التركي يرتد إلى طباع أسلافه

 

أدّى انسحاب أسطول الحلفاء من الدردنيل إلى عواقب لم يستوعبها العالم بشكل كامل حتى الآن. وكانت النتيجة العملية لهذا الحادث، هي عزل الإمبراطورية التركية عن العالم باستثناء ألمانيا والنمسا. إن إنكلترا وفرنسا وروسيا وايطاليا التي كانت لها اليد الكابحة على الإمبراطورية العثمانية خلال قرن من الزمن، فقدت في النهاية كل قوة للسيطرة والتأثير عليها.

أدرك الأتراك الآن أنه حدثت أحداث باهرة كثيرة غيّرتهم من تابعين خنوعين إلى شركاء أحرار للقوى الأوروبية. فأصبح بإمكانهم الآن ولأول مرة بعد قرنين من الزمن، أن يعيشوا حياتهم القومية حسب رغباتهم، وأن يحكموا شعوبهم بإرادتهم الخاصة. إن أول تعبير لتجديد الشباب في الحياة القومية، هو ذلك الحدث الذي -لعلمي- هو الأول في تاريخ العالم. تركيا الحديثة التي تحررت من الوصاية الأوروبية، احتفلت ببعثها القومي بقتل ما يقارب مليوناً من أتباعها.

لا يمكنني أن أبالغ بالنتائج التي ترتبت على الأتراك بانسحاب أسطول الحلفاء. ظنّ الأتراك أنهم حقاً ربحوا المعركة الفاصلة الكبيرة. قالوا: إن الأسطول البريطاني أبحر عدة قرون مظفراً في البحار، والآن ولأول مرة يُرَدُّ على أعقابه من قبلهم. في اللحظات الأولى لخيلائهم، رأى زعماء الأتراك الجدد طيف الانبعاث الكامل لإمبراطوريتهم. إن الأمة التي كانت تتفسّخ خلال قرنين من الزمن، بدأت الآن فجأة حياة جديدة متألقة بهية. في اللحظات الأولى لعجرفتهم، بدأ الأتراك ينظرون بازدراء إلى الأمم التي علمتهم فنون الحرب الحديثة، وما من شيء كان يستفزّهم أكثر من القول: إنهم مدينون بالشيء الكثير لحلفائهم الألمان في نجاحاتهم. “لماذا يجب أن نشعر بأننا ملزمون تجاه الألمان؟” كان يقول لي أنور باشا “حقاً إنهم أقرضونا بعض المال، وأرسلوا إلينا بعض الضباط، لكن انظر ما فعلناه نحن. إننا هزمنا الأسطول الإنكليزي، الذي لم يكن بمقدور الألمان أن يدحروه، ولم تستطع أمة أخرى أن تفعل ذلك. إننا وضعنا جيشاً كبيراً على جبهة القفقاس، وبذلك شغلنا قوات روسية كبيرة، يمكن استعمالها على الجبهة الغربية. كذلك أكرهنا الإنكليز على الاحتفاظ بجيوش كبيرة في مصر وفي بلاد ما بين النهرين، وبذلك أضعفنا قوات الحلفاء في فرنسا. لا لم يكن بمقدور الألمان أن يصلوا إلى نجاحاتهم العسكرية من دوننا”.

الإنسان التركي في الأساس مُتَنَمّرٌ وجبان. هو كالأسد عندما تسير الأمور على ما يشتهي، ولكنه خنوع وخسيس وواهن الأعصاب، عندما يتكالب أعداؤه ضده.

والآن عندما بدأت كفّة الحرب تميل على جانب الإمبراطورية العثمانية، بدأتُ أرى تركياً جديداً كلياً أمام ناظري. إن العثماني المتردد والخائف الذي كان يفتش له عن موطئ قدم بين السياسات المتضاربة للقوى الأوروبية، تبدّل إلى رجل منتصب القامة متغطرس، حازم وعازم على أن يعيش حياته الخاصة، يزدري أعداءه المسيحيين بكل ما في الكلمة من معنى. كنت شاهداً لعملية التغيير في علم نفس السلالات، وهذه كانت برهة كلاسيكية لظاهرة الرجوع إلى الجنس، إن تركي القرن العشرين المُهْمَل والأشعث، بدأ بالتلاشي، وبدأ يظهر مكانه تركي القرن الثالث عشر والرابع عشر، التركي الذي احتلّ كل الشعوب القوية في طريقه، وأسس في آسيا وإفريقيا وأوروبا إمبراطورية من الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ.

