامل أخرى كان لها الآثر في تنشئة الفكر عند فاروجان، وهنا لا ننسى دور المدن الثلاثة التي مر منها فاروجان، والتي كان لها دور كبير في نحت الفكر الأدبي لديه، فتأثر ببيئة وثقافة تلك المدن حيث نجدها واضحة في كتاباته، وأولها مدينة البندقية حيث مكث في جزيرة (Surp Ghazar)S. Lazzaro  التابعة للآباء المختاريين، ودرس في مدرستها، مدرسة (Raphael Mouradian). لقد تأثر بما قاموا به الآباء المختاريين من أعمال أدبية ومن ترجمة للأدب الأوروبي، وطباعة عدد من الكتب للمؤرخين الأرمن، والقيام بنشر المخطوطات الأدبية والتاريخية القديمة. لقد لعبوا دوراً مهماً في وضع الأساسات لنشر الفكر الأرمني.

في الحقبة ذاتها انتشر فكر المدرسة الرومنسية، ومع التأثير الكبير الذي تركته على مفكري تلك الحقبة، إلا أننا نجد فاروجان بقيّ، وبشكل عام، محافظاً على منهجه الكلاسيكي، وذلك بفضل الآباء المختاريين الذين كانوا ينادوا بالمحافظة على الأدب الكلاسيكي.

في عام 1906 أنهى فاروجان أول مجلد لهُ، فقام الآباء المختاريين بنشر عمله في مجلتي (keghani-գեղանի) أي الجميل و(pazmaveb-բազմավէպ)، بعد أن قاموا باستبعاد عشرة قصائد من المجلد لأنها كانت قصائد قومية بإمتياز، ولكن فيما بعد أعيدت هذه القصائد إلى المجلد وطبع المجلد كاملاً تحت عنوان (sarsurner-սարսուռներ).

تخرج من مدرسة (Raphael Mouradian) كمفكر ناضج، صاحب فكر مستقل، واتجه إلى جامعة غاند (Ghent university) في بلجيكا ليكمل دراساته العليا، فكانت مدينة (Ghent) هي المحطة الثانية المهمة في حياته، والتي أيضاً كان لها آثر كبير في كتاباته. مكث فيها أربعة سنوات حيث عمق معرفته في جميع مجالات الفن. فعُرف بانضباطه وحبه للمطالعة وبشكل خاص للأدب الأوروبي، حتى أنه أدهش جميع أساتذته في الجامعة من حيث حبه للمعرفة، ومع مرور الزمن أصبح فاروجان رمزاً يحتذى به ومصدر فخر للجامعة، لذلك قامت إدارة الجامعة بوضع نصب تذكاري لإحياء ذكراه.

خلال مراحل دراسته الجامعية كان أحد أعز أصدقائه الطبيب والكاتب والمفكر روبين سيفاك، وفي عام 1906 وفي سويسرا بالتحديد التقى بصيامانطو أحد كبار الشعراء الأرمن وأصبحا صديقين حميمين. انطلاقاً من هذه الصداقات وغيرها حاول وأراد فاروجان أن ينشئ جمعية للكتاب الأرمن تحت اسم (Asdeghadun-աստեղատուն) أي بيت النجوم. بعد إنهاء دراسته الجامعية، توجه أولاً إلى مدينة البندقية ومن ثمَّ عاد إلى مسقط رأسه قرية (Prknig-բրգնիկ) في مقاطعة (Sepastya-սեբասդեա) ليشغل منصب مدرس.

حياة فاروجان الفكرية والأدبية لم تتوقف هنا، فلقد كان مطلعاً على ما يحدث في أرمينيا الغربية وكيليكيا من انتهاكات واضهادات بحق شعبه، كل هذا كان له آثر كبير عليه، مما دفعه إلى إصدار مجاد ثانٍ متأثر وبشكل كبير بأحداث تلك الحقبة. صدر هذا المجلد في عام 1909 في مدينة القسطنطينية، تحت اسم (tseghi sirde-ցեղի սիրտը) أي قلب الأمة، وكان هذا العمل كتحد ضد ما يقوم به الأتراك، وخصوصاً أنه في السنة ذاتها قام أعضاء حزب الاتحاد والترقي بارتكاب أبشع المجازر في مدينة أضنا.

