“لن أفعل شيئاً لمصلحة الأرمن” قال السفير الألماني

 

ليس هناك جانب، كما أظن، من القضية الأرمنية قد أثار الاهتمام الكبير مثل التساؤلات التالية: هل كان للألمان أي دور في هذه القضية؟ إلى أي حد كان القيصر مسؤولاً لذبح هذه الأمة؟ هل اشترك الألمان في الأمر، أم سهّلوا لذلك فقط؟ أم اعترضوا على هذه الاضطهادات. كانت ألمانيا مسؤولة في السنوات الأربع الأخيرة عن أحلك الصفحات العديدة في التاريخ. أعتقد أن أكثر الناس سيكتشفون بعض الشبه بين تعليقات هؤلاء، رؤساء العصابات الأتراك، وفلسفة الحرب الألمانية. اسمحوا لي أن أعيد بعض التعابير الخاصة التي استعملها أنور وبقية زعماء الأتراك حينما تباحثوا معي عن المذابح الأرمنية، “إن الأرمن جلبوا هذا المصير على أنفسهم” “انذرناهم بوضوح بما سيحدث لهم”، “كنا نناضل من أجل وجودنا القومي”، “كنا مبرئين من الالتجاء لأي وسيلة توصلنا إلى هذه النهاية”، ليس لدينا وقت كاف لنفرّق بين البريء والمجرم”، “إن الشيء الوحيد في تفكيرنا هو ان ننتصر في الحرب”.

هذه التعابير كلها لها الرنين نفسه أليس كذلك؟ طبعاً يمكنني إعادة كتابة كل هذه المقابلات مع أنور، واستعمال كلمة بلجيكا بدلاً من أرمينيا وأضع كل هذه الكلمات في فم جنرال ألماني بدلاً من أنور، وتكون لدينا صورة شبه كاملة عن موقف الألمان تجاه الشعوب الخاضعة. لكن تعاليم البروسيين تغوص أكثر من هذا. كانت هناك ميّزة واحدة بالنسبة للأحداث الأرمنية، لقرون عديدة عامل الأتراك الأرمن وبقية الشعوب المحتلة بالقوة وببربرية، لا يتخيلها العقل البشري. لكن طرق معاملاتهم كانت فجّة وخرقاء وغير علمية. ضربوا دماغ الأرمني بالهراوة، وهذه الطريقة خير شاهد على الطرق الغليظة والبدائية التي طبقوها ضد القضية الأرمنية، فهموا القتل بمعناه البدائي، وليس القتل كفن رفيع.

لكن أظهرت الأحداث الأرمنية عامي 1915-1916 عقلية جديدة بالكامل. هذا المفهوم الجديد كان التهجير بالقوة. اخترع الأتراك طرقاً لا تحصى لتعذيب مواطنيهم المسيحيين جسمياً في مدى خمسمئة عام، لكن لم يفكروا أبداً بتهجيرهم من بيوتهم التي سكنوها لآلاف السنين، وإرسالهم إلى الصحراء على بعد عدة مئات من الكيلومترات. من أين أتى الأتراك بهذه الفكرة؟ شرحت سابقاً، أنه في عام 1914 قبل الحرب الأوروبية بقليل هَجّرتْ الحكومة نحو مئة ألف يوناني من بيوتهم التاريخية على الساحل الآسيوي إلى بعض جزر البحر الإيجي. ذكرت أيضاً أن الأدميرال أوزيدوم  (Usedom)  أحد أكبر الخبراء البحريين الألمان في تركيا أخبرني أن الألمان اقترحوا فكرة التهجير على الأتراك، وبذلك نرى أن فكرة التهجير الجماعي هذه كانت ألمانية على وجه الحصر في العصور الحديثة. كل إنسان يقرأ آداب “ألمانيا العظمى” يصادف هذه الفكرة باستمرار. هؤلاء المتحمسون لبناء عالم ألماني متميّز خططوا عمداً كجزء من برنامجهم، طرد الفرنسيين من بعض أقسام فرنسا، والبلجيكيين من بلجيكا، والبولونيين من بولونيا، والشعوب السلافية من روسيا، وتهجير شعوب أخرى سكنت أوطانها لآلاف السنين، وتوطين الأراضي الخالية من سكانها بألمان أشداء مخلصين. ليس من الضروري أن نظهر أن الشعب الألماني لا يؤيد هذه السياسة، ومع ذلك كانت الدولة الألمانية تنفذ بالفعل هذه السياسة في السنوات الأربع الأخيرة. لا نعرف بالضبط عدد البلجيكيين والفرنسيين الذين هُجروا من أوطانهم، ولكنهم في حقيقة الأمر يعدّون بعدة آلاف بالتأكيد. قتلت دولة (النمسا-المجر) أكثر سكان الصرب، وجمعت الآلاف من أطفالهم، وأرسلتهم إلى مناطقها لتربيتهم، ولإعادة تأهيلهم كمواطنين مخلصين للإمبراطورية. لن نعلم بعدد السكان الذين أفنوا إلا بعد انتهاء هذه الحرب. لكن من المؤكد أن هذه الاضطهادات كانت واسعة جداً.