إذا أردنا أن نقيّم بحق طلعت وأنور والأحداث التي تجري الآن،  يجب أن نفهم جيداً التركي خليفة آل عثمان، وكيف استعملوا هذه القوة التدميرية الهائلة في أنحاء العالم. يجب علينا أن نفهم أولاً أن الحقيقة الأساسية في العقلية التركية هي الاحتقار المطلق لجميع العروق البشرية. إن الغرور المشوب بالخُبْلِ هو العنصر الذي يبيّن، بشكل شبه كامل، نفسية هذا الجنس البشري الغريب. إن العبارة الشائعة والاعتيادية التي يستعملها التركي للمسيحيين هو “كلب” وفي ظنه أن هذا التعبير غير مُبالغ فيه. إنه ينظر إلى جيرانه الأوروبيين، على أنهم أقل قيمة من حيواناته الأهلية. “يا ولدي” قال مرة أحد الآباء الأترك “هل ترى ذلك القطيع من الخنازير؟ بعضهم أبيض وبعضهم أسود، بعضهم صغير، وبعضهم كبير، إنهم يختلفون عن بعضهم بعضاً في بعض الأمور، ولكن كلهم خنازير، هذا هو الوضع أيضاً مع المسيحيين. لا تنخدع يا بني، إن هؤلاء المسيحيين، يلبسون الثياب الجميلة، ويمكن أن تكون نساؤهم جميلات، وبشراتهنّ بيضاء وملساء. إن أكثر هؤلاء أذكياء يبنون المدن الجميلة، ويؤسسون دولاً عظيمة، ولكن تذكّر أن تحت هذا الظاهر المُبْهِر تكمن حقيقة واحدة وهي أنهم خنازير”.

عملياً يعلم جميع الأجانب علم اليقين هذه المعاملة. يمكن للتركي أن يكون متأدباً لدرجة التذلل، ولكنَّ هناك شعوراً ثابتاً في لا وعيه، بأنه متأخر فكرياً عن صديقه المسيحي الذي يعتبره شيئاً غير نظيف. هذا الايمان الراسخ، هو الذي وجّه السياسة العثمانية لقرون عديدة تجاه الشعوب المحتلّة. هذه الجماعة المتوحشة التي اندفعت كالزوبعة من سهوب آسيا الوسطى، سحقت شعوب بلاد ما بين النهرين وآسيا الصغرى، واحتلت مصر والجزيرة العربية، أي عملياً كل شمال إفريقيا، ثم تدفقت داخل أوروبا ودمرت شعوب البلقان واحتلت القسم الأعظم من المجر وبنت قواعد أمامية للقوات الامبراطورية في القسم الجنوبي من روسيا.

اكتَشفتُ الآن أن الأتراك العثمانيين كانت لهم ميزة واحدة كبيرة فقط وهي نزعتهم العسكرية. كان بينهم في الماضي زعماء عسكريون كثيرون، يمتازون بالقدرات القيادية العالية. كان المحتلون الأتراك القديمون شجعاناً ومتعصبين ومقاتلين عنيدين، كما هم أحفادهم الآن. أعتقد أن هؤلاء الأتراك الأقدمين، يقدمون أكمل وصف عن قطاع الطرق في التاريخ. إنهم يفتقرون إلى ما نسميه نحن أساسات المجتمع المتحضّر. لم تكن لهم أبجدية، ولا فنُّ كتابة، ولا كتب، ولا شعراء، ولا عمارة. لم يشيدوا قط مدناً، ولم يؤسسوا دولة ثابتة. لم يعرفوا القوانين عدا حكم القوة. عملياً لم تكن لديهم زراعة، ولا مؤسسات صناعية، وكانوا ببساطة فرساناً متوحشين وغزاة، والمفهوم الأساسي لنجاح القبيلة عندهم، هو الانقضاض على الشعوب التي كانت أكثر حضارة منهم وسلبهم. في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، اكتسحت هذه القبائل مهد الحضارات التي أعطت لأوروبا ديانتها، وإلى حدٍّ كبير حضارتها. في تلك الأزمنة كانت هذه الأقاليم حواضر شعوب كثيرة مسالمة وغنيّة.

