أرمن الشتات.. من التمسك بالهوية إلى البحث عن جنسية

بعد مجازر عام 1915 وترحيل الأرمن من أراضيهم شرق الأناضول، إستقروا في عدد من الدول وشكلوا مجتمعات خاصة بهم، قبل أن يندمجوا في المجتمعات المضيفة ويصيروا مواطنين حاملين جنسيتها. يقدر عدد الأرمن في الشتات بنحو 8 ملايين يتركز أغلبهم في روسيا والولايات المتحدة وفرنسا وجورجيا ولبنان وسوريا. يُعامَلون في هذه الدول كمواطنين بالحقوق والواجبات، وفي بعضها يشاركون في الحياة السياسية ويحظون بتمثيل خاص بهم.

المجتمع الأرميني

يحافظ أرمن الشتات على ترابط اجتماعي ملحوظ. فقد أنشأوا مؤسساتهم ونواديهم منذ أن استقروا في الدول التي وصلوا إليها بعد عمليات الترحيل والتهجير والاضطهاد، وانتموا إلى الأحزاب الأرمينية التي أُسست للدفاع عن حقوق أجدادهم ضد الاضطهاد العثماني وأبرزها الطاشناك والهانشاك والرامغافار، وحرصوا على المشاركة في الحياة السياسية وصناعة القرار للحفاظ على حقوقهم كـ”جالية” تتمتع بالخصوصية.

تتحفظ د. نورا أريسيان، عضو مجلس الشعب في سوريا والمديرة السابقة لشعبة اللغة الأرمينية في المعهد العالي للغات في جامعة دمشق، على مصطلح الجالية. وأوضحت لـ”روسيا الآن” أنه لا يتوافق مع الحضور الأرميني في الوطن العربي والبلاد الغربية. أريسيان رأت أن عبارة “المجتمع الأرميني” تعبّر عن الشتات المتعايش مع المجتمعات الأخرى وقالت إن “الأرمن في سوريا على سبيل المثال هم مواطنون سوريون بنوا مجتمعهم بعد التهجير القسري الذي تعرض له أجدادهم وهناك عوامل عدة تساهم بالحفاظ على الثقافة والتراث، على رأسها الكنيسة الأرمينية والمدرسة والنوادي والجمعيات. إذ يمارس الأرمن طقوسهم الدينية والروحية باللغة الأرمنية ويرتادون الكنائس، وكذلك يحق للمدارس الخاصة الأرمينية تدريس اللغة الأرمينية، أما النوادي والجمعيات فتتبع لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل وتمارس نشاطاتها الثقافية والاجتماعية والخيرية في آن معاً. لذلك استطاع الأرمن على مدى قرن من الزمن المحافظة على لغتهم وتراثهم وتقاليدهم”.

هذا الترابط الاجتماعي والتمسك بالأصول دفعا البعض إلى اتهام الأرمن بالانغلاق والتكتل، وعلى هذا الاتهام ردّت أريسيان الحائزة على دكتوراه في التاريخ الحديث من أكاديمية العلوم الوطنية في أرمينيا، بالقول إن المعطيات التاريخية والوثائق تظهر أن الانغلاق كان سمة الأرمن في أولى مراحل استقرارهم في البلاد غير أنهم أسهموا تدريجياً في الحياة الاقتصادية والثقافية والصناعية. وقالت “لا يوجد في سوريا أحياء سكنية خاصة بالأرمن، إنما هناك أحياء قريبة من الكنائس سكن فيها الأرمن في عشرينيات القرن الماضي. وهم الآن مندمجون في المجتمع السوري ويعملون في مختلف القطاعات كالطب والهندسة والصناعة والتجارة.

عن أهمية الترابط الاجتماعي يقول مدير مشروع المكتبة الوطنية في لبنان جيرار خاتشاريان إن التربية البيتية والمدرسية تنمّي عند الأرمن حس الانتماء إلى “مجتمعهم” من دون الانعزال عن المجتمع الأوسع ويشدد على أهمية الحفاظ على اللغة وتناقلها من جيل إلى جيل بالقول إن “الأتراك اليوم لا يعلمون بالمجازر التي ارتكبها أجدادهم لأن لغتهم تغيرت والوثائق والكتب التي تؤرخ تلك المرحلة كُتبت بلغة مختلفة عن اللغة المتداولة اليوم”.

ويضيف خاتشاريان في حديث مع “روسيا الآن” أن المجتمع التركي لن ينضج ويتطور لأنه لم يقرأ كل تاريخه والجيل الجديد لا يعرف إلا ما يُسمح له بمعرفته عن ماضي السلطنة العثمانية، أما الأرمن ولا سيما أرمن الشتات فيحفظون لغتهم وفنونهم موسيقاهم ويتناقلونها من جيل إلى جيل لتكون صلة الوصل مع الوطن الأم”.

