أنور باشا يتبادل الآراء حول الأرمن

 

كنت خلال هذه المدة كلها أضغط أيضاً على أنور باشا، وزير الحربية. كان رجلاً مختلفاً عن طلعت. أخفى شعوره الحقيقي بنجاح أكبر بكثير. كان دمثاً في العادة وواقعياً ومهذباً وكثير الشك. لم يكن في بادىء الأمر صلباً وقاسياً عند التباحث عن الأرمن. رفض القصص السابقة كمبالغات مفرطة، وأعلن أن الاضطرابات في وان هي مسائل حربية عادية، وحاول أن يهدىء من روعي. على الرغم من أن أنور  كان يحاول خداعي خلال تلك المدة كلها، كان في الوقت نفسه، يقدم اعترافات علنية لأناس آخرين، وكنت على علم بها. لم يحاول أن يخفي حقيقة الموقف بشكل خاص عن الدكتور ليبسيوس (Dr.Lepsius) ممثل المصالح التبشيرية الألمانية. كان الدكتور رجلاً نبيلاً وجديَاً. كان شاهداً على المذابح الأرمنية عام (1895-1896). جمع مبالغ كبيرة من المال لبناء المياتم لأطفال الأرمن الذين فقدوا أبويهم في ذلك الزمان. رجع ثانية عام 1915 ليستقصي حالة الأرمن بطلب من التبشيريات الألمانية التي تهتم بالأمر. طلب مني امتيازاً للاطلاع على تقارير الأمريكيين فمنحت له ذلك. لم تترك هذه المستندات مع إضافات أخرى حصل عليها من التبشيرات الألمانية في الداخل أي شك في ذهنه عن كنه السياسة التركية. استشاط غضباً بشكل رئيسٍ ضد حكومته. عبّر أمامي عن الخزي والعار الذي شعر بهما كألماني، حينما قرر الأتراك إبادة أتباعهم المسيحيين، بينما ألمانيا التي تسمي نفسها الدولة المسيحية لا تسعى على منعهم. كان أنور لا يخفي عنه الهدف الرسمي. صُعق الدكتور ليبسيوس تماماً لصراحته عندما قال أنور: إن لديهم الآن الفرصة المناسبة ليتخلّصوا من الأرمن وإنهم ينوون الاستفادة منها.

أصبح أنور في هذه المدة أكثر صراحة معي، لأن التقارير الكثيرة التي كنت أملكها لم تترك له مجالاً لمحاولة إخفاء الموقف الحقيقي أكثر من ذلك. كانت لنا مناقشات طويلة وحيّة عن هذا الموضوع بالتفصيل. منحني أنور وقتاً كافياً لمراجعة الموقف برمته.

“أُعطي الأرمن إنذار واضح” بدأ أنور بالكلام “لما سيحدث لهم في حال انضمامهم إلى أعدائنا. قبل ثلاثة أشهر طلبت طريق الأرمن، وأخبرته أنهم إذا حاولوا بداية ثورة أو مساعدة الروس، عندئذ لن أتمكن من أن أمنع حدوث الأذى لهم. لم يؤثر إنذاري فيهم، ومع ذلك ساعدوا الروس. أنت تعلم ما حدث في وان. إنهم سيطروا على المدينة وألقوا بالقنابل على أبنية الدولة وقتلوا العديد من الأتراك. كنا نعلم أنهم يخططون للثورات في أماكن أخرى أيضاً. يجب عليك أن تفهم أننا نناضل من أجل حياتنا في الدردنيل إننا لذلك نضحي بآلاف الرجال. لا يمكننا أن نسمح لأناس يعيشون في بلدنا أن يهاجمونا من الخلف، بينما نحن مشغولون بصراع من هذا النوع. يجب علينا أن نمنع هذا بكل الوسائط المتاحة لنا. إنني من دون ريب لا أعادي الأرمن كشعب، بل على العكس، إنني معجب كثيراً بذكائهم ونشاطهم الصناعي والتجاري، ويسرّني أن أراهم يصبحون قسماً أصيلاً من شعبنا. لكن إذا تحالفوا مع أعدائنا، كما فعلوا في وان، يجب ان يُدمّروا. بذلت جهوداً كبيرة لكيلا يقع ظلم ولا جور. أمرت في المدة الأخيرة فقط إرجاع ثلاثة من الأرمن هجرّوا من بيوتهم عندما وجدت أنهم أبرياء. إن فرنسا وروسيا وبريطانيا العظمى وأمريكا لا تفعل حسناً لتعاطفها وتشجيعها للأرمن. أعرف جيداً ماذا يعني هذا التشجيع لشعب يميل إلى الثورة. حينما هاجم (الاتحاد والترقي) عبد الحميد حصلنا على التشجيع المعنوي من العالم الخارجي. كان التشجيع عوناً كبيراً لنا وله علاقة كبيرة في نجاحنا. وهذا التشجيع بشكل مماثل يمكن أن يساعد الأرمن وبرنامجهم الثوري. سيتخلّى الأرمن بكل جهودهم عن معارضة الحكومة الحالية، وسيكونون مواطنين مطيعين للقانون إن كفّتْ هذه الدول الخارجية عن مساعدتهم. أصبحت هذه البلاد تحت سيطرتنا المطلقة، ويمكننا أن نثأر من أي ثوري”.