كان وادي ما بين النهرين يُعيلُ سكاناً كثيرين زراعياً وصناعياً وكانت بغداد من أكبر المدن وأكثرها ازدهاراً في الوجود، وكانت القسطنطينية أكثر سكاناً من روما ومنطقة البلقان وآسيا الصغرى، كانت فيها عدة دول قوية. اجتاح الأتراك كل هذه المنطقة من العالم كقوة تدميرية هائلة، وأصبحت بلاد مابين النهرين صحراء قاحلة خلال سنين معدودة[1]، وأصاب مدن الشرق الأوسط البؤس وأصبح سكان هذه المناطق التابعة لهم عبيداً. هذه النعم الحضارية التي حصل عليها الأتراك خلال خمسة قرون، أخذت كلها من الشعوب التابعة لهم. تأتي ديانة التركي من العرب، لغته أصبحت لها قيمة أدبية بعد استعاراته الكثيرة من اللغة العربية والفارسية، أما أحرفه الكتابية فهي عربية[2]. إن أجمل أثر هندسي لمدينة القسطنطينية هو جامع آيا صوفيا، الذي كان في الأصل كنيسة بيزنطية مسيحية، وما يسمى الآن “الهندسة التركية” اشتُقّ أكثرها من البيزنطية[3]. وإن آلية التجارة والصناعة كانت دائماً في يد الشعوب التابعة لها كالأرمن واليونانيين واليهود والعرب. تعلّم الأتراك القليل من الفن والعلم الأوروبيين، وأنشؤوا العدد القليل من المعاهد التعليمية، ولذلك كانت الأمية سائدة. كانت النتيجة أن الفقر أخذ أبعاداً كبيرة، ليس له مثيل ومواز في أمكنة أخرى. إن الفلاح التركي يعيش في كوخ من الطين، وينام على أرضية قذرة، ولا يملك الكراسي، ولا آنية الأكل، ولا الملبس غير عدد قليل يكسو به ظهره يرتديه لسنوات عديدة.

كان بإمكانهم خلال هذه المدة كلها أن يتعلموا بعض الأشياء من جيرانهم الأوروبيين والعرب. لكن هناك فكرة واحدة لم يقدروا أن يدركوها ولو بشكل بسيط. لم يكن بمقدورهم أن يفهموا أن الشعوب المحتلّة هي كل شيء ما عدا العبيد.

عندما احتلوا الأرض، رأوا أنها مسكونة بأعداد وفيرة من الجمال والأحصنة والجواميس والكلاب والخنازير والبشر. عدّوا الإنسان أقل قيمة بين كل هذه الأحياء. من الأقوال الشائعة عندهم أن الحصان أو الجمل أغلى بكثير من الإنسان. هذه الحيوانات تكلف مالاً، بينما “الكفار المسيحيون” متوافرون في البلدان العثمانية، ويمكن أن يجبروا على العمل. في الحقيقة أعطى السلاطين الأوائل الشعوب الخاضعة في الإمبراطورية بعض الحقوق، ولكن هذه الحقوق في الواقع كانت تعكس جو الازدراء الذي كان يعيش فيه غير الأتراك.

كنت وصفت سابقاً “وثيقة الامتيازات الأجنبية” وكيف أمكن للأجانب في تركيا بموجبها أن يحصلوا على محاكمهم الخاصة وسجونهم وبريدهم ومنشآت أخرى. على الرغم من ذلك لم يعط السلاطين الأوائل هذه الامتيازات بسبب روح التسامح، بل نظروا إلى الشعوب المسيحية على أنها نجسة، ولذلك غير مؤهلة للاحتكاك مع النظام الإداري والقضائي العثماني. نظّم السلاطين بشكل مماثل الشعوب العديدة، كالأرمن واليونانيين إلى (مِلل) أو قوميات منفصلة لا لتعزيز حريتهم ورفاههم، بل اعتبروهم طفيليات غير مؤهلة، لتكون رعايا الدولة العثمانية. إن موقف الحكومة تجاه رعاياها المسيحيين، كان يُوَضِّح ببعض التعليمات التي كانت في الواقع تحدّ من حريتهم. يجب ألا تكون الأبنية التي يسكنها المسيحيون بارزة، ويمنع على الكنائس أن تقرع الاجراس. يجب على المسيحي، ألا يركب على الحصان في المدينة، لأن ذلك من الحقوق المقصورة على النبيل التركي. كان يحق للتركي أن يجرّب حدة سيفه على رقبة أي مسيحي[4].

تصوروا حكومة كبيرة يكون موقفها بهذه الصورة تجاه أتباعها ولسنوات عديدة. عاش الأتراك كالطفيليات لقرون عديدة على الشعوب الصناعية المتحضرة. جبوا الضرائب الباهظة إلى حد الدمار. سرقوا أجمل بناتهم وأجبِرْنَ على الدخول إلى الحرملك. أخذوا صبيان المسيحيين بمئات الآلاف وربوهم كجنود أتراك. ليست غايتي هنا أن أصف بالتفصيل العبودية والظلم العظيمين اللذين داما خمسة قرون، بل هدفي التأكيد فقط على المعاملة الفطرية المتأصلة في الأتراك تجاه الشعوب، التي ليست من عرقها ولا من دينها. في رأيهم، هذه الشعوب ليست من بني البشر في حقوقها؛ بل هي دواب فقط، يمكن السماح لها بالعيش حينما تلبي اهتمامات أسيادها، وحينما لا يكونون ذوي نفع، يجب أن يدمّروا من دون شفقة. هذا الموقف اشتد سوءاً مع الزمن، وذلك بسبب الاستخفاف الكامل بحياة الإنسان. كان الأتراك يشعرون بالبهجة الكبيرة عند إنزال المآسي البدنية بأتباعهم، وهذه ليست حتى من شيم الشعوب البدائية.