أيد بعض الكتاب الألمان تطبيق هذه السياسة على الأرمن. يقول بول رورباخ (Paul Rohrbach) حسب معلومات الجريدة الباريسية Le Temps “جرى في برلين قبل مدة مؤتمر أوصى بأنه يجب تفريغ أرمينيا من الأرمن، وذلك ببعثرتهم إلى بلاد ما يبن النهرين، وعلى الأتراك ان يملؤوا هذه المناطق حتى تتحرر أرمينيا بالكامل من النفوذ الروسي، وتزوّد بلاد ما بين النهرين بمزارعين هي بأمس الحاجة إليهم. إن غاية كل هذا واضح لا لبس فيه. كانت ألمانيا تبني الخط الحديدي إلى بغداد عن طريق صحراء ما بين النهرين. هذه تفاصيل حيّة للحلم الألماني القديم-الجديد، لتأسيس الإمبراطورية الألمانية الجديدة والقوية الممتدة من هامبورغ، وحتى الخليج العربي. لن ينجح مشروع كهذا أبداً إلا عن طريق سكان  صناعيين جداً لتغذيته، لن يكون الأتراك الكسالى والبليدون مفيدين في مشروع كهذا، لذلك يجب اعتقال هؤلاء الناس الذين عاشوا في أوطانهم لقرون طويلة، وتسفيرهم بوحشية إلى هذه الصحراء الموحشة حسب تصورات سياسة الدولة الألمانية العليا. كانت هذه الأفكار البان-جرمانيزم (Pan Germanism) تزرع بشكل علني لعدة سنوات، حتى إنهم كانوا يحاضرون عن هذا الموضوع في الشرق. “أذكر أنني استمعت إلى محاضرة بروفيسور ألماني مشهور” قال لي أرمني: “كانت فكرته الرئيسية أن الأتراك خلال تاريخهم أخطؤوا خطأً كبيراً بسبب لين معاملتهم للسكان غير الأتراك. إن الطريقة الوحيدة لضمان الرخاء الاقتصادي في الإمبراطورية العثمانية هي العمل المجرد عن العاطفة تجاه كل القوميات والعروق الخاضعة لتركيا، والذين لا يلتقون مع السياسة والخطط التركية”.