“بعد كل هذا” قلت له: “لنفترض أن ما تقوله صحيح، لماذا لا تعاقبون المذنبين؟ لماذا التضحية بعرق بأكمله من أجل جرائم مزعومة لبعض الأفراد؟”.

“إن وجهة نظرك صحيحة في أوقات السلم؟” أجاب أنور: “يمكننا عند ذلك أن نستعمل طرقاً أفلاطونية لتهدئة الأرمن واليونانيين، ولكن في أوقات الحرب، لا يمكننا أن نحقق ولا نفاوض، يجب علينا ان نتصرف بحزم وتصميم. أظن أن الأرمن يخطئون باعتمادهم على الروس.

إن الروس في الحقيقة يريدونهم أمواتاً أكثر من أحياء. كما أن خطرهم كبير على الروس، كذلك هم خطرون بالنسبة لنا. إذا حاولوا إنشاء دولة مستقلة هنا في تركيا، فسينشئ إخوانهم هناك في روسيا دولة مستقلة أخرى. إن الأرمن مسؤولون أيضاً على المذابح التي حدثت في كل أنحاء مقاطعة وان. هرب ثلاثون ألفاً من الأتراك، وكل الباقين قتلهم الأرمن والأكراد. حاولت أن أحمي المدنيين في القفقاس، وأعطيت أوامري بعدم إيذائهم، لكن رأيت أخيراً أن الموقف أصبح خارج سيطرتي. هناك نحو سبعين ألفاً من الأرمن في القسطنطينية، لن يزعجوا ما عدا أعضاء حزب الطاشناق، وأولئك الذين يتآمرون ضدنا. مع ذلك يمكنك أن تريح ذهنك حول هذا الموضوع، لأنه لن تكون هناك مذابح جديدة للأرمن.

لم آخذ كلام أنور الختامي على محمل الجد، لأنه في الوقت الذي كان يتكلم، كانت المذابح والتهجيرات القسرية تجري في كل المقاطعات الأرمنية الست، واستمرت من دون إعاقة لمدة ثلاثة أشهر.

عندما وصلت التقارير إلى الولايات المتحدة، أصبحت مسألة الإعانات أمراً ملحاً. سمعت في نهاية شهر تموز، أن هناك خمسة آلاف أرمني في منطقة زيتون والسلطانية، لا ينالون الأكل البتة. تكلمت عنهم مع أنور الذي أيد الحقائق، ووعد بأنهم سينالون الغذاء المناسب. لم يؤيد الاقتراحات بأن يذهب ممثلو الإعانات الأمريكية إلى تلك المنطقة من البلاد ليساعدوا ويهتمّوا بالمهجرين.

قال أنور: “كل أمريكي يقوم بهذا العمل، سيشجّع الأرمن على أن يسببوا مزيداً من المشاكل. هناك ثمانية وعشرون مليوناً من الناس في تركيا ومليون من الأرمن[1]. إننا لن نسمح أن يعكر المليون راحة بقية السكان. إن المشكلة الرئيسة للأرمن أنهم انفصاليون، يعتزمون بناء ملكية خاصة بهم، وسمحوا لأنفسهم أن يخدعهم الروس. إنهم يعتمدون على مساعدة الروس، ولذلك ساعدوهم في هذه الحرب. يجب عليهم أن يتصرفوا كما يتصرف الأتراك. يجب عليك أن تتذكر أننا حينما بدأنا الثورة في تركيا، كنا مئتي شخص تقريباً. تمكنّا مع هؤلاء الأتباع القليلين من خداع السلطان والجمهور، الذين ظنوا أن عددنا أكبر بكثير، وأننا أقوى مما يتصورون. تغلبنا على السلطان والشعب بسبب جرأتنا المطلقة، وبهذه الطريقة وضعنا الدستور الجديد. نخاف من الأرمن بسبب تجاربنا الثورية. إذا تمكن مئتا شخص من قلب الحكومة، فليس غريباً أن يتمكن عدة مئات من الأرمن اللامعين والمثقفين أن يفعلوا الشيء نفسه. لذلك تبنينا نحن عمداً بعثرتهم، لكيلا يتمكنوا من إيذائنا. أنذرت البطريرك الأرمني،  كما ذكرت سابقاً، أنه إذا هاجمنا الأرمن ونحن منشغلون بحرب خارجية، سنردّ عليهم بعنف، ولا غنى عن ذلك”.

كان أنور يرد على أعقابه دائماً كل اقتراح من التبشيريات الأمريكية، أو أصدقاء الأرمن الآخرين لمساعدتهم.

“إجمالاً إنهم يتعاطفون معهم كثيراً” قال ذلك مرات ومرات.

اقترحت أن يذهب أمريكيون محددون إلى طرسوس Tarsus ومارزوفان Marzovan.

“إذا ذهبوا إلى هناك أخشى عليهم من السكان المحليين في تلك المنطقة أن يغضبوا، ويميلوا إلى بداية الشغب الذي يمكن أن يؤدي إلى حوادث لا تحمد نتائجها. لذلك فمن الأفضل عندئذ أن يبتعد المبشرون الأمريكيون عنهم”.