هكذا كانت الصفات الذهنية للتركي أيام عظمته العسكرية. تبدّل موقفه بشكل سطحي تجاه الأغراب والشعوب المحكومة في هذه الأيام. إن انحداره العسكري والسهولة التي انهزمت بها جيوشه الممتازة من الشعوب “الكافرة” أعطت خلفاء عثمان المتعجرفين في الظاهر بعض الاحترام لهم ولبسالتهم. إن الاختفاء السريع لإمبراطوريته خلال مئة عام، وإحداث دول جديدة خارج الإمبراطورية العثمانية، كاليونان وبلاد الصرب وبلغاريا ورومانيا والتقدم المدهش الذي تبع ذلك بعد تحطم العبودية التركية في هذه البلاد الذي داهمها الليل الداكن، كل هذا زاد الحقد التركي على “الكافر”. تركت هذه الأحداث الكبيرة في النهاية بعض الأثر في إزالة الغشاوة عن أهميته المزعومة.

بدأ أتراك عديدون الآن يتلقون العلم في الجامعات الأوروبية، ويدرسون في المعاهد المهنية، ويتخرجون أطباء وجراحين وقضاة ومهندسين وكيميائيين بالمعنى الحديث. مع كل هذا، يمكن لبعض الأتراك أن يزدروا زملاءهم المسيحيين، لكن ليس بإمكانهم، أن يتجاهلوا أن أسمى الأشياء في هذا العالم الزائل على الأقل هي نتاج الحضارتين الأوروبية والأميركية. الآن وقد بَدَتْ التغييرات في التاريخ الحديث مفهومة بشكل أقل للتركي العادي، بدأت هذه التغييرات تفرض نفسها على وعي الذين كانوا أكثر ذكاء وتقدمية.

ظهر إلى الوجود بعض الزعماء، وبدؤوا يتكلمون خلسة عن بعض الشعارات مثل “نظام الحكم الدستوري”، و “الحرية” و “الحكم الذاتي”. بدأ هؤلاء الأشخاص الجريئون، يحلمون بقلب السلطان المستبد وإحلال النظام البرلماني بدلاً منه، لأنه غير قادر على تحمل المسؤولية. وصفت سابقاً في مكان آخر عن صعود وسقوط “تركيا الفتاة” بقيادة طلعت وأنور وجمال ومساعديهم في لجنة الاتحاد والترقي. النقطة التي أريد التأكيد عليها هنا، هي أن هذه الحركة، قررت ضمناً أن تُغيِّر تغييراً تاماً العقلية التركية، وخاصة موقفهم من الشعوب التابعة لهم. لن يُعتبَر اليونانيون والسوريون والأرمن واليهود “كفاراً قذرين” في ظل الدولة التركية الإصلاحية بعد الآن. سيكون لكل هذه الشعوب الحقوق و الواجبات نفسها بعد بناء النظام الجديد. تَبِعَ هذا الإعلان جوّ غريب من المحبة ومشاهد الاهتياج الشديد، حينما قبّل الأرمن والأتراك بعضهم بعضاً علناً إشارة إلى الاتحاد المطلق بين الشعوب المتخاصمة.

زار زعماء الأتراك ومنهم طلعت وأنور الكنائس المسيحية، وأقاموا صلوات الشكر للنظام الجديد، وذهبوا إلى المدافن الأرمنية لذرف الدموع الغزيرة احتراماً لشهداء الأرمن الذين دفنوا هناك. ورداً على ذلك قدم رجال الدين الأرمن إجلالهم للأتراك في الجوامع. زار أنور باشا المدارس الأرمنية العديدة قائلاً للأطفال: إن أيام النزاع بين المسلمين والمسيحيين ذهبت وإلى الأبد، وعلى الشعبين الآن أن يعيشا على المحبة. ابتسم بعض الساخرين من هذه التظاهرات، ولكنَّ تبدّلاً واحداً شجّع هؤلاء، ليؤمنوا أن جنة أرضية، قد فتحت لهم.

 خلال مدة الاحتلال كلها، كان يسمح للتركي السيد فقط أن يحمل السلاح، ويخدم في الجيش العثماني. إن مهنة الجندي كانت مهنة رجولية مجيدة. شجع الأتراك الآن كل المسيحيين لحمل السلاح، وأشركوهم في الجيش على قدم المساواة مع الأتراك. خاض هؤلاء المسيحيون المعارك العديدة كضباط وجنود في حروب إيطاليا والبلقان، ونالوا الثناءات الكبيرة من جنرالات الأتراك لبسالتهم وحذقهم.

