من مذكرات نعيم بك عن إبادة الأرمن (1)

أعتقد بأن مسألة النفي والقتل المفجعين للأرمن، تجعل أسم “التركي” خليقاً باللعنة الأبدية للإنسانية، لأنها لا تشبه أياً من الوقائع الرهيبة التي سجلها التاريخ العالمي حتى اليوم. ولدى التفتيش في أية نقطة، أو أية زاوية مظلمة في الأراضي التركية الواسعة، يمكن العثور على الآلاف من جثث وعظام الأرمن الذين ذبحوا بأفظع طريقة.

لم أكن مكلفاً بعد بشؤون المنفيين، وكنت لا أزال أمين إدارة حصر التبغ في رأس العين. وشاهدت، أمام القرية، قافلة من البؤساء مؤلفة من مئات النساء والاطفال، منتشرة على الضفة الأخرى من النهر. وكان الكثيرون من هؤلاء البؤساء يأتون كل يوم صباحاً للقرية للاستجداء. وكان غيرهم يعملون كحملة ماء من أجل الحصول على كسرة الخبز لسد رمقهم.

وكان هؤلاء المنفيون البؤساء، يأوون تحت الصخور في الوديان، أو تحت تعرجات الهضاب عندما كان الوقت صيفاً، ولكن حين جاء الشتاء كان يسمع أنينهم في الليل، فقد كانوا يموتون برداً وجوعاً. وكان سكان القرية من أثنية التشيتشين، يسمعون حشرجة هؤلاء الذين كانوا في النزع الأخير، ولكن أحداً لم يكن يشفق عليهم، ولم تؤنبه نفسه أو ضميره.

لن أنسى أبداً تلك الليلة. وكنت لدى القائمقام. وفي الخارج كانت عاصفة قوية تلحق الخراب والدمار، وعلى مسافة تبعد عشر دقائق، كنا نسمع عويل وأنين هؤلاء البؤساء الذين كانوا تحت رحمة هذه العاصفة. وكان القائمقام، يوسف ضيا بك، رجلاً محترماً وصاحب ضمير حي. وخرجنا معاً وذهبنا لدى أحد الأغوات ومن ثم لدى أشخاص آخرين، واستطعنا الحصول على خيمتين او ثلاث خيم. وبمساعدة عشرة أو خمسة عشر دركياً، وبعض الرجال، نصبت هذه الخيام واستطاع هؤلاء البؤساء أن يحتموا قليلاً. إن موت هؤلاء البؤساء كان شيئاً مفجعاً بحد ذاته، ولكن كنا امام مشهد أفظع بكثير حين كانت الكلاب تنهش جثث بقايا الارمن البؤساء الذين أبعدوا نفياً عن سيواس، ودياربكر، وخربوط، وكان يجري نفي ما يقارب المليون من سكان خمس أو ست مقاطعات. وكانت قوافل لا تضم سوى مئة أو مئة وخمسين امرأة وطفلاً على الأكثر، يصلون أحياء إلى المكان الذي أرسلوا إليه، أي إلى المكان الذي حدد كمنفى لهم، الامر الذي يثبت أنهم كانوا يذبحون في الطريق.

جئت إلى حلب. وقد شاء القدر أن اتولى وظيفة سكرتير أول لدى عبدالأحد نوري بك الذي كان قد وصل منذ ثلاثة أيام إلى حلب حاملاً لقب مدير عام مساعد لشؤون المنفيين.

وحين كنت في رأس العين، وبالرغم من أنني شاهدت الأمور بأم عيني، لم أستطع فهم أهداف هذه الجرائم. وفي كل مرة كنت أسجل فيها أوامر مرسلة بـ »الشيفرة« كنت أرتجف. لقد حكم بالموت على أمة كبيرة بنسائها وأطفالها.

ومنذ تغيّر قرار مجلس الدولة الذي حدد للأرمن كأماكن إقامة المعرة، والباب، وأقضية أخرى تابعة لحلب، وحين أعطي أمر آخر يقول: »إن مكان إقامة الأرمن هو دائرة نهر الخابور (قرب دير الزور)  «فهمت في النهاية أن المسألة لم تكن مجرد مأساة، بل أنها ستكون شيئاً أكثر فظاعة.

ذات يوم وصلتنا بالشيفرة البرقية التالية من وزارة الداخلية:

(إن هدف إبعاد الأشخاص موضوع البحث)(هوضمان سعادة الوطن في المستقبل. لأنه أي مكان قد يجري إسكانهم فيه، لن يجعلهم يتخلوا أبداً عن أفكارهم الملعونة، وينبغي إذن محاولة تخفيض عددهم إلى أدنى درجة ممكنة).

هذه البرقية وصلتنا في تشرين الثاني عام 1915. وبعد ثمانية أيام، سلمت البرقية إلى عبدالأحد نوري بك دون تأشيرة الوالي. وفي المساء نفسه، في الساعة 11،30 (بالتوقيت التركي) هرع إلى مكتب عبد الأحد نوري بك مدير شؤون المنفيين أيوب بك، وقائد الدرك، أمين بك. وقد أطلعهما عبد الأحد نوري بك على البرقية التي تلقاها، ودام اجتماعهم ساعة تقريباً. وكان موضوع محادثتهم كيفية إبادة الأرمن. وكان أيوب بك يؤيد الإبادة الصريحة المكشوفة ودون تستر، لكن عبد الأحد نوري بك، وكان رجلاً خبيثاً جداً، رفض هذا الرأي. وقد قال بأن الأفضل تعريض المنفيين الأرمن إلى الحرمان وإلى قساوة الشتاء لجعلهم يموتون. وبهذا الشكل يمكن فيما بعد الدفاع عن الموضوعة التي تقول بأنهم ماتوا ميتة طبيعية.

