قتل أمَّة

كانت هناك بعض المصاعب لتنفيذ المذابح الأرمنية عام 1915. لم تكن هناك معوّقات كبيرة لعملية الإبادة التركية (1895-1896) والأعوام الأخرى الطويلة التي سبقتها، لم يملك الأرمن سوى وسائل بسيطة للدفاع عن النفس. فلم يكن مسموحاً للأرمن، في تلك الأيام، بالتدريب على الأسلحة والخدمة في الجيش التركي، أو حتى امتلاك الأسلحة. ألغي هذا التمييز حينما أصبحت السلطة في يد الثوار الأتراك عام 1908، لم يُسمح للمسيحيين بحمل السلاح فحسب؛ بل شجعتهم السلطات على ذلك في شدة حماسهم المتدفق بشعارات الحرية والإخاء والمساواة. كان في كل مدينة تركية في أوائل عام 1915 آلاف الأرمن مدربون كجنود، مجهزون بالبنادق والمسدسات وأسلحة دفاعية أخرى. إن العمليات العسكرية في وان كشفت للعيان مرة أخرى، بأن هؤلاء الرجال بإمكانهم استعمال الأسلحة لمصلحتهم بشكل جيد. كان واضحاً أن المذابح الأرمنية في هذا الوقت ستأخذ شكل الحرب الأهلية بالمقارنة مع الذبح الجماعي من  الأتراك لرجال ونساء، كانوا في الماضي من دون حماية. لذلك ولإنجاح خطة إبادة هذا العرق يجب اتباع مرحلتين تمهيديتين . ففي المرحلة الأولى من الضروري جعل كل الجنود الأرمن في حالة عجز تام، وفي المرحلة الثانية يجب تجريد كل الأرمن من أسلحتهم في كل مدينة كبيرة أو صغيرة. قبل ذبح أرمينيا يجب أن تبقى من دون حماية.

في أوائل عام 1915 حُوِّل الجنود الأرمن في الجيش التركي إلى وضعية جديدة. جُرِّدوا جميعاً من أسلحتهم وجمعوا في طوابير عمل بالسخرة بدلاً من أن يخدموا بلدهم كمشاة أو مدفعيين. اكتشف هؤلاء الجنود السابقون بعد قليل أنهم حوّلوا إلى عمال طرق وحيوانات، لحمل الأثقال، كانت لوازم الجيش من كل الأنواع تحمّل على ظهورهم، كانوا يجرّون أجسامهم المتعبة تحت ضرب السياط والحراب، يتعثرون في مشيتهم في جبال القفقاس.

كان عليهم في بعض الأحيان أن يحرثوا طريقهم في ثلوج القفقاس الكثيرة، كانوا عملياً يمضون كل وقتهم في العراء، وينامون على الأرض الجرداء. حينما كان المراقب يكفّ عن الحث المتواصل للعمل، يعطيهم فرصة قليلة للنوم وفتاتاً من الخبز اليابس فقط. وحينما يمرضون، كانوا يُتركون في المكان الذي يقعون فيه، ويقف المضطهدون الأتراك مدة كافية لسرقة كل ما في حوزتهم وحتى ثيابهم. فإذا نجح هؤلاء المشردون، بعد كل هذا في الوصول إلى الأمكنة المقصودة لم يكن من النادر أن يُقتلوا. كانوا يتخلصون من الجنود الأرمن من غير إبطاء. كانت العادة أن يطلقوا النار عليهم بكل وحشية، وكانت هذه العمليات تعاد في كل مكان.

شرذمة من الرجال مؤلفة من /50-100/ رجل كانوا يُحجزون ويُربط بعضهم إلى بعض في جماعات مؤلفة من أربعة جنود، ويُسيّرون على الأقدام خارج المدينة أو القرية. وفجأة في نقطة منعزلة، وعلى مسافة غير بعيدة من القرية، يمتلئ الجو بصوت طلقات البنادق. بعد ذلك وجد أولئك الذين أرسلوا لدفن الجثث، وجدوها عارية تماماً، لأن الأتراك كالعادة سرقوا ثيابهم. إنه من الظواهر التي لفتت انتباهي، إن المجرمين أضافوا تفنّناً جديداً إلى شقاء ضحاياهم، وهو إكراههم على حفر قبورهم قبل اطلاق الرصاص عليهم.

