وإذا الأرمن سئلوا.. !

أزتاك العربي- كتب أحمد عباس في الأخبار المصرية عن فيلم (من قتل الأرمن) وبدأها بالكلمات التالية: “كأن قنواتٍ طويلةً من دماء بشريةٍ سائلة تجري من هنا بين مسارات الجبال، تحفر مسارًا جديدًا في المسارِ نفسهِ. مناجل الموت مُعلقة علي جذوع أشجار مُرتخِ طرحها من سادية الألم، جذورها نبتت من عروق بشر، غرستها أيادٍ مُجرمةٌ بين شقوق صخر خائفٍ، ولهاث مرتعد يطلب النجاة، وتضرعات خفية للإله تسأله الاحتماء.

لا أجراس لكنائس تُدَق، ولا أهازيج لقساوسةِ تُتلي، ولا ترانيم لنيافات تُرتل.. كل مراسم التعبد علي هذه الأرض خفية، الصليب هُنا نازح مهجر، ولاشيء يفوح سوي رائحة الموت.

هكذا جرت الأحداث هُنا على أرض أرمينيا قبل نحو المائة عام، كما يحكيها الصديق محمد حنفي بعدسته ورؤيته، وترويها الإعلامية الجميلة مريم زكي بصوتها، في فيلميهما التوثيقي: (مَن قتل الأرمن).. فلا يتساءل الفيلم فقط – كما أغلب الأعمال التي ناقشت الإخلاء القسري، والتهجير، والذبح، والقتل، والإبادة في أرمينيا، بل يجيب عنها أيضًا، من مصادرها القريبة، في ثلاثة بلدان جري التوثيق من أراضيها، هي أرمينيا القديمة، ومصر، ولبنان.

وللحق فإن ظني كان يتوقف كلما ذُكرت كلمات تشير إلي مضمون “الإبادة”، عند المحرقة الألمانية المزعومة لليهود علي يد هتلر، أو مذابح الفلسطينيين علي يد اليهود، أو حتي تلك الجرائم التي ارتُكبت بالبوسنة والهَرسك وانتهت في التسعينيات. لكن تفاصيل مذابح الأرمن علي يد الدولة العثمانية كانت أكثر دمويةً مما يمكن تصوره، فلا هي وقَّرت شيخًا، ولا أعفت شابا، ولا رحمت طفلًا، ولا حتي أعتقت امرأة.. كانت مُرتبة حق ترتيب، فبدأت بالكُتاب، والمثقفين، والعلماء، والفنانين، لتمحو هوية الأرمن من جذورها، فلا يبقي ذاكر واحد لتاريخ الأرض، أو لُغة أصحابها.
ولكن حتي وإن تبرأ الأتراك من المهزلة، وإن زيَّفوا أوراق التاريخ، فمن يجسر علي إنكار سادية، أو وحشية، ومن يجرؤ علي نكران سيرة أرواح لاتزال هائمة تسأل: »بأي ذنب قُتلت».. التبرؤ من الدماء هو وقاحة آثم لم ينو توبته، ومُجاهر يستهين بعِظم ذنبه.. أي خسة تلك التي تُسول لصاحبها تزوير الوقائع والأحداث!

وعلى هامش عرضٍ خاص للفيلم بجمعية الصداقة الأرمينية “هوسابير” بمصر الجديدة، قال لي أرمين مظلوميان، عضو لجنة الإبادة، إن الفيلم الذي كُرم من الرئيس الأرميني نفسه، يُعد بحد ذاته وثيقة إدانة للأتراك ضد الإنسانية، وإن الفيلم تضمن وثائق تخص المذابح نُشرت فيه للمرة الأولى.

خرجتُ من الفيلم أيضًا بأجوبة يلزم ذكرها، علي لسان الأرمن ذاتهم سردها مُخرجه موثقة علي ألسنة ورثة الضحايا.. أنه وإذا الأرمن سُئلوا سيقولون.. إن الدولة العثمانية الفاشية سفكتهم، واستهانت بدمائهم، وذبَحتهم تذبيحا، وإن مصر المتوهجة، المتنوعة المضيئة – وقتها – كانت ملجأً، وملاذً آمنًا لأجدادهم أثناء الإبادة، وأن بوارج الفرنسيين أنقذت ما تبقي من فلول أرمن ضائعين في الجبال، وأحالت أكثر من 4000 إلي مصر.. سيقولون أيضًا إن سماحة شيخ الأزهر الشريف وقتها سليم البشري – الذي أعرف نسل أحفاده إلي الآن – ساند قضيتهم، ونبذ كل قتل يحدث، ودعا العالم من تحت قُبته بالقاهرة إلي توقيف المذبحة.. أما عن السؤال الأكبر »بأي ذنب قُتلوا»، فيبقي تساؤلاً بلا إجابة إلي أن نقف جميعاً بين يدي إله واحد لن نملك أمامه حيلة، ولا كذباً ولا تضليلا.

 

Share This