إن (ألباناً جرمانيين) يضربون أرقاماً قياسية في قضية أرمينيا. سأكتفي بتسجيل كلمات فريدريخ ناومان (Frederich Nauman) صاحب كتاب (Mittel Europa أوروبا الوسطى) لعله من أقدر دعاة أفكار ألبان جرمانيزم. بدأ ناومان هذا  حياته كرجل دين مسيحي، يبحث بشكل مفصّل عن المذابح الأرمنية في 1895-1896 في كتابه عن آسيا. سأستشهد فقط ببعض المقاطع لأبين موقف سياسة الدولة الألمانية من هذه الأعمال الشائنة. “إذا أخذنا بعين الاعتبار المذابح الوحشية لثمانين أو حتى مئة ألف أرمني فقط، لا يمكننا إلا أن نفكر تفكيراً واحداً فقط، وهو أنه يجب علينا إدانة المجرمين والمثيرين على ذلك بغضب وعنف. ارتكب هؤلاء مجازر على أعداد كبيرة من الجماهير بأبشع الطرق، وحتى أفظع من جرائم شارلمان على السكسون. إن التعذيب الذي وصفه الدكتور ليبسيوس يفوق على كل شيء عرفناه. ماذا يمنعنا عندئذ لنتهجّم على التركي ونقول له “اذهب يا حقير”. شيء واحد يمنعنا عن ذلك، لأن التركي سيجيب: “إني أناضل من أجل وجودي أيضاً”. نُصَدِّقهم بغض النظر عن النقمة والسخط الذي يثيره فينا الدين الإسلامي، نصدقهم لأن الأتراك يدافعون عن أنفسهم شرعاً، وإننا نرى قبل كل شيء في المسألة والمذابح الأرمنية مسألة سياسية تركية داخلية بحتة. إن الحدث يشير إلى أن إمبراطورية تحتضر وهذه الامبراطورية، لن تسمح حتى لنفسها أن تموت من دون محاولة أخيرة للخلاص، ولو بإراقة الدماء. كل القوى العظمى ما عدا ألمانيا تبنت سياسة قلب الأوضاع في تركيا، ووفقاً لهذا يطلبون لهذه الشعوب المحتلة أشياء مثل حقوق الإنسان أو الإنسانية أو الحضارة أو الحرية السياسية، أي بكلمة أخرى يطلبون شيئاً، ليجعلوا منهم مواطنين مساوين للأتراك. كما أن الدولة الرومانية الاستبدادية لم تتحمل ولو قليلاً ديانة الناصري، كذلك هو الحال مع الإمبراطورية العثمانية التي هي الوريثة السياسية الحقيقية للدولة الرومانية الشرقية. تركيا أيضاً لا يمكنها أن تتحمل أي تمثيل للمسيحية الحرة بين رعاياها. إن الخطر بالنسبة لتركيا من القضية الأرمنية، هو خوفها من الدمار الشامل. لذلك تلجأ إلى أعمال بربرية آسيوية. دمرت تركيا الأرمن لدرجة، أنهم لن يتمكنوا من إظهار قوتهم السياسية لفترة غير وجيزة. عمل مفزع من دون شك وسببه اليأس السياسي، مخجل في تفاصيله، ولكنه قطعة من التاريخ السياسي بالطريقة الآسيوية… وعلى الرغم من شعور الاستياء والغضب الذي يشعر به المسيحيون الألمان ضد هذه الحقائق المخجلة، لا يمكنهم أن يفعلوا أي شيء غير مساعدتهم بشفاء جراحهم قدر الإمكان وترك الامور تأخذ مجراها الطبيعي بعدئذ. إن سياستنا الشرقية مقررة منذ زمن بعيد، ونحن ننتمي إلى الجماعات الذين يحمون تركيا. هذه الحقيقة هي التي تنظم تصرفاتنا. إننا لا نمنع أي مسيحي متحمس للعناية بضحايا هذه الجرائم والاعتناء بالكبار وتربية الصغار. ليبارك الله هذه الأعمال الحسنة قبل كل أعمال الإيمان الأخرى. لكن يجب علينا أن نعلم أن أعمال البر هذه يجب ألا تأخذ طابعاً سياسياً يحبط سياستنا الألمانية. إن الأممي الذي ينتمي إلى مدرسة الفكر الإنكليزي، يمكنه أن يسير مع الأرمن. إن القومي الذي ليس بنيته أن يضحي بمستقبل ألمانيا من أجل إنكلترا، يجب عليه أن يتبع الطريق التي رسمها بسمارك في مسائل السياسة الخارجية، حتى ولو كان من دون رحمة في آرائه السياسية القومية. هذا هو السبب الوجداني العميق الذي يفرض علينا نحن رجال الدولة، أن نكون غير مبالين لعذاب الشعوب المسيحية في تركيا، حتى ولو كانت مؤلمة لشعورنا الإنساني… هذا هو واجبنا الذي علينا أن نميّزه ونعترف به أمام الله والإنسان. إذا كنا نؤمن بديمومة الدولة التركية، نفعل كل هذا فقط لمصلحتنا الشخصية، لأن الشيء الوحيد في فكرنا هو… مستقبلنا العظيم. في كفة واحدة لنا واجبات كأمة، وفي كفة أخرى لنا واجبات كرجال. هناك أوقات حينما تتعارض الواجبات وتتصارع، فحينئذ نلجأ إلى الحل الوسط. إن ذلك صحيح من زاوية النظر الإنسانية، لكن بالكاد يكون صحيحاً من الناحية الأخلاقية. ففي هذه الحالة كما في كل الحالات المتشابهة، علينا ألا نتردد. اختار وليم الثاني وأصبح صديق السلطان، لأنه فكّر في وجود ألمانيا أكبر وأعظم شأناً”.

هكذا كانت فلسفة الدولة الألمانية التي طبقت على الأرمن، وكانت لي أيضاً فرصة مراقبتها وهي تطبق. حالما بدأت التقارير المبكرة تصل إلى القسطنطينية، تراءى لي أن أكثر طريقة عملية لإيقاف هذه الاعتداءات الوحشية، أن يقدم ممثلو الهيئات الديبلوماسية لكل الدول إنذاراً مشتركاً للحكومة العثمانية. لجأت إلى وانغنهايم (Wangenheim) بشأن هذا الموضوع في نهاية شهر آذار، الذي أظهر رأساً غضبه وكراهيته للأرمن. بدأ يتهمهم بتعابير غير متّزنة مثل طلعت وأنور، وأصر على اعتبار حادثة “وان” عصياناً مسلّحاً. كان الأرمن في نظره ونظرهم حشرات خائنة.

“سأساعد الصهاينة” قال “لكنني لن أفعل شيئاً من أجل الأرمن أبداً”. زعم وانغنهايم أن القضية الأرمنية تحرك مشاعر الولايات المتحدة بشكل خاص. إن توسطي لديهم بشكل مستمر خلق في الظاهر انطباعاً في هذا العقل الجرماني، أن أي رحمة يظهرونها لهذا الشعب سيكون تنازلاً للحكومة الأمريكية. لكنه في تلك اللحظة لم يكن ميالاً إلى فعل أي شيء لإرضاء الشعب الأمريكي.

“الولايات المتحدة في الظاهر هي الدولة الوحيدة التي تهتم كثيراً بالأرمن” قال: “إن تبشيرياتكم أصدقاء لهم، وشعبكم نَصَّبَ نفسه وصياً عليهم، فمسألة مساعدة الأرمن برمتها إذاً شأن أمريكي. كيف تنتظرون مني أن أفعل شيئاً، والولايات المتحدة تبيع الأسلحة والذخائر إلى أعداء ألمانيا؟ ما دامت حكومتكم تساعد على استمرار هذا الوضع، لا يمكننا أن نفعل شيئاً للأرمن”.