“لكنكم تدمرون البلد اقتصادياً” قلت في وقت آخر مردداً الحديث نفسه الذي جرى مع طلعت. أجاب تقريباً بالكلمات نفسها، مؤكداً بذلك أن الموضوع بكامله درس بدقة من  السلطات الحاكمة.

“إن الاعتبارات الاقتصادية ليست لها أهمية في هذا الوقت. إن الشيء الوحيد المهم، هو أن ننتصر. هذا هو الشيء الأهم في ذهننا الآن. سيكون كل شيء على ما يرام إذا انتصرنا، وإذا خسرنا، فسيكون كل شيء سيئاً على أي حال. إن وضعنا يائس جداً، وإنني أعترف بذلك، وإننا نحارب كما يحارب الرجال اليائسون. لن نسمح للأرمن بضربنا من الخلف”.

إن مسألة الإعانات للأرمن الذين يتضورون جوعاً، أصبحت ملحّة أكثر فأكثر كل أسبوع، لكنه كان يصرّ بأنه يجب على الأمريكيين، أن يبتعدوا عن المقاطعات الأرمنية. “كيف يمكننا أن نمد الأرمن بالخبز” أعلن أنور” حينما لا نقدر أن نحصل على كمية كافية لشعبنا؟ أعلم أنهم يعانون، وأنه من المحتمل، ألا يحصلوا على الخبز أبداً في الشتاء القادم. إننا في وضع صعب إلى أقصى الحدود لتأمين الدقيق والثياب في القسطنطينية ذاتها”.

قلت له: إنني أملك المال، وإن المبشرين الأمريكيين تواقون للذهاب واستعماله لمصلحة المهجّرين.

“لا نريد أن يطعم الأمريكيون الأرمن “ردّ بفتور” إن ذلك من أسوأ الأشياء التي تحدث لهم. قلت لك سابقاً: إنهم يؤمنون أن لهم أصدقاء في الدول الأخرى: وهؤلاء يشجعونهم على معارضة الحكومة. وهكذا يجلبون كل التعاسات على أنفسهم. إذا بدأتم أنتم الأمريكيون بتوزيع الطعام والملبس، سيظنون أن لهم أصدقاء أقوياء في الولايات المتحدة، وهذا سيشجعهم على الثورة، وعندئذ سنضطر لمعاقبتهم أكثر من ذي قبل. أما إذا أعطيتنا ذلك المال، فسنهتم بأن يصرف لفائدة الأرمن”. اقترح أنور هذا بصراحة تامة، وأعاد الاقتراح في مناسبات عديدة أخرى. في الدقيقة التي كان أنور يقترح هذا، لم يكن الدرك والمسؤولون الاتراك، ينهبون كل حاجات الأرمن المنزلية ومالهم وطعامهم فحسب، بل كانوا يجرّدون النساء من آخر أسمالهن البالية، ويدفعون أجسادهن العارية بالحراب، وهن يترنّحنَ على رمال الصحراء الحارقة. والآن يقترح وزير الحربية أن نعطي المال الأمريكي إلى هؤلاء “حراس القانون” لتتوزع على أولئك الذين في “عهدتهم”. لكن مع ذلك كان عليّ أن أكون لبقاً. قلت: “إذا تعهدت أنت أو أحد المسؤولين الآخرين بالتوزيع شخصياً، فسنكون سعداء طبعاً لائتمانكم المال، ولكن لا تنتظر مني طبعاً أن نعطي هذا المال إلى الرجال الذين يقتلون رجال الأرمن، ويغتصبون نساءهم”.

لكن رجع أنور إلى النقطة الأساسية مرة ثانية. “يجب ألا يعرفوا” قال أنور: “إن لهم أصدقاء في أمريكا، لأن ذلك سيدمرهم بشكل كامل. الأفضل أن يموتوا جوعاً. عندما أقول هذا أفكر في مصلحة الأرمن أنفسهم. سيهدؤون، وسيعترفون أن تركيا ملجؤهم الوحيد، وسيصبحون مواطنين هادئين، إذا اقتنِعوا بأنه ليس هناك أصدقاء لهم في البلدان الأخرى. إن بلادك تجرّ عليهم مشقات أكثر بإظهارها هذا التعاطف نحوهم. بمعنى، كلما أرسل الأمريكيون المال لإطعام الأرمن، أبادت تركيا عدداً أكبر منهم”.