إن حياة فاروجان الجامعية والتي عاشها في أوروبا الشمالية، كان لها آثر في نشوء الديوان الثالث عام 1912 تحت عنوان (hetanos yerker-հեթանոս երգեր) أي أناشيد وثنية. وأتى ذلك نتيجة لاحتكاك وتعلق فاروجان بعادات وتقاليد وثقافة المدن التي مرى منها، فلكل مدينة رمز خاص في قلبه، فالقسطنطينية (إسطنبول) بالنسبة إليه ترمز إلى المآسي والكوارث التي حلت بالشعب الأرمني، ومدينة (Ghent) الأوروبية التي لا يوجد فيها أي تمييز عرقي أو عنصري، ولم يكن فيها انتهاك لحقوق الشعوب المضطهدة، إلا أن فاروجان وجد فيها ظلم اجتماعي وتمييز طبقي، أما مدينة البندقية فكانت ترمز بالنسبة له ذروة الفن وجماله.

ديوان أناشيد وثنية كان دليلاً على الفكر السليم والروح الحيوية التي امتلكها وامتاز بها فاروجان، والتي كانت ظاهرة بشكل واضح في صفحات المجلد. وهنا لابد لنا أن نذكر أنّ تاريخ الحضارات الوثنية القديمة التي عاد إليها كثير من المفكرين في ذلك العصر، كانت الملهمة لفاروجان لإنشاء ديوان أناشيد وثنية بالرغم من الحياة المتناقضة التي عاشها، فلقد عاش حياة مليئة بالقهر والضغوطات الدينية المتشددة من قبل الآباء المختاريين، ومن بعدها عاش والتمس الانفتاح والحرية في مدينة (Ghent)، فطريقة العيش هذه المتناقضة كان لها دور كبير أيضاً في نشوء هذا الديوان.

لعمله هذا غايات وأهداف عديدة، أهمها: إيصال تاريخ الأجداد للأجيال الجديدة. حث الشعب، من خلال تاريخ الأجداد، على إعادة إحياء فكرة العيش والإستمرارية. وإعادة تقييم الحياة على أنها هبة ثمينة معطاة للإنسانية.

ولكن الفكرة الأساسية لهذا الديوان تتمحور حول الحب، فيؤكد أن المرأة هي روح وجسد معاً، في حين أنّ كثيراً من الكتاب وبالأخص (Dante) أكدوا على أن المرأة هي نفس بدون جسد، موجودة ما بين السماء والأرض، ليأتي فاروجان ويضيف أنه بجانب هذا النفس هناك بعد مساوٍ له وهو البعد المادي والجسدي.

من خلال هذه الأعمال الثلاثة الخالدة أراد فاروجان أن يعيد ترميم القيم الإنسانية المفقودة والمنسية والتي رمز لها بالنور. وبالنسبة لفروجان علينا أن نُعد الإنسان لكي يكون سليماً وحراً وكاملاً لكي يستطيع أن يعيش في عالم مليء بالجمال والوفرة والتناسق.

“قلبي كأسٌ فارغ وأنا ذاهب لأملئهُ من نبع النور”: كلمات فاروجان هذه هي أكبر دليل على حياته التي كانت في صعود مستمر نحو نبع النور، حتى أن موته واستشهاده المأساوي لم يكن قادراً على قطع هذا الصعود الدائم.

فاروجان كان أحد أعلام أرمينيا الغربية وقد غدا إحدى القمم الفكرية الصعبة الوصول، وبفضل جرأته وقوة شخصيته استطاع في أعماله أن يهمل كل القيود المفروضة عليه.

يعتبر ديوان أناشيد وثنية عمل كلاسيكي، هذا العمل الذي عاد به فاروجان إلى حقبة ما قبل المسيح، لم يقدم لنا فاروجان ككاتب فقط، بل كفيلسوف على مستوى عالمي، وهذا نجده واضحاً في القصائد التي وردت في المجلد والتي كتبت بنمط فلسفة تحليلية.

إن أعمال فاروجان لمست في داخلها مواضيع عديدة ومهمة ويمكننا تقسيمها، بشكل عام، إلى المواضيع التالية:

قومي وطني، عشقي زجلي، شخصي، فلسفي تأملي، اجتماعي فكري.