من المحتمل أنّ لا أحد غير عالم منطق ألماني يمكنه أن يكتشف العلاقة بين مبيعات أسلحتنا للحلفاء، وبين هجمات الأتراك على مئات الآلاف من النساء والأطفال والشيوخ الأرمن. تكلمت معه كثيراً، ولكن من دون جدوى. نشأ فتور بعدئذٍ بيننا، وانقطعت الزيارات المتبادلة لعدة أسابيع.

كان هناك بعض الألمان المتنفذين في القسطنطينية الذين لم يقبلوا بوجهة نظر “وانغنهايم”. أشرت سابقاً إلى بول وايتس (Paul Weitz) مراسل جريدة (Frankfurter Zeitung) لمدة ثلاثين سنة، الذي يعرف أكثر من أي ألماني عن شؤون الشرق الأوسط. مع أن وانغنهايم كان يطلب المعلومات من وايتس طوال المدة، ولكنه لم يكن يأخذ بنصيحته دائماً. لم يقبل وايتس الموقف الإمبراطوري التقليدي تجاه أرمينيا، لأنه كان يؤمن أن رفض التدخل يؤذي بسمعة وطنه إلى الأبد. كان وايتس يقدم وجهة النظر هذه إلى وانغنهايم، لكنه لم يفلح إلا قليلاً. تكلم وايتس عن هذا الموضوع معي في شهر كانون الثاني عام 1916 قبل عدة أسابيع من مغادرتي تركيا. أَسْتَشْهدُ بكلماته عن هذا الموضوع:

“أتذكر أنك أخبرتني في البداية” قال وايتس “عن الخطأ الكبير الذي تقترفه ألمانيا في المسألة الأرمنية. وافقتك آنذاك تماماً، ولكن عندما ألححتُ على وانغنهايم في هذا الموضوع قذفني مرتين خارج الغرفة”.

عارض ألماني آخر هذه الوحشيات يدعى نيوراث (Neurath) وهو مستشار السفارة الألمانية. إن سخطه وصل إلى حَدّ أن لغته أصبحت غير دبلوماسية تقريباً مع أنور وطلعت. “لم أقدر أن أزحزحهما عن نيتهما لمتابعة هذه المذابح منذ البدء” قال نيوراث: “وليس بإمكان أي ألماني أن يؤثر كثيراً في الحكومة التركية، بينما السفير الألماني يرفض التدخل”.

مع مرور الوقت ظهر جلياً أكثرأنه ليس لدى وانغنهايم الرغبة في وقف التهجير القسري. لكنه في الظاهر، ومع ذلك كله، رغب في إعادة العلاقات الودية معي، وأرسل بسرعة جهة ثالثة للتوسط. لم أعرف كم من الوقت، كان يمكن أن يدوم هذا النفور، لو لم يصبه مرض جسمي.

مات في شهر حزيران الملازم الأول والملحق العسكري الألماني لايبزيغ Leipzig في ظروف غامضة ومؤسفة جداً في محطة قطار في لولا بورغاس. قُتل بمسدس. قالت رواية إنه قُتل برصاصة طائشة، ورواية أخرى تقول إن الكولونيل انتحر، ورواية ثالثة إن الأتراك قتلوه خطأً عوضاً عن ليمان فون ساندرز (Liman Von Sandres). كان لايبزيغ من أقرب أصدقاء وانغنهايم في أيام شبابهما. كانا ضابطين في الفوج نفسه، ولم يتفارقا في القسطنطينية تقريباً. زرت تواً السفير لتعزيته. رأيته في حالة اكتئاب وهمّ. أخبرني أنه يعاني من قلبه، وأنه متعب جداً، ويفكر بإجازة مرضية لأسابيع قليلة. كنت أعلم أن وفاة صديقه لم يكن المسيطر على فكره فحسب؛ بل كانت التبشيريات الألمانية تُمطر ألمانيا بغزارة بتقارير عن الأرمن، وتطلب من الحكومة إيقاف المجازر. ومع ذلك كله أعطى وانغنهايم العصبيّ والمتعب دلالات كثيرة أنه لا يزال الألماني القاسي المشرّب بالروح العسكرية الألمانية. بعد عدة أيام حينما ردّ على زيارتي سألني:

“أين جيش كيتشنر Kitchner؟ نحن نريد إرجاع بلجيكا” وتابع السفير “ترغب ألمانيا ببناء أسطول ضخم من الغواصات ذات دائرة واسعة للعمليات الحربية. سنتمكن في الحرب القادمة من محاصرة إنكلترا كاملة، ولذلك لا نحتاج لبلجيكا من أجل جعلها قاعدة لغواصاتنا. سنرجع بلجيكا للبلجيكيين، ونأخذ الكونغو بدلاً منها”.

توسطت مرة ثانية لمصلحة المسيحيين المضطهدين في تركيا.