إن تكديس ما بين عشرة آلاف وخمسة عشر ألف أرمني في نقطة واحدة كان يعني تعريضهم، في مهلة قصيرة، إلى الحرمان، والجوع، والأمراض، وإذا أجبروا، بالتالي، على التحرك فجأة للذهاب إلى مكان أبعد، ونظراً لعدم استطاعتهم الحصول على وسائل نقل، فسيضطرون إلى السير مشياً على الأقدام، وسيسقطون حتماً في الطريق. وقد تغلب رأي عبد الأحد نوري بك.

وحتى ذلك الوقت لم يتدخل قط رجال الدرك في حلب بشؤون المنفيين. وها أن رجال الدرك قد بدأوا هم أيضاً يتعاونون مع الشرطة. ولم يلبث أن ظهر نشاط كبير في حلب. وأرسل المنفيون المخيمون في جوار غاطما، وكيليس، وحلب، بمجموعات، إلى أكشرين ومن هناك إلى الباب.

وجرى كل شيء وكأنه منسق. وفي كل يوم كانت تأتينا الأنباء عن وفاة مئات الأشخاص، جوعاً أو بتأثير البرد والأمراض. وذهب أيوب بك إلى أعزاز. ولدى عودته دخل المكتب مبتهجاً وروى لنا كيف أحرق الخيم. وغصت الباب بالسكان، وكان التيفوس مستفحلاً في كل مكان. وكان القائمقام والموظفون المكلفون بالنفي، يرسلون إلينا كل يوم تقارير عن الوفيات. ولم يكن الموت يصيب الأرمن فحسب، بل كان يوقع ضحايا بين السكان المحليين.

وذات يوم قلت لنوري بك:- (يا حضرة البك! لنخفف قليلاً إرسال المنفيين لأن الموت يهدد كل سكان ما بين النهرين. وبهذه الطريقة، لن يبقى أحد سوى الأشباح في هذه الأراضي الواسعة، ولقد أرسل لنا قائمقام رأس العين التماساً بهذا الصدد).

وابتسم نوري وقال:

-يا ابني. بهذا الشكل نبيد في آن واحد عنصرين خطرين، أليس الذين يموتون مع الأرمن هم من العرب؟ إنهم يمهدون الطريق نحو التتريك. ولم أقل شيئاً. إن هذا الجواب المخيف جعلني أرتجف. ما الذي يشجع هذا الرجل كي يواصل دون خوف وبمثل هذا الشكل المفضوح تنفيذ مثل هذا المشروع المجرم والمخيف. ويمكن قول أشياء كثيرة حول هذا الموضوع، لكن نسخة من أمر، كانت توجد بين الأوراق السرية لإدارة المنفيين، كانت تكفي لتفسير الجرأة التي كان ينفذ بها نوري بك المهمة التي عهد بها إليه: »الإبادة العامة للأرمن«.

وهذا هو الأمر:

»بالرغم من أن قراراً سابقاً قد اتخذ في سبيل القضاء على العنصر الأرمني الذي يريد، منذ قرون طويلة، تقويض الأسس المتينة للدولة، الأمر الذي اتخذ شكل مصيبة كبيرة بالنسبة للحكومة، فإن مقتضيات الزمن لم تكن توفر إمكانية تحقيق هذه النية المقدسة. والآن، وبعد القضاء على كل العقبات، ونظراً لأنه جاء وقت تخليص الوطن من هذا العنصر الخطر، نوصيكم بإلحاح بأن لا تستسلموا لمشاعر الشفقة أمام وضعهم البائس، وانه في سبيل وضع حد لوجودهم يجب أن تعملوا بكل ما لديكم من عزم للقضاء على الاسم الأرمني في تركيا. ويجب الاهتمام بأن يكون الموظفون المكلفون بتحقيق هذه المهمة، وطنيين وموضع ثقة«.

إن تاريخ هذا الأمر غير معروف، ولا يعلم أحد أيضاً لمن كان موجهاً، لأنه لم يكن سوى نسخة طبق الأصل. بيد أن كل شيء يثبت أنه صادر عن وزير الداخلية (طلعت بك) وموجه مباشرة إلى الوالي، وقد أبلغته الولاية إلى إدارة المنفيين.

ولابد أن هذا الأمر قد وصل إلى حلب قبل مجيء عبد الأحد نوري بك، وبالتأكيد في الفترة التي كان يتولى فيها الولاية جلال بك. وربما نتيجة لهذا الأمر أرسل جلال بك برقية إلى استانبول قال فيها: »إنني والي هذه الولاية، ولايمكن أن أكون جلادها«. وما إن وصلت البرقية إلى استانبول حتى عزل فوراً وحل محله بكير سامي بك الذي لم يكن هو أيضاً من أنصار المجازر.

المصدر: من مذكرات نعيم بك، سكرتير أول لدى مدير عام مساعد لشؤون المنفيين ، مقطتفات من كتاب (مجازر الأرمن شهادات ووثائق) إعداد باروير يريتسيان، بيروت، 1986. (1)

مقتطف من كتاب “شهود عيان عن الإبادة الأرمنية في الإمبراطورية العثمانية (مجموعة وثائق) بمناسبة ذكرى مرور مئة سنة على الإبادة الأرمنية (1915-2015)”، إعداد وإشراف ودراسة: البروفيسور الدكتور آرشاك بولاديان، دمشق-2014، حيث ينفرد موقع “أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر مقتطفات منه.

 

Share This