دعوني أقصّ عليكم حادثة جاءت في أحد تقارير قناصلنا، وهذا التقرير يقبع الآن في مستندات الإدارة الأمريكية. أُرسل في أوائل شهر تموز /2000/ من عمال السخرة من مدينة خاربوت لبناء الطرق. أدرك الأرمن في تلك المدينة معنى هذا التصرف، وناشدوا الرحمة من الحاكم. أكد هذا المسؤول أن الرجال لن يمسّوا بسوء، حتى إنه استدعى المبشّر الألماني السيد إيهمان Ehmann لتهدئة الذعر. أعطى الحاكم كلمة الشرف لهذا السيد علي، أن هؤلاء المجندين سيكونون تحت الحماية. صَدِّق السيد إيهمان كلام الحاكم، وهدّأ من روع الشعب. لكن مع كل ذلك قتل كل واحد منهم، ورموا بجثثهم في مغارة. هرب بعضهم وعن طريقهم وصلت أخبار المجازر إلى العالم. بعد أيام قليلة أُرسل /2000/ آخرون إلى ديار بكر. هؤلاء المخلوقات المسكينة، كانوا يجوَّعون بشكل منتظم حتى لا يقووا على المقاومة أو الفرار.

كان عملاء الدولة في العادة يسبقون القافلة، ويخبرون الأكراد، أن قافلة من الأرمن، تقترب، ويأمرونهم أن يعملوا واجبهم الملائم. لم يتدفق القبليون المتوحشون من جبالهم على هذا الحشد الجائع الضعيف من الناس فقط، بل النساء الكرديات جئن بسكاكين الجزارين الكبيرة، لكي يكسبوا ثواباً من عند الله وذلك بقتل مسيحيّ. هذه الإبادات لم تكن حوادث فردية منعزلة.

يمكنني أن أسرد عليكم بالتفصيل سلسلة أخرى من الأحداث الكثيرة والفظيعة. جرت محاولة منظمة من الدولة التركية لقتل كل الرجال المسيحيين الأصحاء في كل أنحاء الإمبراطورية العثمانية. لم تكن الغاية إزالة كل الرجال الذين بإمكانهم إنجاب سلالة جديدة من الأرمن فحسب، بل ترك القسم الأضعف من السكان فريسة سهلة أمامهم أيضاً.

كانت مذابح الجنود العزّل مروعة جداً، ومع ذلك كان وضع هؤلاء أرحم وأهون شراً، بالمقارنة مع المعاملة التي لاقاها أولئك الذين كان يشك بأنهم يخفون الأسلحة. من الطبيعي أن المسيحيين ارتعدوا حينما وُضِعتْ إعلانات في القرى والمدن تأمر الجميع بإحضار أسلحتهم إلى قيادة الجيش. فطن الأرمن للنتيجة جيداً، وشعروا أنهم سيُتْركون من دون حماية، بينما سيسمح لجيرانهم الأتراك والأكراد بالاحتفاظ بأسلحتهم. أطاع هؤلاء المضطهدون الأمر مع كل ذلك في حالات كثيرة، وانتشل الضباط الأتراك البنادق والأسلحة الأخرى كدليل لـ”الثورة” ورموا بضحاياهم في غياهب السجون بتهمة الخيانة، فشل الكثير منهم بتسليم أسلحة لسبب بسيط، وهو أنه لم يبق لديهم ما يقدمونه. لكن العدد الأكبر رفض بتشبث إعطاءهم الأسلحة، لا لأنهم يدبرون ثورة؛ بل كانوا يعتزمون الدفاع عن أرواحهم، وعن شرف نسائهم ضد الانتهاكات التي كانت تخطط.