مُثِّل زعماء الأرمن بشكل جلي في حركة (تركيا الفتاة). كان هؤلاء الرجال، يؤمنون أن إيجاد دولة تركية دستورية أمر ممكن. كانوا واعين إلى تفوقهم العقلي والصناعي بالمقارنة مع الأتراك. كانوا يعلمون أيضاً أنه يمكنهم أن يغتنموا، إذا تُركتْ الدولة العثمانية لشأنها، من دون التدخل الخارجي، بينما سيصطدمون بمنافسة المستعمرين الأوروبيين في حال دخولهم البلاد.

مع خلع السلطان الأحمر عبد الحميد ومع بناء النظام الدستوري الجديد شعر الأرمن الآن وللمرة الأولى خلال قرون عديدة أنهم رجال أحرار. لكن اختفت هذه التطلعات واختفت الديمقراطية التركية كالحلم قبل مدة طويلة من الحرب الأوروبية. زالت سلطة السلطان الجديد، وذهبت الآمال لبعث تركيا بالطرق الحديثة أيضاً أدراج الرياح، وبقيت فقط شرذمة من الأشخاص، تملك بالفعل زمام السلطة بقيادة طلعت وأنور.

بعد أن أضاع هؤلاء الرجال تطلعاتهم الديمقراطية، أحلّوا الآن بالقوة تصوراً قومياً جديداً. بعثوا من جديد فكرة البانتوركية Panturkism  بدلاً من الدولة الديمقراطية الدستورية. قرروا بناء دولة للأتراك على وجه الحصر، بدلاً من المعاملة المتساوية بين جميع الأمم العثمانية. سُميت البانتوركية “الفكرة” أو “التصور الجديد” لكن كانت هذه رؤية، وهدفاً جديداً لهؤلاء المسيطرين على قدر الإمبراطورية. في الحقيقة كانت هذه محاولة بسيطة منهم لإحياء أفكار أسلافهم البربرية. هذا الإحياء تَمَثَّلَ في الرجوع إلى صفات الأسلاف أي صفات التركي الأصيل.

حينما يتكلم الزعماء الأتراك عن الحرية والمساواة والإخاء والدستورية، يشبهون الأطفال الذين يرددون الشعارات، ولكنهم في الواقع، يستعملون كلمة الديمقراطية كسلّمٍ، ليتسلقوا بها إلى السلطة.

بقي التركي الإنسان نفسه الذي خرج من سهوب آسيا في القرون الوسطى، بعد خمسمئة عام من الاحتكاك القريب بالحضارة الأوروبية. كان يتشبّث كأسلافه بدبق ولزوجة بفكرة استعباد وسلب وسوء معاملة الشعوب المقهورة عسكرياً. تلبَّسَتْ الأفكار الأساسية نفسها للسيد والعبد كلاً من طلعت وأنور وجمال رغم أنهم جميعاً، كانوا من عائلات متواضعة. كانت هذه المعاملة حجر الأساس في نظام حكم السلاطين الأوائل. هكذا بقي الدستور حبراً على ورق، وحتى الزيارات للكنائس والمدافن بعيون دامعة، لا يمكنها أن تجتث وتستأصل الشعور الفطري والموروث في هذه القبيلة البدائية، بأن هناك نوعين من البشر غالباً ومغلوباً.

عندما ألغَتْ الحكومة التركية “وثيقة الامتيازات الأجنبية” وحررت نفسها من هيمنة القوى الأجنبية، كانت تتقدم في الواقع خطوة واحدة إلى الأمام في تنفيذ فكرة البانتوركية.

أشرت سابقاً إلى الصعاب التي واجهتُها، وأنا أبحث معهم عن موضوع المدارس المسيحية. إن تصميمهم على اجتثاثها، هي صورة أخرى من شيمهم وميزتهم العرقية المتأخرة. حاولوا بشكل مماثل ادخال العمال الأتراك في المصالح التجارية الأجنبية ملحين أن عليهم طرد الموظفين والعمال والمختزلين اليونانيين والأرمن واليهود.

الصرب هي الدولة الوحيدة التي أخذت استقلالها بنفسها من بين كل الملكيات التي انسلخت عن حكم السلطان. دعونا نتذكر هذا كشرف أبدي لها. إن روسيا وفرنسا وبريطانيا العظمى حررت كل بقية الدول. لذلك فإن الشيء الذي حدث مرات عديدة قبلاً، يمكن أن يحدث من جديد.