كان منطق أنور جنونياً في الواقع، ولكنه رضخ في النهاية، وسمح لي بمساعدة بعض المعذبين عن طريق التبشيريات. في كل محادثاتنا، كانت ذريعته الكاذبة التي كان يتمسك بها، أنه في الحقيقة صديق هذا الشعب، وأكد أن الطرق القاسية التي يتبناها تجاههم هي الرحمة بعينها. في هذا كان موقفه مختلفاً تماماً عن موقف طلعت الذي اعترف بشكل علني أنه ينوي تهجيرهم. “بذلت جهداً عظيماً” قال أنور لتحضير خطة متقنة لتحسين أوضاعهم”. اقترحت عليه، إن كان يريد حقاً أن يكون عادلاً، فعليه أن يحمي المهجرين الأبرياء، ويقلل من آلامهم قدر الاستطاعة. ولهذه الغاية يجب عليه أن يعيّن لجنة خاصة من الأرمن لمساعدته، وإرسال أرمني كفؤ مثل أوسكان أفندي، وزير البرق والبريد سابقاً، لدراسة الأوضاع، وتقديم الاقتراحات لمعالجة الشرور الموجودة. لم يوافق أنور على الاقتراحين. أما بالنسبة لاقتراحي الأول فقال: إن زملاءه سيسيئون الفهم، وبالنسبة لأوسكان فقال: إنه معجب به لعمله الجيد المُتقن عندما كان في الوزارة، ودَعَمَهُ وقتها في شدّته ضد المسؤولين غير الكفئين، ومع ذلك لا يثق به لأنه عضو في حزب الطاشناق.

قلت في حديث آخر لأنور: إن الحكومة المركزية لا تُلام في تخطيط وتنفيذ المذابح الأرمنية. ظننت أن ذلك لن يكون مثيراً لغضبه “طبعاً إنني أعرف أن الوزارة لن تأمر أبداً بأمور فظيعة كهذه “قلت له” أنت وطلعت وبقية أعضاء اللجنة لا تعتبرون مسؤولين عن ذلك. إن مرؤوسيك ذهبوا من دون شك أبعد مما كنت تنوي عليه. إنني أدرك أن السيطرة على المرؤوسين ليست سهلة دائماً” صرّحت أيضاً أنه تحدث في تركيا أشياء، لا هو ولا زملاؤه مسؤولون عنها.

انتصب أنور فجأة. رأيت أن ملاحظاتي أغاظته جداً، بدلاً من أن تمهّد الطريق لمناقشة هادئة وودية. “أنت مخطىء جداً” قال: “إن هذه البلاد هي تحت سيطرتنا المطلقة. لا أنوي أن أحوّل اللوم على المرؤوسين، بل أتحمل كامل المسؤولية عن كل شيء حدث. إن الوزارة بنفسها قررت التهجير. إنني مقتنع أننا مبرّرون كلياً في عملنا هذا استناداً إلى الموقف العدائي للأرمن تجاه الدولة العثمانية. لكن.. نحن الحكام الحقيقيون لتركيا، ولا يجرؤ أي مرؤوس على التصرف من دون أوامرنا”، حاول أنور التلطيف من بربرية موقفه العام، وذلك بإظهار وإعلان العفو في بعض الحوادث المعنية. إنني لم أنجح في مساعيّ لوقف برنامج المذابح الشامل، ولكنني أنقذت بالفعل بعض الأرمن من الموت. في أحد الأيام استلمت برقية من القنصل الأمريكي في سميرنا “أزمير” Smyrna بأن سبعة من الأرمن حكم عليهم بالإعدام شنقاً. اتُهمَ هؤلاء الرجال بارتكاب إثم سياسي غامض في عام 1909. لكن رغم ذلك لم يصدق هذه التهمة لا رحمي بك حاكم مدينة أزمير، ولا آمر الموقع العسكري. عندما وصل أمر التنفيذ إلى أزمير، أبرقت سلطات هذه المدينة، بأنه يحق للمتهم حسب القانون العثماني أن يتقدم إلى السلطان لطلب الرحمة. إن جواب البرقية يشير بجلاء إلى مدى اعتبار حقوق الأرمن في ذلك الوقت. قالت البرقية “نظرياً أنت على حق، اشنقهم أولاً، وأرسل طلب العفو بعدئذ”.

زرت أنور في عيد الفطر لأتكلم عن قضية هؤلاء الرجال. هذا هو أكبر الأعياد الإسلامية الذي يلي رمضان شهر الصيام. إن عيد الفطر له صفة مشتركة وعامة مع عيد الميلاد. كانت العادات تنص على أن يتبادل المسلمون الهدايا الصغيرة وخاصة الحلويات. بعد مراسم التهنئة قلت لأنور:

“اليوم هو العيد، وإنك لم ترسل لي أي هدية حتى الآن”.

ضحك أنور “ماذا تريد؟ هل أرسل لك علبة حلويات؟”.

“لا” قلت: “إنني لست بخس الثمن إلى ذلك الحد. أريد إعفاء أرمن أدانتهم المحكمة العسكرية في سميرنا (أزمير)”.

صدّم الاقتراحُ أنور في الظاهر، ومع ذلك اعتبره شيئاً مسلياً “إنها طريقة مضحكة لطلب الصفح” قال: “ومع ذلك وبما أنك وضعت الموضوع بتلك الطريقة، لا يمكنني أن أرفض الطلب”.

طلب مساعده رأساً، وأبرق إلى سميرنا وحرر الرجال.

هكذا بالمصادفة تُمنح العدالة وتقرّ القرارات بشأن الحياة البشرية في تركيا. لم يفصح أنور عن هؤلاء الرجال بسبب اهتمامه في قضيتهم، بل كانت ببساطة منة شخصية لي وللطريقة الغريبة التي طالبته بها بشكل رئيسي. في كل أحاديثي مع وزير الحربية عن الأرمن، كان يعالج الموضوع عرضياً. كان يبحث عن “مصير عرق بأكمله” بين قوسين، ويتحدث عن مذابح الأطفال غير مكترث، كما يتحدث الإنسان عن الطقس اليومي بكل بساطة.