إن طرق معاقبة هؤلاء “المتمردين” تشكل صفحة من الصفحات الشنيعة والمخزية للتاريخ البشري الحديث. يؤمن أكثرنا أن التعذيب ليس الطريق الأمثل للوصول إلى الحقيقة. لا أؤمن أنه جرت مشاهد أفظع مما حدث في كل أنحاء تركيا في أحلك العصور البشرية. لم يكن هناك مقدّسات عند الدركي التركي. نهبوا الكنائس، وتعاملوا مع الأواني المقدسة للمذبح بإهانة كبيرة، بحجة التفتيش عن السلاح. حتى إنهم أقاموا شعائر دينية استهزائية. كانوا يضربون رجال الدين المسيحيين، لدرجة فقدان الوعي بحجة أن كنائسهم أوكار عصيان ومخابئ للأسلحة. عند عجزهم في العثور على الأسلحة، كانوا يسلّحون المطارنة والقسس أحياناً، بالسيوف أو المسدسات، ثم يحاكمونهم أمام المحاكم العسكرية لحيازتهم الأسلحة الممنوعة قانوناً، ويسيرون معهم في الشوارع لإشعال حنق وغيظ الغوغاء المتعصبين. عامَلَ الشرطة النساء كالرجال بالقسوة والفظاظة نفسها. هناك مستندات تشير إلى أن النساء أيضاً اتهمن بحيازة الأسلحة. لذلك كنّ يعرّون من ثيابهن كاملة، ويضربن ضرباً مبرحاً بسياط من أغصان الأشجار الخضراء. هذه الممارسات نُفِّذَتْ أيضاً على النساء الحوامل. هذه الانتهاكات وهذا التفتيش كان يتكرر كثيراً حتى إن البنات والنساء الأرمنيات كنّ يهربن إلى الغابات والتلال ومغاور الجبال، حينما يقترب الدرك.

كان يقبض على الرجال الأقوياء في القرى والمدن، ويوضعون في السجن، كخطوة أولية تحضيرية لبدء التفتيش في كل مكان. كان المعذّبون يقومون بتنفيذ أشد الإبداعات الشيطانية في محاولتهم للضغط على ضحاياهم، ليعلنوا أنهم “ثوريون”، ويخبروهم عن مخابئ أسلحتهم. إن الممارسة الشائعة للتعذيب كانت بوضع السجين في غرفة ممدداً على ظهره، ويقف تركيان أمام بعضهما وجهاً لوجه بجانب رجلي السجين ويبدأان الضرب بالعصا الرفيعة على أخمص القدمين. ليس هذا النوع من التعذيب غريباً في الشرق. لا يكون الألم ملحوظاً في البداية، ولكن حينما تستمر هذه العملية تسبب أوجاعاً، يذوق فيها هذا المسكين سكرات الموت. يبدأ جِلْدُ رجله بالاحتقان الشديد، وينفجر بعدها وتصل الحالة إلى حد البتر أحياناً. كان الدرك يضربون ضحاياهم حتى الإغماء، ثم يرشقون الماء على وجوههم، ويعودون بعدها إلى وعيهم، ومن ثمّ يبدأ الضرب من جديد. كانت عندهم طرق كثيرة أخرى للإقناع، إذا لم ينجحوا في الوصول إلى حل مع ضحيتهم. كانوا يقلعون الرموش، وشعرات الذقن شعرة فشعرة. كانوا ينزعون أظفار الأيدي والأرجل، ويضعون الحديد المحمي على صدورهم، ويقطعون من لحم ضحاياهم بكلابات محمية، وبعدها يضعون الزيت المغلي على جروح ضحاياهم. في بعض الأحيان ثبّت الجنود أرجل وأيدي المساجين على الخشب تقليداً لصلب المسيح، وبينما يتلوى المعذبون بسكرات الموت، كان الجنود يصيحون “ليأت الآن مسيحك لإنقاذك”.

هذه الأعمال البربرية وأعمال أخرى، أمتنع عن وصفها، كانت تنفّذ في الليل. كان الأتراك يتمركزون حول السجون، ويقرعون الطبول، ويصفِّرون عالياً حتى لا تصل صرخات وأنين ضحاياهم إلى القرى المجاورة.