“الأرمن” قال وانغنهايم “ظهروا أنهم أعداء الأتراك. واضح جداً أن الشعبين لا يمكنهما أن يتعايشا في البلد نفسه. يجب على الأمريكيين نقل بعض الأرمن إلى الولايات المتحدة، ونحن سنرسل بعضهم إلى بولونيا، ونسكن المقاطعات الأرمنية باليهود البولونيين، إذا وعدونا أنهم سيتخلون عن خططهم الصهيونية”. رفض السفير مساعدة الأرمن هذه المرة أيضاً، مع أنني تكلمت معه بشكل جدّي وحماسي.

قدم وانغنهايم احتجاجاً رسمياً في 4 تموز إلى الحكومة التركية. لم يتكلم مع أنور أو طلعت، الرجلين المتنفذين؛ بل مع الوزير الأول الذي كان ظلاً فقط. كانت الفكرة الأساسية من هذا الاحتجاج وضع الألمان في الصورة فقط. كان النفاق في إصدار هذا الاحتجاج واضحاً لي وللآخرين، لأنه في الدقيقة التي قدم فيها الاحتجاج، كان وانغنهايم يشرح لي أسباب عدم رغبة ألمانيا القيام بجهد فاعل وضغط لإنهاء هذه المجازر. بعد تلك المقابلة استلم أمر إجازته، وسافر إلى ألمانيا. مع أن وانغنهايم كان قاسياً وصلب الفؤاد، لكنه لم يكن عنيداً وحقوداً تجاه الأرمن كالملحق البحري الألماني في القسطنطينية هومان (Humann). كان هذا يعتبر شخصياً متنفذاً جداً. قال لي دبلوماسي ألماني مرة: إن هومان هذا تركي أكثر من أنور وطلعت. حاولت تجنيد ضغطي عليه على الرغم من سمعته هذه. لجأت إليه وناشدته بشكل خاص لأنه كان صديق أنور. كان هومان همزة وصل مهمة بين السفارة الألمانية والسلطات العسكرية التركية. كان المبعوث الخاص للقيصر، وعلى اتصال دائم مع برلين، ويعكس من دون شك موقف القوى الحاكمة في ألمانيا. تكلم عن القضية الأرمنية بصراحة ووحشية تامّتين. “عشت أكثر حياتي في تركيا” قال “أعرف الأرمن، وأعرف أن الأرمن والأتراك لا يمكنهما أن يتعايشا في هذا البلد. يجب على عرق واحد منهما أن يذهب. لا ألوم الأتراك على ما يفعلون بالأرمن. أظن أنهم مبررون بالكامل. الأمة الأضعف، يجب أن تخضع وتموت. يريد الأرمن تقطيع أوصال تركيا. هم أعداء الأتراك والألمان في هذه الحرب، ولذلك لا يحق لهم أن يحيوا هنا. أظن أن وانغنهايم ذهب بعيداً بتقديم احتجاج للأتراك. إنني شخصياً لن أعمل هذا على الأقل”.

عَبَّرتُ عن مخاوفي من تلك الأفكار العاطفية، لكن تابع هومان وهو يسبّ الشعب الأرمني:

“إنها مسألة أمن” أجاب “على الأتراك أن يحموا أنفسهم، ومن وجهة النظر هذه مُبررون كاملاً في كل ما يعملون. لماذا؟ لأننا وجدنا سبعة آلاف بندقية تخص الأرمن في كاديكوي. أراد أنور في البدء أن يعامل الأرمن باعتدال تام، وأصرّ قبل أربعة أشهر على إعطائهم فرصة أخرى، ليظهروا ولاءهم. كان عليه أن يذعن للجيش الذي كان يصرّ دائماً على حماية مؤخرته بعد ما فعلوا به في وان. أَقرَّت لجنة الاتحاد والترقي التهجير، ورضي أنور على مضض. كل الأرمن يعملون لدمار قوة تركيا، لذلك فالشيء الوحيد الباقي هو تهجيرهم. حقاً، أنور إنسان طيب القلب جداً، حتى إنه عاجز عن إيذاء ذبابة. لكن عندما يصل الأمر إلى الدفاع عن فكرة يؤمن بها، يتصرف بحزم. علاوة على ذلك يجب على الأتراك أن يتخلصوا من الأرمن، وذلك بسبب الدفاع عن النفس. فاللجنة قوية فقط في القسطنطينية، وفي بعض المدن الكبيرة الأخرى. أكثر الشعب في كل مكان هم “أتراك قديمون” وهؤلاء كلهم أناس متعصبون، لا يؤيدون الحكومة الحالية، ولذلك ستعمل اللجنة كل ما بوسعها للدفاع عن نفسها. لكن لا تظن أن أي ضرر سيصيب بقية المسيحيين. ليس من الصعب على تركي أن يلتقط ثلاثة من الأرمن من بين ألف تركي.

لم يكن هومان آخر ألماني عبّر عن هذه الفكرة.