طلب مني أنور يوماً، أن نقوم برحلة إلى غابة بلغراد ممتطين الأحصنة، ونظراً لأنني لم أضيع أي فرصة للتأثير فيه قبلت الدعوة. ركبنا السيارة حتى بويوكدارا Buyukdera، حيث كان بانتظارنا أربعة خدم مع الأحصنة. عندما كنا نجتاز الغابة الجميلة، أصبح أنور أكثر صراحة من ذي قبل. تكلم بحنان عن والده ووالدته، متى تزوجا. قال: إن والده كان في السادسة عشرة من عمره، ووالدته في الحادية عشرة. ولد هو عندما أصبحت والدته في سن الخامسة عشرة. لما بدأ يتكلم عن زوجته، الأميرة الإمبراطورية، أفشى عن الجانب الرقيق من طبيعته الذي لم أره حتى اليوم. تكلم عن سموها الروحي الذي زين بيته، وأسف أن أفكار الديانة الإسلامية في اللياقة والاحتشام، تمنعها من الدخول إلى الحياة الاجتماعية. كان يبني في ذلك الوقت قصراً جميلاً جديداً على البوسفور. حينما اكتمل بناؤه قال: إن الأميرة ستدعو زوجتي للفطور. في ذلك الوقت كنا نمرّ بجانب منزل وإقطاعية السناتور أبراهام باشا أحد كبار أغنياء الأرمن. كان هذا الرجل الصديق الحميم للسلطان عبد العزيز، وبما أن الإنسان في تركيا يرث أصدقاء والده مع الممتلكات، لذلك كان وليّ عهد تركيا ابن عبد العزيز يقوم بزيارات أسبوعية للسناتور الشهير. عندما كنا نمرّ من خلال الحديقة لاحظ بسخط وقرف، أن الحطابين يقطعون الأشجار، فأوقفهم عن ذلك. عندما سمعت فيما بعد أن وزير الحربية اشترى هذه الحديقة، فهمت أسباب غضبه. وبما أن أبراهام باشا كان أرمنياً سنحت لي الفرصة مرة أخرى لأفاتحه بالموضوع.

تكلمت عن المعاملات الفظيعة التي تعاني منها النساء الأرمنيات “ذكرتَ بأنكَ تريد أن تحمي النساء والأطفال ” قلت له ” لكنني أعرف أن أوامرك لا تُطاع”.

“هذه القصة لا يمكنها أن تكون صحيحة ” قال: ” لأنه لا يمكنني أن أتصور أن جندياً تركياً يسيء معاملة امرأة حامل”.

كان بإمكانه أن يغيّر تفكيره، إذا قرأ التقارير المفصلة والمحفوظة في أرشيف السفارة الأمريكية.

غيّر الموضوع ثانية، وسألني عن سرج حصاني الذي كان من نوع “الجنرال ماك كليلن”. جرّبه أنور وأعجب به، لدرجة أن استعاره مني بعدئذ، وصنع له واحداً يشبهه تماماً مشتملاً حتى على الرقم في الزاوية، ثم تبنّاه لفصيل من فرسانه. أخبرني عن الخط الحديدي الذي يبنيه في فلسطين، وكيف أن الوزارة تعمل بجد لإتمامه. أشار إلى أنه توجد الآن فرص كثيرة للمضاربات العقارية. اقترح عليّ شراء الأراضي التي سيرتفع ثمنها مستقبلاً بشكل أكيد. لكنني أصررت على أن أتكلم عن الأرمن، ومع ذلك لم أفلح أكثر من السابق.

“إننا لن نسمح لهم بالتجمع في مناطق يمكنهم فيها أن يتآمروا علينا، ويأتونا بالبلاء، ويساعدوا أعداءنا، لذلك سنعطيهم شققاً جديدة في أماكن أخرى”.

كانت هذه النزهة ناجحة من وجهة نظر أنور، لدرجة أننا تنزهنا بعد أيام ثانيةً. كان طلعت والدكتور Gates رئيس كلية روبرت كوليج يرافقاننا هذه المرة. سرنا أنور وأنا من الأمام، بينما سار مرافقانا في المؤخرة. هؤلاء الحكام الأتراك غيورون بإفراط في الامتيازات الشخصية، وبما أن وزير الحربية هو الأعلى منزلة في الحكومة، لذلك قصد أنور على أن يترك مسافة لائقة بيننا وبين الفارسين الآخرين. كان هذا مضحكاً بعض الشيء، وكنت أظن أن طلعت كان السياسي الأقوى، ولكنه رضخ لهذا التمييز وسمح لحصانه أن يجتاز أنور ويجتازني لمرة واحدة فقط.

عَبًّر أنور عن استيائه لهذا الخرق في اللياقة، لذلك وقف طلعت، وكبح جماح حصانه، ورجع إلى الخلف مذعناً.

“كنت أُظْهِرَ سرعة حصاني للدكتور Gates” قالها بلهجة اعتذار.