تحمل الأرمن كل هذه الوحشيات آلاف المرات، ورفضوا تسليم أسلحتهم، لأنه في الواقع لم يبق لديهم ما يعطون. كانت العادة أن الأرمن حينما يسمعون باقتراب المفتشين، كانوا يشترون الأسلحة من جيرانهم الأتراك، لإعطائها إلى السلطات، ليتخلصوا من هذه العقوبات.

كنت أتباحث في يوم من الأيام مع مسؤول تركي كبير عن هذه الأحداث، لم يخف عني الحقيقة، وهي أن الحكومة هي التي حرّضت على هذه الاعمال، وأتراك الطبقة الحاكمة كلها توافق بحماس على هذه المعاملة ضد هذا العرق. قال هذا المسؤول: إن كل هذه التفاصيل كانت تبحث مساء كل يوم في قيادة الاتحاد والترقي. كل طريقة جديدة للتعذيب، كانت ترحب كاكتشاف باهر، وكان هؤلاء الجلادون ينقّبون في ثنايا عقولهم لاختراع طريقة جديدة للتعذيب. قال لي مرة هذا المسؤول: إنهم غاصوا في سجلات محكمة التفتيش الإسبانية، وفي كل الأعراف التاريخية، لفنّ التعذيب، وتبنوا تقريباّ كل الاقتراحات التي وجدت هناك. لم يخبرني هذا المسؤول الكبير عمّن ربح جائزة هذه المسابقة الشنيعة، لكن الشائعات الكبيرة على امتداد أرمينيا، أعطت الاسم المخزي لجودت بك والي وان. في طول البلاد وعرضها كان جودت بك يعرف بـ”النعّال” لأن هذا الخبير في التعذيب اخترع، ربما كأحسن تحفة بين الكل، فكرة دق نعال الأحصنة على قدمي ضحايا الأرمن.

هذه الأحداث مع ذلك لم تكن بالأهمية بالمقارنة مع “الفظائع الأرمنية” التي كانت تكتب عنها الصحف التركية. هذه الجرائد بتحريضها الغوغاء المتعصب والجاهل، كانت تمهّد أولية لدمار هذا العرق. أظهر “الأتراك الشباب” براعة أكبر من سلفهم عبد الحميد. كانت أوامر السلطان المخلوع “القتل…القتل” بينما “الديمقراطية التركية” كشفت عن خطة جديدة كلياً. فبدلاً من الإبادة المباشرة للعرق الأرمني دفعة واحدة، قرروا الآن أن ينفوه، في الجهة الجنوبية والجنوبية الشرقية من الإمبراطورية العثمانية تقع الصحراء السورية، ووادي ما بين النهرين. مع أن هذه المنطقة كانت يوماً مزدهرة حضارياً، لكنها عانت في القرون الخمسة الأخيرة البؤس والفقر اللذين هما قدر كل أمة، كانت خاضعة للحكم التركي. هذه المنطقة الآن مقفرة مهجورة وموحشة، من دون أي ملامح للمدينة أو الحياة من أي نوع، كانت تسكنها بعض القبائل المتأخرة. إن الجهد الصناعي الكبير والدؤوب والرفيع فقط، وعلى امتداد سنوات طويلة، يمكنه أن يحوّل هذه الصحراء إلى مناطق سكانية آهلة. أعلنت الحكومة المركزية الآن عن نيّتها لجمع مليونين أو أكثر من الأرمن الذين يعيشون في مناطق عديدة من الإمبراطورية، وإبعادهم إلى هذه المناطق القاحلة وغير المضيافة. وللحقيقة نقول: لم تكن في نية الأتراك أبداً إعادة السكان الأرمن إلى بيوتهم مستقبلاً، كانوا يعلمون أن أكثرهم لن يصل إلى المكان المقصود. إن الذين لم يموتوا بسبب العطش والجوع، سيقتلون من قبائل الصحراء المتوحشة. كانت الفكرة الرئيسة للترحيل الدمار ثم النهب. عندما أعطت السلطات التركية أوامر الترحيل هذه، كانوا في الحقيقة يعطون مذكرة الموت لِعرق بأكمله، تفهموا هذا جيداً، وفي أحاديثهم لم يحاولوا بأي شكل أن يخفوا عني هذه الحقيقة.