بدأت تصلني تهديدات من مصادر مختلفة بسبب “تدخلي” من أجل الأرمن، وبدأت أظهر بمظهر غير شعبي أمام المسؤولين الألمان. في يوم من أيام تشرين الأول وضع نيوراث أمامي برقية استلمها تواً من مكتب وزارة الخارجية الألمانية. كانت هذه البرقية تحتوي على معلومات من خطاب إيرل كرو (Earl Crew) وإيرل كرومر (Earl Croumer) في مجلس اللوردات البريطاني. كان هذان اللوردان يضعان المسؤولية على الألمان، وأعلنا أنهما تلقيا المعلومات من مشاهد أمريكي. تشير البرقية أيضاً إلى مقال في جريدة (Westminister Gazette) التي تقول: إن القناصل الألمان، كانوا يحرّضون، وحتى يقودون الهجمات في أمكنة معينة، وذكر بشكل خاص القنصل الألماني في حلب رسلر (Resler). قال نيوراث: إن حكومته طللبت منه أن يحصل على إنكار لهذه الاتهامات من السفير الأمريكي في القسطنطينية. رفضت النكران قائلاً: لم أشعر أنني استُدْعِيتُ رسمياً من أي جهة لأشهد إن كانت تركيا أو ألمانيا ملامة على هذه الجرائم.

كانت هناك إدانة لسفير الولايات المتحدة في كل مكان في الأجواء الديبلوماسية بأنه المسؤول الأول عن الدعاية الواسعة للمجازر الأرمنية في أوروبا وأمريكا.

لم أكن أتردد في التأكيد أنهم محقون في ذلك. زار ابني هنري مورغنتاو شبه جزيرة غاليبولي في شهر كانون الثاني، حيث استضافه الجنرال ليمان فون ساندرز وضباط ألمان آخرون. لم تكن قدماه وطأتا القيادة الألمانية بعد، حينما اقترب منه ضابط ألماني وقال:

“إن المقالات التي يكتبها والدك في الجرائد الأمريكية عن الأرمن شيقة”.

“لم يكتب والدي مقالات” رد عليه ابني.

” عدم وجود التوقيع لا يعني أنه لم يكتبها”.

تكلم فون ساندرز أيضاً عن هذا الموضوع. “يخطئ والدك خطأ كبيراً” قال “لفضح الحقائق عن أعمال الأتراك ضد الأرمن ليس ذلك من شأنه فعلاً.

قرر الألمان في الظاهر اللجوء إلى التهديدات لأن التلميحات من هذا النوع لم تؤثر عليّ. جاء إلى القسطنطينية من برلين في أوائل الخريف شخص يدعى الدكتور نوسيغ (Dr.Nossig). كان الدكتور نوسيغ يهودياً ألمانياً. جاء إلى تركيا ليعمل في الظاهر ضد الصهيونيين. بعد أن تكلم معي دقائق معدودة اكتشفت أنه عميل سياسي ألماني. جاء لرؤيتي مرتين. في المرة الثانية جرّ الكرسي بقربي، وبدأ يتكلم بطريقة ودية تنمّ عن الثقة، بعد أن كانت محادثاته في المرة السابقة غامضة المعنى والهدف. “أرجو ألا أضايقك إذا أعطيتك نصيحة صغيرة. إنك نشيط جداً في اهتماماتك الأرمنية، ولا أظنك تتصور أنك بدأت تصبح شخصاً غير مرغوب فيه عند المسؤولين هنا. يجب عليّ أن أخبرك أن الحكومة التركية تعتزم اقتراح استدعائك إلى الوطن، وأن احتجاجاتك لمصلحة الأرمن ستكون من دون فائدة. لن يتدخل الألمان من أجلهم وأنك تضيع فرصتك في الحياة السياسية، وتخاطر بمهنتك، لتنتهي بشكل مذل”.

“هل تعطيني هذه النصيحة لأنك مهتمّ حقاً بمصلحتي الشخصية؟” سألته: “ارجع إذاً إلى السفارة الألمانية، وأخبر وانغنهايم ليتابع ويعمل لاستدعائي، وأنه لا يمكنني أن أتصور قضية أسمى من هذه، إذا قدّر لي الاستشهاد، وليس هناك شرف أكبر من أن يستدعوني، لأنني وضعت كل الضغوط لإنقاذ حياة مئات الآلاف من المسيحيين في تركيا”.

خرج الدكتور نوسيغ من مكتبي مسرعاً، ولم أره منذ ذلك الوقت.

عندما التقيت بأنور في مرة ثانية قلت له: إن هناك إشاعات تقول بأن الحكومة العثمانية ستطلب من حكومتي استدعائي، وكان لافتاً للنظر تأكيده أن القصة بأكملها كذب وتلفيق. “لن نكون في وضع لنرتكب خطًأً سخيفاً كهذا” قال، وبذلك لم يبق لديّ أدنى شك أن محاولة إرهابية دبرت في السفارة الألمانية.