لكنني كنت مهتماً بأمور أكثر أهمية من قواعد آداب المعاملة بين هذين الضابطين. كنت عازماً على أن أتكلم عن الأرمن، لكنني فشلت هذه المرة أيضاً، لأن أنور وجد له مواضيع بحث أكثر إمتاعاً.

بدأ يتكلم عن أحصنته. حدثت الآن حادثة أخرى بانت بجلاء عن زئبقية العقل التركي، أي انتقاله السهل من الحديث عن الجرائم البشعة إلى أعمال البرّ الخاصة. قال أنور: إن سباق الخيل سيبدأ عن قريب، ويأسف لأنه لا يملك فارساً جيداً.

“سأعطيك فارساً إنكليزياً” قلت له: “هل تقايضني؟. هو أسير حرب، هل ستعطيه حريته إذا حلّ الأول؟”.

“سأعطيه” قال أنور.

هذا الإنسان الذي يسمى فيلدز Fields دخل السباق ونال المرتبة الثالثة في الحقيقة، وتسابق من أجل حريته كما قال السيد فيليب. وبما أنه لم يربح في السباق، فالوزير لم يكن مجبراً على أي شيء حسب شروط الاتفاق. لكن أنور ذهب إلى أكثر مما هو متوقّع… أعطاه حريته.

ظهر أنور أنه رامِ خبير في هذه النزهة بالذات. سمعت فجأة صوت إطلاق الرصاص من مسدس في نقطة على الطريق. كان مساعد أنور يتدرب على دريئة قريبة. ترجّل أنور فجأة عن الحصان واستلّ مسدسه بسرعة، ومدّ يده بقوة واستقامة إلى الأمام وسدّد.

“هل ترى ذلك الغصن على تلك الشجرة”؟ سألني أنور، وعندما أومأت برأسي مؤكداً، أطلق النار، ووقع الغصن على الأرض. إن السرعة التي استّل بها مسدسه من جيبه، وصوّب وأطلق الرصاص أعطتني تفسيراً واضحاً عن مدى تأثيره في جماعته القراصنة التي كانت تحكم تركيا آنذاك. تدور قصص كثيرة على أن أنور لا يتردد في استعمال هذه الطريقة للإقناع في أوقات حرجة من حياته العملية. لا يمكنني أن أوكد صحة هذه الأقاويل، لكنني أشهد بالتأكيد على براعته العالية في الرماية.

بدأ طلعت يتسلى  بالطريقة نفسها أيضاً، وفي النهاية بدأ رجلا الدولة بالتسابق بمرح وابتهاج، كأطفال المدارس عند انصرافهم من مدرستهم.

“هل لديك بطاقتك؟” سأل أنور ثم طلب مني أن أثبتها على الشجرة التي كانت على بعد خمسين قدماً تقريباً. أطلق أنور الرصاص أولاً. كانت يده ثابتة، نظر باستقامة إلى الهدف وأصابت الرصاصة منتصف البطاقة تماماً. هذا النجاح أغاظ طلعت على الأرجح. صوّبَ طلعت مسدسه، لكن يده الخشنة الغليظة اهتزت قليلاً. لم يكن رياضياً نحيلاً مثل زميله الأصغر سناً. أصاب طلعت أطراف البطاقة عدة مرات، لكنه لم يستطع أن يقلّد أنور في خبرته.

“لو كان الهدف إنساناً” قال التركي الضخم وهو يقفز على حصانه ثانية “لكنت أصبته عدة مرات”.

هكذا انتهت محاولاتي المتكررة لإقناع أقوى تركيين في السلطة من أجل مصير أكثر العناصر قيمة في إمبراطوريتهم.

لم يكن سعيد حليم باشا الوزير الأول شخصية متنفذة. كان مكتبه الأهم في الإمبراطورية اسمياً، لكن عملياً كان الوزير الأول يملأ الفراغ فقط. كان سعيد حليم تحت سيطرة طلعت وأنور، كما كانا يسيطران على السلطان نفسه.

كان على السفراء أن يفاوضوا تكنيكياً سعيد حليم الذي كان وزيراً للخارجية في  الوقت نفسه، لكنني اكتشفت في وقت سابق أنني لن أتمكن من إنجاز أي شيء بهذه الطريقة. مع أنني كنت أقوم بزيارتي الأسبوعية الروتينية كل اثنين كياسة، لكنني كنت أفضل التعامل بشكل مباشر مع الرجال الذين يملكون القوة الحقيقية لتقرير كل القضايا. وجّهت انتباه الوزير الأول إلى القضية الأرمنية عدة مرات، حتى لا أتّهم بأنني أهمل مهمتي للتأثير في الحكومة العثمانية. لم يكن سعيد حليم تركياً، بل كان مصرياً وشخصيته مثقفة ومن أصل نبيل. كان يتراءى لي أن موقفه، يمكن أن يكون مختلفاً تجاه الشعوب الخاضعة، لكنني كنت مخطئاً لأن الوزير الأول أيضاً كان عدوانياً تجاه الأرمن كطلعت وأنور. اكتشفت بسرعة أن مجرد ذكر الموضوع كان يستفزّه كثيراً. كان واضحاً أنه لا يريد أن تُقلق راحته بمثل تلك المواضيع الكريهة والتافهة. أظهر الوزير الأول موقفه الحقيقي حينما كلّمه الملحق اليوناني عن اضطهادات اليونانيين. قال سعيد حليم: إن هذه الشكاوى أضرّت أكثر مما نفعت اليونانيين.