استمر الترحيل طوال ربيع وصيف عام 1915. أعفيت من الترحيل المدن الكبرى كالقسطنطينية وسميرنا وحلب. وكل الأمكنة التي كانت تعيش فيها ولو عائلة أرمنية واحدة، أصبحت الآن مسرحاً لهذه المآسي التي لا توصف. نادراً ما أعفي أرمني من الأمر بغض النظر عن درجة ثقافته، أو غناه، أو انتمائه الطبقي. كانوا يضعون الإعلانات في بعض القرى تأمر السكان الأرمن أن يحضروا إلى مكان عام في ساعة معينة، ويكون الموعد عادة بعد يوم أو يومين. وفي المدن الصغيرة، كان المنادي يقرأ الأوامر في الشوارع شفهياً. وفي مناطق أخرى حتى لم يُنذروا. كان الدرك يظهرون أمام البيوت الأرمنية، ويأمرون كل السكان بالخروج. كانوا يأخذون النساء المنشغلات بمهام البيت، من دون أن يسمحوا لهن حتى فرصة بسيطة لتغيير ثيابهن. يهجم عليهن الشرطة كانفجار بركان فيزوف على مدينة بومباي. أخذوا النساء من أحواض الحمامات، واختُطِفَ الأطفال من أسرهم، وترك الخبز غير ناضج في الفرن المشعول، وبقي غذاؤهم على الطاولات نصف مأكول، وهُجِّر الأطفال وكتبهم المدرسية مفتوحة، وأجبر الرجال بالقوة على هجر محراثهم في الحقول، ومواشيهم على سفح التلال، حتى النساء اللاتي ولدن أطفالاً أجبرن على الانضمام إلى الحشد المذعور، وبين أيديهن ينام أطفالهن. إن كل ما قدرن على حمله في هذه العجالة من الأشياء المنزلية هو شال أو حرام أو ربما مؤنة الطريق من الطعام. على أسئلتهن المسعورة “إلى أين نحن ذاهبون”، كان الدرك يمنحونهم جواباً واحداً فقط “إلى الداخل”.

كان اللاجئون في بعض الأحيان يُعْطَوْنَ بضع ساعات وفي أوقات استثنائية بضعة أيام لترتيب شؤون أملاكهم وبيوتهم. كان هدف هذه الممارسات السرقة أيضاً. كان على الأرمن أن يبيعوا للأتراك فقط، وبما أن الشارين والبائعين يعرفون أن هناك يوماً واحداً أو يومين لتسويق “تحويشة العمر”، كانت الأسعار التي يحصلون عليها تشكل قسماً صغيراً من قيمتها الحقيقية. آلات الخياطة قد بيعت بدولار واحد، والبقرة بدولار واحد تقريباً، أثاث بيت كامل كان يباع بقيمة زهيدة جداً. كان يمنع على الأرمن في أحوال عديدة أن يبيعوا، وللأتراك أن يشتروا حتى بهذه الأسعار المضحكة، بذريعة أن الحكومة تنوي بيع ممتلكاتهم الشخصية المنقولة، ليدفعوا من ثمنها لدائنيهم، أما أثاثات البيوت فستوضع في المستودعات، أو تكدس في الأماكن العامة، وهنا كانت تنهب من رجال ونساء الأتراك. كان مسؤولو الحكومة يخبرون الأرمن بعدم بيع بيوتهم، ما دام ترحيلهم سيكون مؤقتاً. لم يكن المالكون الأرمن، يبتعدون قليلاً من القرية حتى تُدخل الحكومة التركية المهاجرين الأتراك من كل أنحاء تركيا إلى شقق الأرمن. كانت الأشياء الثمينة كلها مثل المال والخواتم والساعات والجواهر تؤخذ للمخافر لـ”الحفظ الأمين” بانتظار رجوعهم، ثم يوزعون هذه الأشياء على بعضهم بعضاً. لم تسبب هذه السرقات مع كل ذلك غير كرب بسيط لدى المهاجرين الأرمن، لأنه كانت تحدث مشاهد تعذيب أفظع أمام أعينهم. فقد استمرت الإبادة الجماعية للرجال. كانت العادة المتبعة قبل بداية مسيرة القافلة فصل الرجال عن عائلاتهم، وربط كل أربعة منهم ببعض، ثم نقلهم إلى الضواحي لقتلهم بالرصاص. إن الشنق العلني من دون محاكمة كان ظاهرة شائعة ويحدث باستمرار. التهمة الوحيدة هي أنهم أرمن. كان الدرك يبدون رغبة خاصة لإبادة المثقفين والمتنفذين. كنت أحصل دائماً على تقارير من قناصلي والتبشيريات في تركيا عن تلك الإعدامات، وعن حوادث كثيرة فظيعة، وصفت من قبلهم، والتي لن تخبو من ذاكرتي ما حييت.