رجع وانغنهايم إلى القسطنطينية في أوائل شهر تشرين الأول. صُعِقْتُ من التغييرات التي طرأت على هذا الإنسان. كان وجهه يرتعش بشكل دائم تقريباً ووضع عصبة سوداء على عينه اليمنى، وظهر في حالة عصبية وكئيبة بشكل غير طبيعي. قال: إنه لم ينل إلا قسطاً قليلاً من الراحة، “إنه كان مجبراً على أن يمضي أكثر وقته في برلين وهو يعمل. التقيته بعد أيام قليلة على طريقي إلى هاسيكوي. قال: إنه ذاهب إلى السفارة الأمريكية. مشينا معاً باتجاهها. قيل لي مؤخراً إن طلعت ينوي ترحيل كل الأرمن الباقين في تركيا، وهذا استحثني على محاولة أخيرة للتوسط عند الرجل الوحيد الذي له القوة على إيقاف هذه الفظائع. صعدنا إلى الطابق الثاني حيث يمكننا أن نكون وحيدين، ولا يزعجنا أحد هناك. كان لنا آخر محادثة عن هذا الموضوع دامت أكثر من ساعة ونحن نشرب الشاي.

“أبرقتْ إليَّ برلين” قال وانغنهايم “إن سكرتير دولتكم قال لهم إن المجازر الأرمنية زادت منذ دخول بلغاريا الحرب إلى جانبكم”.

“لا، لم أبرق عن هذا” أجبته “أعترف بأنني أرسلت كمية كبيرة من المعلومات إلى واشنطن. أرسلت نسخاً عن كل تقرير، وكل جملة إلى إدارة الدولة، وأنها في مأمن الآن. وهكذا مهما حدث لي، فالدليل اكتمل، والشعب الأمريكي غير مُجْبَر على كلامي الشفهي من أجل الاستعلام. إن كلامك هذا غير دقيق، لأنني أخبرت لانسيغ (Lansig) أنّ أي فرصة للضغط من البلغار على الأتراك لإيقاف المجازر ضاعت، لأن بلغاريا أصبحت حليفة تركيا الآن”.

تباحثنا عن التهجير مرة ثانية.. “ألمانيا ليست مسؤولة عن هذا” قال وانغنهايم:

“يمكنك تأكيد ذلك حتى النهاية” أجبت: “لكن لن يصدقك أحد. إن العالم سيحمّل دائماً ألمانيا المسؤولية. إن خطيئة هذه الجرائم سترثها أجيالكم إلى الأبد. علمت أنك قدمت ورقة احتجاج إلى الحكومة التركية، ولكن ما نفع ذلك؟ تدرك جيداً أكثر مني أن هذا الاحتجاج لن يؤثر في شيء. لا أدّعي أن ألمانيا هي المسؤولة عن هذه المذابح بمعنى تحريضها على التنفيذ، لكن هي مسؤولة بمعنى أنه كانت لديها القوة لإيقافها ولم تفعل ذلك. ليست أمريكا وأعداؤكم اليوم هم وحدهم الذين يعتبرونكم المسؤولين على ذلك فقط، بل سيحاسبكم الشعب الألماني في يوم من الأيام. إنكم شعب مسيحي، وسيأتي الوقت الذي يدرك فيه شعبكم أنكم سمحتم للأتراك، بإفناء شعب مسيحي آخر. هل تعتقد أنه يمكنك أن تخفي مثل هذه الوحشيات الجهنمية كسرٍّ إلى الأبد؟ إنك تفكر كالنعامة البلهاء، وتنتظر من بقية العالم أن يفعلوا الشيء نفسه. إن جرائم كهذه تصرخ عالياً حتى السماء. هل كنت تظن أنني إن سمعت عن أشياء كهذه، يمكن أن أخفيها، ولا أعلم عنها حكومتي؟ لا تنسَ أن التبشيريات الألمانية خاصة، والأمريكية هي التي ترسل لي معلومات دقيقة عن الأرمن”.

“كل شيء تقوله يمكن أن يكون حقيقة” أجاب السفير الألماني، “لكن المسألة الكبرى التي تجابهنا هي الانتصار في هذه الحرب. حسَمَتْ تركيا مسائلها مع أعدائها الخارجيين عند غاليبولي والدردنيل، والآن تحاول ترتيب شؤونها الداخلية. إنهم لا يزالون فزعين من احتمال فرض الاستسلام عليهم ثانية. قبل أن يوضعوا مرة ثانية تحت هذا الكبح، ينوون ترتيب أمورهم الداخلية، ولا يتركون ولو فرصة صغيرة للتدخل الخارجي. أخبرني طلعت أنه ينوي إتمام هذا الواجب قبل إعلان السلم. لا ينوون أن يكونوا في موقع يتسنّى للروس التدخل في المسائل الأرمنية، بحجة أن هناك أعداداً كبيرة من الأرمن في روسيا متهمين بالقلاقل التي تحصل لإخوانهم في تركيا. أعترف مع ذلك أنهم عُوملوا بفظاعة. أرسلت إنساناً ليقوم بتحقيقات، وأخبرني أن أبشع الاعتداءات الوحشية، ارتكبت من الرسميين الحكوميين الأتراك وقطاع الطرق والسجناء.