“إننا سنفعل بهم عكس ما يطلبون منا” قال الوزير الأول.

لم يُظهر الوزير الأول المُعيّن أي انتباه جدي لمناشداتي الكثيرة. كان عليّ أن أقوم بمهمة كريهة، وهي أخذ إنذار موجه إليه من  حكومات بريطانيا وفرنسا وروسيا للرجال الذين يسيّرون المصالح العثمانية، وتحميلهم المسؤولية الشخصية للمعاملات الوحشية التي يقومون بها. هذا كان يعني بالطبع أنه في حال انتصار الحلفاء، فإنهم سيعاملون الوزير الأول وطلعت وأنور وجمال وزملاءهم كمجرمين عاديين. عندما دخلت الغرفة لبحث هذه الرسالة المحرجة مع هذا النبيل من سلالة العائلة المالكة المصرية، جلس هناك كالعادة يلعب بالسبحة بعصبية. تكلم رأساً عن هذه البرقية، ووجهه محمرٌّ من الغضب. بدأ نقداً طويلاً وعنيفاً ضد العرق الأرمني كله. أعلن أن “الثوار” الأرمن قتلوا مئة وعشرين ألفاً من الأتراك في وان. إن جملته هذه وبقية كلامه، كان سخيفاً لدرجة وجدت نفسي لا شعورياً أدافع بجرأة وحيوية عن هذا العرق المضطهد. أيقظ هذا حنقه أكثر فأكثر، وانتقل من موضوع الأرمن وبدأ يشتم بلدي مردداً كلام زملائه، أن أسباب آلام الأرمن هي عطف الأمريكيين والدول الأخرى عليهم.

بعد هذه المقابلة لم يبق سعيد حليم في وظيفته كوزير للخارجية، وخلفه خليل بك الذي كان المتحدث الرسمي للبرلمان التركي آنذاك. كان خليل بك رجلاً يختلف كلياً عن سلفه. كان أكثر لباقة، وأكثر ذكاء، وذا نفوذ في الأمور التركية. كان متحدثاً ناعماً أيضاً ولكن بتملّق، فهو ذو طبع حسن، وبدين الجسم، ولكنه خالٍ في كل الأحوال من كل العواطف الإنسانية، كما كان أكثر السياسيين الأتراك باعاً آنذاك. يقال عامة إن خليل لم يوافق على المذابح الأرمنية، لكن منصبه الرسمي أكرهه على القبول بها وحتى، كما اكتشفت حديثاً، يدافع عنها. استدعاني خليل بك بعد استلامه منصبه الوزاري، وقدم لي شرحاً غير واضح عن الوحشيات ضد الأرمن. كانت لي الآن خبرة مع العديد من المسؤولين تجاه هذه الاضطهادات. كان طلعت متعطشاً للدماء بضراوة، وأنور يحسب بخبث، بينما الوزير الأول كان نكداً سريع الغضب، وأما خليل فإنه ينظر إلى فكرة التخلص من هذا العرق بمزاج جيد جداً. بعدما تكلمت عن مجريات الأحداث بكلام فظ على غير عادتي، لم يخرج كل هذا خليل بك عن توازنه ولو قليلاً. قال: إن القبول بالحقيقة لن يخفف من المذابح، وهناك بعض الحقائق يجب أن أتذكرها.

“أوافقك أن الحكومة لها أخطاء خطِرة في معاملتها للأرمن”. قال خليل: “لكن الأذى حصل، ماذا يمكننا أن نعمل من أجلهم الآن؟ مع ذلك إن كانت هناك أخطاء، يجب علينا أن نصححها. إنني أتاسف مثلك على الإفراط في الاعتداءات التي اقترفت. أتمنى أن أقدم لك رأي الباب العالي. أعترف أن هذا ليس تبريراً، لكنني أفكر أن هناك ظروفاً مخففة يجب عليك أن تأخذها بعين الاعتبار، قبل أن تحكم على الإمبراطورية العثمانية”.

بعد ذلك رجع إلى أحداث، وإن مثل كل الباقين ورغبة الأرمن في الاستقلال، والدعم الذي قدموه للروس مردداً أفكار زملائه المعروفين التي سمعتها لمرات عديدة في السابق.

“أخبرت وارتكيس Vartkes، النائب في البرلماني العثماني الذي قُتل بعدئذ مع العديد من زعماء الأرمن، أنه إذا كان لدى شعبه طموحات للاستقلال، يجب عليه أن ينتظر للحظة مواتية أكثر، وربما قدر الروس دحر الجيش التركي واحتلال المقاطعات الأرمنية”. لماذا لا تنتظرون، حتى تسنح لكم مثل تلك الفرصة السعيدة؟” سألت وارتكيس: أنذرته أننا لن نسمح للأرمن بأن يقفزوا على ظهورنا، وإذا حاولوا التورط في أعمال عدائية ضد قواتنا، فسنبعثر كل الأرمن الذين هم وراء قواتنا، وذلك بإرسالهم إلى مناطق آمنة في الجنوب. أعطى أنور كما تعلم إنذاراً مشابهاً إلى بطريرك الأرمن ولكنهم بدؤوا بالثورة رغم هذه الإنذارات الودية.