       ما زال هناك عرق متضامن له طموحات وطاقات قومية كامنة في الإمبراطورية العثمانية. في الجهة الشمالية الشرقية من آسيا الصغرى، وعلى حدود روسيا، توجد ست مقاطعات يشكل فيها الأرمن أكبر نسبة من السكان منذ أيام المؤرخ اليوناني هيرودوت. هذا القسم من آسيا، يحمل اسم أرمينيا. الأرمن الآن هم السلالة المتعاقبة مباشرة لأناس سكنوا البلاد منذ ثلاثة آلاف سنة وأكثر. أصلهم قديم موغل في القدم، ولذلك يضيع تاريخهم في خرافات وفي ألغاز عديدة. ما زالت الكتابات المسمارية حتى الآن غير مقروءة على التلال الصخرية، في وان أكبر المدن الأرمنية[5]. يتفق علماء السلالات -مع العلم أنهم ليسوا عديدين- أن هناك تطابقاً بين العرق الأرمني وحثيي الكتاب المقدس. إن الشيء الأكيد والمعروف عن الأرمن مع ذلك، أنهم كانوا على مدى عصور طويلة العرق الأكثر حضارة والأقوى صناعة في القسم الشرقي من الإمبراطورية العثمانية. نزلوا من جبالهم وانتشروا في السلطنة، وشكلوا العنصر الفعّال المهم بين سكان جميع المدن الكبيرة. كانوا معروفين بصناعاتهم وحياتهم المنظمة والمهذبة في كل مكان. كان مستوى ذكائهم وأخلاقهم أعلى من الأتراك ولذلك تحولت أكثر التجارة والصناعة إلى أيديهم.

يشكل الأرمن مع اليونانيين العمود الفقري للقوة الاقتصادية للإمبراطورية. اعتنق الأرمن الديانة المسيحية في أوائل القرن الرابع[6]، وأسسوا كنيستهم على أساس دين الدولة. يقال: إن هذه الكنيسة هي الأقدم بين الكنائس في العالم. تمسّك هؤلاء الناس بإيمانهم المسيحي بعناد كبير أمام الاضطهادات التي ليست لها مثيل في مكان آخر. عاشوا مدة ألف وخمسمئة سنة هناك في أرمينيا في جزيرة محاطة بالشعوب المتأخرة البدائية والمعادية. وجودهم المديد في المنطقة، سبَّب لهم سلسلة طويلة من الاستشهاد.

خلال كل هذه المدة لم يعتبر الأرمن أنفسهم آسيويين بل أوروبيون. إنهم يتكلمون لغة هند-أوروبية، وأصلهم العرقي هو آري حسب رأي العلماء. ولكون دينهم هو دين أوروبا، ما جعلهم دائماً يلتفتون بعيونهم نحو الغرب. كانوا يأملون دائماً، أنه سيأتي اليوم الذي ستحررهم تلك الدول الغربية من أسيادهم المجرمين.

في عام 1876 قيّم السلطان عبد الحميد حكمه، فرأى أن أخطر نقطة فيه هي أرمينيا. كان يعتقد، عن حق أو باطل، أن هؤلاء الأرمن مثل الرومانيين والصرب، يطمحون إلى إعادة بناء أمتهم المستقلة. كان يعلم أيضاً أن أوروبا وأمريكا تتعاطف مع هذه الطموحات. كانت معاهدة برلين التي أنهت الحرب التركية- الروسية بشكل نهائي، تحتوي على بندٍ يعطي الدول العظمى الحق بمدّ يد الحماية للأرمن. كيف يمكن للسلطان أن يتخلص من هذا الخطر؟ إن إدارة مستنيرة، في رأيي، بإمكانها أن تجعل الأرمن أناساً أحراراً، وتؤمن على حياتهم وأملاكهم وحقوقهم المدنية والدينية، وإن تحولهم إلى مواطنين مسالمين ومخلصين. لكن لم يرتقِ السلطان إلى هذا المستوى من الإدراك في فن إدارة شؤون الدولة. بدلاً من ذلك فكر عبد الحميد في الظاهر، أن هناك طريقاً واحداً فقط لتتخلص تركيا من المسألة الأرمنية، وهو تجنيبها من الأرمن. إن الإفناء البدني لمليونين من الرجال والنساء والأطفال بالمذابح بتنظيم الدولة وتوجيهها، تبدو الطريقة الوحيدة والأكيدة لتجنيب الامبراطورية من التمزق. أعطت تركيا مثلاً موضّحاً للحكم عن طريق المذابح لمدة ثلاثين سنة تقريباً. سمعنا عن هذه الحوادث في أوروبا وأمريكا، عندما وصلت إلى حد البشاعة والوحشية، كما حدث مثلاً بين 1895-1896 حينما سيق /200/ ألف منهم تقريباً إلى الموت الشنيع. كان حياة ووجود الأرمن كابوساً مستمراً خلال كل هذه السنين. أموالهم سرقت، رجالهم قتلوا، نساؤهم اغتصبن، بناتهم اختطفن، وأجبرن على العيش في الحرملك التركي. لم يقدر عبد الحميد مع ذلك أن ينجز كل ما كان يخطط، ولو كان بوسعه لذبح الأمة الأرمنية بالكامل في طقس عربيد واحد. حاول أن يبيد الأرمن بين 1895-1897 لكن صادفت خططه بعض العوائق غير المُذلّلة. كان العائق الرئيس الدول العظمى.