والمصدر الأساسي لهذه المواضيع هو حياة فاروجان الشخصية، فقد ولد في هايك الكبرى، في قرية تدعى (Prknig-բրգնիք) في ولاية(Sepastya-սեբասդիա)، وبحسب المؤرخين المحللين فإن القرية (Prknig-բրգնիք) تعني (Pakradunik-բագրատունիք) وهي مقر سلالة  بقرادونيان (Pakradunian-բագրատունեան) الملكية. هذه القرية تمتاز بطبيعة خلابة وجميلة، وهنا لا نستطيع إنكار الدور البارز لهذه الطبيعة في تنمية موهبة مميزة قد ولدت بالأصل مع فاروجان، وهي موهبة تنظيم الشعر. هذا الآثر نجده واضحاً في آخر عمل قام بتحضيره تحت عنوان (hatsin yerke-հացին երգը) أي أنشودة خبز، والذي نشر عام 1921 أي بعد استشهاده. هذا العمل هو آخر أعمال فاروجان ومضمونه الأساسي هو اكتشاف دور التربة والأرض كتبع أساسي لكل الخيرات التي يمتع بها الإنسان. فبالنسبة لعلم الآلهة السماء أو الهواء ترمز إلى الذكورية والأرض أو التربة ترمز إلى الأنوثة، فرحم الأرض يصبح مثمراً بإلهامٍ من السماء فيولد الخبز. فما هو هذا المولود بالنسبة لفاروجان؟ هو الخير والوفرة، وهو ضرورة الحياة، وبفضله يتشكل الجسد لكي يتحد مع كيانه، وهذا الأخير مرتبط مع النور والنور مع الله. فيؤكد فاروجان أنّ كل ما هو في العالم إن كان ذو كيان أو لم يكن، مصدره النور. هذا التصور الميتافيزيقي كان منتشراً بكثرة في القرون الوسطى، حيث أنهم ربطوا كل شيء بالنور كوجود ميتافيزيقي، حتى أنهم قالوا إن الله مولودٌ من النور والنور مولودٌ من الله.

في الفلسفة الهندية القديمة النور هو أساس كل شيء. فاروجان كزميله (Siamanto) متأثر بالفلسفة الهندية وخاصةً بالمذهب الفيدي، فبالنسبة لتعاليم هذا المذهب ليس هناك موت ولا حياة فكل شيء يبدأ بالنور ويعود إلى النور، وبالنسبة لفاروجان الروح هو كيان النور، ومفتاح هذا الكيان هو بين يدي الشاعر. فالفلاح عندما يفلح الأرض بذلك يكون قد قام بفتح باب الكيان، أما الخبز فهو الرمز الوحيد الذي يحتوي على كل شيء: الأرض، الماء، الإنسان، النور والله. ومنه نستنتج أنّ أنشودة خبز هي أنشودة للكيان والنور.

لم يستطع فاروجان إنهاء آخر عمل لهُ مهداة للخمر مع أن مسودة العمل كانت جاهزة، هذا لم يمنع تقدم مسيرة حياته نحو الخلود، فعندما قادوه الطغيان والبرابرة إلى الموت قال جملته الشهيرة لزملائه الذين كانوا يتقاسمون معه نفس المصير، هذه الجملة هي التي أكملت مسيرته نحو الخلود:

“كونوا مطمئين، إني أرى مصير أمتي وأنا ذاهب إلى الموت”.

مع أنه كان في طريقه إلى الموت، إلا أنه كان صاحب نظرة إيجابية نحو المستقبل، فكان متأكداً بأن الظلم لن يستطيع إبادة الشعب الأرمني بكامله، واليوم وبعد مرور أكثر من مئة عام على أول وأبشع إبادة ارتكبت في القرن العشرين، نجد أن الأرمني موجود ومستمر، وقد أثبت وجوده أينما حلّ بأخلاقه وتصرفاته وإتقانه للمهن والعلوم والفن. هذه النظرة المستقبلية لفروجان كانت بمثابة تنبؤ لمصير شعبه، فهو لم يكن فقط كاتباً وشاعراً بل متنبئ لمصير ومستقبل أمته المشرق بالرغم من كل الصعوبات التي مرّ بها الشعب الأرمني. فنحن باقون وسنظل نتذكر ونطالب.

بقلم الأكليريكي كارو كلنجيان

Share This