سألته عن إمكاناته وطرق إسعافهم، وأخبرته أنه وصلني مبلغ عشرين ألف جنيه إسترليني (نحو مئة ألف دولار) من أمريكا لهذه الغاية”. “هذا شأن الحكومة العثمانية، أن ترى هؤلاء الناس يستقرون ويؤوون ويطعمون حتى يتمكنوا من العناية بأنفسهم” أجاب بتملق. “من الطبيعي أن تقوم الحكومة بواجبها، وعدا ذلك، إن العشرين ألف إسترليني التي بحوزتك، لا تشكل في الحقيقة أي شيء”.

“هذا صحيح” أجابته: “إنها كبداية فقط، ومتأكد أنني سأحصل على كل المال الذي نحتاجه”.

“إنه من رأي أنور باشا” أجاب: “ألا يساعد الأجانب الأرمن. لا أقول: إن فكرته صحيحة أو لا. إنني أخبرك فقط. يقول أنور: إن الأرمن مثاليون وفي اللحظة التي يقترب فيها الأجانب لمساعدتهم، سيشجّعون في طموحاتهم القومية. إنه عازم بكل ما في الكلمة من معنى على قطع كل العلاقات بين الأرمن والأجانب إلى الأبد”.

“هل هذه هي الطريقة التي يمكن لأنور أن يوقف أي عملية من قبلهم؟” سألته.

ابتسم خليل بكل طيبة إلى هذا السؤال الموجه وأجاب: “ليس للأرمن أي قدرة للعمليات بعد الآن على الإطلاق”.

قتل حتى هذا الوقت نحو نصف مليون من الأرمن. كان ردّ خليل السريع والذكي يحمل في طياته فضيلة واحدة فقط، كانت كل تعابيره في هذا اللقاء تفتقر إلى… الحقيقة.

“كم عدد الأرمن الذين هم بحاجة للمساعدة في الجنوب؟” سألته.

“لا أعلم، حتى لا يمكنني أن أعطيك رقماً تقريبياً”.

“هل هناك عدة كمئات الآلاف منهم؟”.

“أظن ذلك” اعترف خليل “لكنني لا أقدر أن أقول كم مئة ألف، إن أعداداً كبيرة منهم عانوا” أضاف: “لسبب بسيط إن أنور لم يَسْتَغْنِ عن القوات للدفاع عنهم. إن بعض القوات النظامية رافقتهم بالفعل، وهؤلاء تصرفوا بشكل جيد، حتى إن أربعين منهم فقدوا حياتهم للدفاع عنهم. كان علينا أن نرجع أكثر الدرك إلى الجيش للخدمة، ونضع بدلاً منهم آخرين لمرافقة الأرمن. هؤلاء الدرك ارتكبوا في الحقيقة تجاوزات تبعث على الأسى”.

“إن أتراكاً كثيرين لا يوافقون على هذه التدابير” قلت.

“لا أنكر هذا” أجاب خليل بمجاملة زائدة، وهو يسحب نفسه من هذه القضية.

كان أنور وخليل والباقون مصرين دائماً على النقطة التي يبرزونها… يجب على الأجانب ألا يساعدوا الأرمن. بعد أيام من هذه الزيارة جاء وكيل الوزارة إلى السفارة الأمريكية، ليعطيني رسالة من جمال وأنور. جمال، هذا الذي كانت له السلطة القضائية على المسيحيين في سورية، انزعج كثيراً من القناصل الأمريكيين بسبب إبداء الاهتمام بالأرمن، طلب مني أن آمر هؤلاء القناصل، ليكفّوا عن إشغال أنفسهم في المسائل الأرمنية. “لم يفرّق جمال بين البريء والمذنب” قال الساعي: “لذلك كان عليه أن يعاقب الجميع”.

بعد عدة أيام اشتكى خليل إليّ، أن قناصلي يرسلون الحقائق عن الأرمن إلى أمريكا، وأن الحكومة تصرّ على إيقافهم.

في الحقيقة إنني شخصياً، كنت أرسل أكثر تلك المعلومات، ولم أتوقف عن ذلك أبداً.

المصدر: كتاب شهادات غربية عن الإبادة الارمنية في الإمبراطورية العثمانية” إعداد ومراجعة ودراسة: البروفيسور-الدكتور آرشاك بولاديان، دمشق – 2016 ، وثائق تاريخية عن الإبادة الأرمنية في الإمبراطورية العثمانيةـ قــتــل أمــة، مذكرات، هِنري مورغنتاو، السفير الأمريكي في تركيا بين (1913-1916) عن المذابح الأرمنية في تركيا، ترجمة: الدكتور الكسندر كشيشيان، حلب – 1991، الفصل الخامس.

12-  عدد الأرمن في ذلك الوقت حسب المصادر الغربية ومصادر المطرانية الأرمنية في استنبول (2,25_2,5) مليون نسمة.

Share This