هذه الفظاعات أرجعت غلادستون -وكان في السادسة والثمانين من عمره- من تقاعده واتهم في خطاباته العديدة السلطان أنه “المجرم الأكبر”[7] وأثار أمام العالم كل الجرائم المنكرة التي تحدث. بدا لوهلة، أنه مالم يكفّ السلطان عن أفعاله، فإن إنكلترا وفرنسا وروسيا سوف تتدخل. كان السلطان يعلم جيداً أنه في حال حدوث التدخل، فإن الباقي من الأرض التركية، ستتقطّع، وتختفي من الوجود. لذلك تخلّى عبد الحميد مؤقتاً عن مغامراته الشيطانية لتدمير عرق بأكمله عن طريق القتل. استمرت أرمينيا مع ذلك تتحمل سكرات الموت البطيء، بسبب الاستمرار في الاضطهادات الوحشية. لم يمضِ بعدها يوم واحد في الولايات الأرمنية من دون اعتداءات وقتل.

جدول بالمستعمرات اليهودية التي أقيمت في فلسطين في فترة حكم السلطان عبد الحميد والاتحاديين

اللواء القضاء اسم المستعمرات تاريخ إنشائها عدد اليهود المؤسسين
 

الجليل

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حيفا

صفد

 

 

 

 

 

الناصرة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حيفا

روشبينا

يسود همعلة

مشمار هايردن

المطلة

كفر جلعادي

إيلت هاشعرة

كفر طابور

مرحافيا

يفتيل

منحاميا

سجرة

بيت غن

كيوث

متصبة

دجانيا

مجموعة كزت

زخرون يعقوب

باب سلومو

الحضيرة

عتليت

كركور

غن شموئيل

1882

1883

1890

1896

1916

1918

1901

1911

1901

1902

1902

1904

1908

1908

1909

1909

1882

1889

1890

1903

1913

1913

340

250

130

220

850

520

230

590

375

230

260

170

220

90

290

460

1510

90

7500

160

900

310

إن نظام (تركيا الفتاة) رغم وعوده بالأخوّة العالمية، لم يعطِ الأرمن مهلة راحة، بعد أشهر قليلة من “حفلات المحبة” التي وصفتها سابقاً جرت مذبحة من أشد المذابح هولاً في مدينة أضنة Adana، حيث قتل /35/ ألف أرمني.

تبنّى الأتراك الشباب الآن كثيراً من أفكار عبد الحميد، وجعلوا من المسألة الأرمنية سياسة خاصة بهم. إن شغفهم وولعهم لتتريك الأمة، كان لا بد أن يكون منطقياً بإبادة اليونانيين والسوريين والأرمن. كانوا معجبين بالقادة الأتراك في القرنين الخامس والسادس عشر ولكنهم آمنوا بغباوة أن أولئك المحاربين العظام أخطؤوا خطأ مميتاً لعدم إبادة السكان المسيحيين بشكل كامل، عندما كان ذلك ضمن إمكانياتهم المتاحة. هذه السياسة برأيهم كانت خطأ فظيعاً في فن إدارة شؤون الدولة. لو كان رؤساء القبائل الأتراك الذين احتلوا بلغاريا قتلوا كل البلغار بسيوفهم وأسكنوا الأتراك في تلك البلاد، لما وجَدتْ المسألة البلغارية الحديثة، ولا فقدت تركيا هذا القسم من امبراطوريتها. وبشكل مماثل، لو كانوا قد قضوا على الرومانيين والصرب واليونان، لبقيت هذه المقاطعات التي تشغلها هذه العروق أجزاء متمّمة لحكم السلطان. شعروا أن الخطأ كان كبيراً، ولكن ما زال بإمكانهم تخليص شيء من هذا الدمار. سينقضّون على كل اليونانيين والأرمن والسوريين وباقي المسيحيين، وينقلون عائلات تركية إلى بيوتهم ومزارعهم، وبذلك يتأكدون أن هذه الأقاليم، لن تسلب من تركيا بشكل مماثل. لإنجاح هذا الإصلاح الكبير، لا يحتاج الأمر إلا إلى إبادة كل مسيحي حيّ. سيحفظون أجمل بنات الأرمن المتمتعات بالصحة التامة، وسيغتصبونهن ويجبرونهن على ترك دينهن وإيمانهن، ولتحوّلن بعد ذلك إلى زوجات ومخطيات لرجال الأتراك. سيتَّرك أطفالهن بشكل آلي لرفع قدرة الإمبراطورية، كما كان الحال مع الانكشارية سابقاً. كانت المرأة الأرمنية تمثّل النموذج الأمثل للأنوثة، والأتراك بطبعهم وحدسهم الفج، لاحظوا أن مزج دمهم بدم السكان الأرمن، سيؤدي إلى تحسين نسل الجميع. ثم سيرسل الصبية إلى العائلات التركية ويربون هناك في جهالة عن حقيقة أصلهم. كانت هذه هي العناصر تقريباً التي قدمت اسهامات قيّمة لتركيا الحديثة التي يخطط لها الأتراك. يجب أخذ الحيطة أيضاً من نشوء جيل أرمني جديد، لذلك فمن الضروري قتل كل الرجال الذين هم في ريعان شبابهم من دون رحمة ولا تحفظ. إن النساء والرجال المسنين لا يشكلون خطراً كبيراً لتركيا المستقبل، لأنهم أتمّوا بالفعل عملهم الطبيعي، وذلك بترك ذرية لهم. لكنهم مزعجون ولذلك يجب التخلص منهم.