قُبض على الرجال الأرمن في أنقرة بين سن/15-70/ وربطوا كل أربعة ببعضعم وأرسلوا باتجاه مدينة القيصرية. وبعد مسيرة خمس أو ست ساعات، وصلوا إلى واد منعزل، هاجمهم فيه غوغاء من الفلاحين الأتراك، بالهراوات والمطارق والفؤوس والمناجل والمجاريف والمناشير. تلك الأدوات لم تكن تسبب الموت الفظيع، بالمقارنة مع القتل بالأسلحة والمسدسات فحسب بل، كما كان يقول الأتراك أنفسهم: كانت تلك الطريقة أكثر اقتصادية، لأنهم لم يضيعوا سدى البارود والأغلفة النحاسية. بهذه الطريقة أبادوا كل السكان الذكور، بمن فيهم المثقفون والأغنياء في أنقرة، وتُركت أجسامهم المشوهة بشكل مفزع لتفترسها الحيوانات المتوحشة في الوادي. بعد إتمام هذا الدمار، اجتمع الفلاحون والدرك في الحانة المحلية، يقارنون جداولهم ببعض، ويتبجحون بعدد “الكفار” الذين ذبحوهم.

وُضِعَ الرجال في الزوارق في مدينة طرابزون جنوبي البحر الأسود ولحق بهم الدرك وقتلوهم ورموا بجثثهم في البحر.

أعطيت الأوامر للقوافل بالسير، وكانت مؤلفة من النساء والأطفال والشيوخ تقريباً. لم يكن نادراً قبل أن تتحرك القافلة، أن يتمنى لهم مدير شرطة المدينة (رحلة جميلة). كانت النساء يُخَيَّرْنَ بين الإسلام، وبين متابعة المسيرة ضمن القافلة إلى المصير الغامض. بعض النساء قبلن الإيمان الجديد، لكن مع ذلك لم تنته عذاباتهن الأرضية. كان عليهن أن يسلمن أطفالهن لدار أيتام المسلمين لكي يربوا تربية جديدة. يجب على النساء أن يُظهِرْنَ إخلاصهن لايمانهن الجديد، وذلك بهجر أزواجهن المسيحيين، والزواج من المسلمين. إذا لم يقبل أي مسلم بالزواج من إحداهن، كانت عندئذ تهجّر، وهي تستنكر بشدة على أنها أجبرت على الإسلام.

* المصدر: كتاب “شهادات غربية عن الإبادة الارمنية في الإمبراطورية العثمانية” إعداد ومراجعة ودراسة: البروفيسور-الدكتور آرشاك بولاديان، دمشق – 2016 ، وثائق تاريخية عن الإبادة الأرمنية في الإمبراطورية العثمانيةـ قــتــل أمــة، مذكرات، هِنري مورغنتاو، السفير الأمريكي في تركيا بين (1913-1916) عن المذابح الأرمنية في تركيا، ترجمة: الدكتور الكسندر كشيشيان، حلب – 1991، الفصل الثالث.

Share This