اقترح وانغنهايم ثانية إرسال الأرمن إلى الولايات المتحدة ومرة أخرى أعطيته أسباب عدم جدوى اقتراحه عملياً. “لا تعير اهتماماً أكبر من اللازم لكل هذه الاعتبارات”، قلت: “دعنا ننظر إليها من الناحية الإنسانية بغض النظر عن الحاجة العسكرية والسياسية. تذكر أن أكثر الناس الذين يعاملون بوحشية هم رجال ونساء مسنون وأطفال لا حول لهم ولا قوة. لماذا لا يمكنك أن ترى أنه يحق لهؤلاء أن يعيشوا كبشر أيضاً”.

“لن أتدخل في المسائل الداخلية لتركيا في المرحلة الحالية” قال وانغنهايم.

رأيت أن التباحث معه عن الموضوع كان عديم النفع بعد ذلك أدرت وجهي له بقرف شديد. وقف وانغنهايم ليغادر، وبينما يستعد للانصراف أطلق لهاثاً عميقاً، وارتخت رجلاه فجأة. قفزت وأمسكت بالرجل الذي كاد يقع. كان فاقد الوعي تماماً لمدة دقيقة تقريباً. نظر إليَّ في ذهول وفجأة استردّ قواه الجسدية، وعاد إلى رباطة جأشه. تأبطت ذراع السفير، ونزلنا من الدرج، ووضعته داخل سيارته. استرد عافيته من نوبة التشويش الذهني تلك، حتى وصوله إلى السيارة، ورجع إلى بيته سالماً.

حدث له شلل دماغي بعد يومين، وهو جالس أمام طاولة الغذاء. حُمِلَ إلى فراشه، ولم يفق من سباته أبداً. أخبرت رسمياً أن وانغنهايم توفي في 24 تشرين الأول. مرت أمامي ذكرياتي عن وانغنهايم السفير الذي جلس أمامي في مكتبي في السفارة الأمريكية، يرفض بشكل مطلق أن يضغط على الحكومة التركية ليحول من دون إبادة أمة. كان الرجل الوحيد وحكومته الوحيدة بإمكانهما، أن يوقفا هذه الجرائم. لكن قال لي وانغنهايم عدة مرات: “إن هدفنا الوحيد هو الانتصار في هذه الحرب”.

بعد بضعة أيام قدمت تركيا والهيئات الدبلوماسية إجلالها الأخير لهذا التجسيد المثالي للنظام البروسي. جرى حفل التأبين في حديقة السفارة الألمانية في بيرا Pera التي كانت ملأى بالزهور. وقف هذا الحشد، ما عدا الأهل والسفراء وممثلي السلطان، على أرجلهم طوال مدة المراسيم البسيطة لكن المؤثرة. ثم تشكل الموكب وحمل رجال البحرية الألمانية النعش على أكتافهم، وحمل رجال بحرية آخرون الباقات الضخمة من الزهور، وتبع كل أعضاء السلك الديبلوماسي والمسؤولون الأتراك النعش مشياً على الأقدام.

قاد الموكب الوزير الأول. مشيتُ طوال الطريق مع أنور. كان كل الجنرالات الألمان في بزتهم المراسمية الكاملة. يُخيّل للمرء أن كل سكان مدينة القسطنطينية ملأت الشوارع، وكأنه يوم عيد. مشينا حتى أراضي (ضولمه باهتشه)[1] قصر السلطان، القصر الذي يمرّ السفراء من بوابته لتقديم أوراق اعتمادهم. كان قارب بخاري بانتظار وصولنا إلى المرفأ، ويقف عليه نيوراث (Neurath) لاستلام جثمان “رئيس العصابة” الميت. وضع النعش الذي كان مغطى كاملاً بالزهور في القارب. وقف نيوراث البروسي صامتاً، بينما القارب يبحر في تيار الماء. كان طويل القامة، لابساً بزته العسكرية الكاملة، وخوذته التي ترفرف عليها الريشة البيضاء. دفن وانغنهايم في حديقة السفارة الصيفية في منطقة ترابيا (Therapia) بجانب رفيقه الكولونيل لايبزيغ.

لم يكن هناك مكان أنسب من هذا لاستراحته الأبدية، لأن هذا المكان كان مسرحاً لنجاحاته الديبلوماسية، وأنه من هذا المكان بالذات قبل أقل من سنتين، حَتَّمَ على جيوش تركيا للانضمام إلى القوات الألمانية، وبذلك مهَّد السبيل إلى كل الانتصارات، وكل ذلك الرعب.

المصدر: كتاب شهادات غربية عن الإبادة الارمنية في الإمبراطورية العثمانية” إعداد ومراجعة ودراسة: البروفيسور-الدكتور آرشاك بولاديان، دمشق – 2016 ، وثائق تاريخية عن الإبادة الأرمنية في الإمبراطورية العثمانيةـ قــتــل أمــة، مذكرات، هِنري مورغنتاو، السفير الأمريكي في تركيا بين (1913-1916) عن المذابح الأرمنية في تركيا، ترجمة: الدكتور الكسندر كشيشيان، حلب – 1991، الفصل السادس.

13-  أحد الأوابد التي بنتها عائلة باليان الأرمنية.

Share This