وجد الأتراك الشباب Jeunes Turcs  بخلاف عبد الحميد أنفسهم في وضع مناسب، يمكنهم أن يستمروا بهذه المغامرة الطائشة. وقفت بريطانيا وروسيا وفرنسا على درب سلفهم عبد الحميد، لكن أزيلت هذه العوائق الآن. ظنوا، كما قلت سابقاً، أنهم انتصروا على هذه الأمم، ولذلك أن تتدخل في أمورهم الداخلية من الآن فصاعداً. كانت هناك قوة واحدة فقط، يمكنها أن تعترض بنجاح… ألمانيا.

في عام 1898 عندما كانت أوروبا كلها تقرع ناقوس الخطر ضد الأتراك بعد اتهامات غلادستون ويطلبون التدخل، ذهب القيصر “ولهلم” إلى القسطنطينية وزار عبد الحميد، وشبك أرفع الأوسمة على صدر الطاغية الدموي وقبّله على وجنتيه. إن القيصر الذي فعل هذا في عام 1898 كان لا يزال جالساً على العرش عام 1915، وهو الآن حليف تركيا. هكذا وللمرة الأولى خلال قرنين من الزمن بقي السكان المسيحيون الآن تحت رحمة الأتراك تماماً.

أخيراً جاء الوقت المناسب لجعل تركيا بلاد الأتراك على وجه الحصر.

* المصدر: كتاب “شهادات غربية عن الإبادة الارمنية في الإمبراطورية العثمانية” إعداد ومراجعة ودراسة: البروفيسور-الدكتور آرشاك بولاديان، دمشق – 2016 ، وثائق تاريخية عن الإبادة الأرمنية في الإمبراطورية العثمانيةـ قــتــل أمــة، مذكرات، هِنري مورغنتاو، السفير الأمريكي في تركيا بين (1913-1916) عن المذابح الأرمنية في تركيا، ترجمة: الدكتور الكسندر كشيشيان، حلب – 1991، الفصل الأول.

1- قول مأثور لفيكتور هوجو “من هنا مرّ الأتراك” _ (المترجم).

2-  غير كمال أتاتورك الأبجدية العربية بالأحرف اللاتينية لكي يمحو كل شيء يذكره بالعرب – (المترجم).

3-  بنيت أكثر الأوابد الجميلة العثمانية على يد الأرمن واليونان. إن سنان المعمار الأرمني وعائلة باليان كانوا مهندسي الإمبراطورية لمدة  /300/ سنة –(المترجم).

4-  مارس الأتراك هذا الحق لأول مرة على الهنود (انظر “قصة الحضارة” لويل ديورانت) – (المترجم).

5-  كانت عاصمة مملكة أورارتو الأرمنية قبل حوالي أربعة آلاف سنة – (المترجم).

6-  سنة 301م كأول دولة تعتنق الدين المسيحي – (المترجم).

7- بعض أساتذة التاريخ العرب يحاولون أن يتستروا أو يتجاهلوا الحقيقة الأساسية أنه سُمح ببناء (23) مستوطنة يهودية في فلسطين أيام حكمه وحكم الاتحاد والترقي بين 1882_1913. والكلام الذي قاله السلطان عبد الحميد لتيودور هرتزل إنه لن يتخلى عن شبر واحد من أرض فلسطين كان ستاراً فقط. أقدم لكم لاحقاً جدولاً كاملاً للمستعمرات – (المترجم).

Share This