الوطن الأم

الحفاظ على صلة مع الوطن الأم مبدأ لم يتخلَّ عنه الأرمن منذ قرن من الزمن، وبعد عام 2007 صار ممكناً، بل مرغوباً، لأن البرلمان الأرميني أقر قانوناً يتيح منح الجنسية للراغبين فيها من أرمن الشتات، واللغة تمثل الركيزة الأساسية ليُسمح لهم بذلك. فالقانون يشترط أن يكون الفرد قادراً على “التعبير عن نفسه باللغة الارمينية للحصول على الجنسية ويًسمح له بالحفاظ على جنسيته الأخرى”، علماً أن القانون يشمل أيضا “الاشخاص المتزوجين بمواطنين ارمن، والاشخاص الذين أدوا خدمات خاصة لأرمينيا، وكل من يكون ارمنياً في الاصل”.

فيكين خريميان شاب أرمني – لبناني أراد الحصول على الجنسية الأرمينية “لأنها حلم يراودنا منذ الطفولة بسبب التربية التي نتلقاها”، هذا ما قاله لموقع “روسيا الآن”. وأضاف أن الوضع الاقتصادي السيء في لبنان والاضطرابات الأمنية التي تحصل من حين إلى آخر دفعته إلى التفكير بالهجرة مراراً وكان حصوله على الجنسية الأرمينية سبباً ليفكر بالهجرة إلى هناك، غير أن الأوضاع الاقتصادية سيئةٌ هناك أيضاً وفرص العمل نادرة والرواتب والأجور متدنية نسبياً وهذا ما دفعه إلى التريث قليلاً.

يصف فيكين زيارته الأولى إلى أرمينيا بالمريحة نفسياً. يقول “بعد أن قدمت الأوراق اللازمة لأحصل إلى جنسيتي كان عليّ السفر لاستلامها هناك. أُعجِبت بالبلد كثيراً واحترمت المواطنين الذين يعملون في مختلف المجالات وليس بينهم عمّال أجانب متروكون للعمل في ما يُعرف بالوظائف المحتقرة! عامل النظافة ومدبرة المنزل والعامل في محطة الوقود… كلهم مواطنون أرمن (…) الحياة تسير ببطء وليس فيها ضغوط”. يروي فيكين كيف تعرف إلى زوجته في أرمينيا وتواصل معها عبر الانترنت لتمتين العلاقة بينهما، وكيف بنى صداقات مع أبناء جيله الذين ولدوا وعاشوا في أرمينيا. كل هذا لأنه يريد الحفاظ على رابط مع ذلك المكان الذي حلم به طويلاً ورسمه في خياله قبل أن تسمح له الظروف بزيارته.

زيارة أرمينيا تشبه فريضة الحج بالنسبة للبعض بصرف النظر عن اهتمامه بالجنسية أو رغبته بالانتقال إلى هناك. جيرار خاتشاريان روى لموقعنا عن زيارته إلى أرمينيا ولم يستطع حبس دمعته وهو يسرد الأفكار التي راودته عندما رأى قمة جبل أرارات من شرفة الفندق. قال إنه تخيل القرى التي خلف هذا الجبل ومن بينها قرية “ساسون” مسقط رأس والده الذي وصل لبنان بعمر 9 سنوات، بعدما قُتل والداه في المجازر. تساءل جيرار ماذا حل ببيوت ساسون وبأهلها وكيف أصبح حالها اليوم، وقطع وعداً على نفسه بزيارتها إذا بقي حياً وبجعل أبنائه أو أحفاده يزورونها يوماً ما.

من ناحية أخرى، أبدى أرمن سوريا اهتماماً إستثنائياً بجنسية وطنهم الأصلي. “الإرهاب الذي ضرب سوريا كانت نتائجه سلبية جداً على كل السوريين، ومنهم الأرمن الذين تضررت معاملهم ومنشآتهم وبيوتهم في حلب” قالت نورا أريسيان. وأضافت أن معظمهم توجه الى لبنان وأرمينيا مؤقتاً، بالإضافة الى عدد قليل هاجر الى كندا”.

المشاركة في بناء مستقبل أرمينيا

في شباط فبراير الماضي، وجه رئيس حكومة أرمينيا كارين كارابيديان نداء إلى أرمن الشتات ونشر رسالته لهم في عدد من الصحف الأرمينية. الرسالة تدعو أرمن الشتات إلى “المشاركة في بناء مستقبل الوطن” في ظل إصلاحات سياسية واجتماعية داخلية تسعى الحكومة الحالية إلى إنجازها. وقال كارابيديان في رسالته “إننا ندعو الإداريين والفنانين والأدباء ورجال العلم والتربية في المهجر، ولا سيما أولئك المعروفون دولياً، للمشاركة في الإصلاحات الجارية في البلاد، وذلك قبل كل شيء، لجلب ثقافة إدارية جديدة وتسخير القدرات والإمكانيات لخدمة الأهداف العامة”.

هذه الرسالة تشير إلى أن الدولة الأرمينية تنظر إلى أرمن الشتات على أنهم جزء منها وبإمكانها الاستعانة بهم عند الحاجة وتَشي بأنها تحتاج إلى نوع من الدعم يرتكز على تبادل الخبرات وتسخيرها في خدمة المجتمع وتطويره، ومن أَولى بهذا الدور سوى المتحدرين من أصول أرمينية!

اليسار كرم

روسيا الآن

Share This