من مذكرات نعيم بك ..مرسوم طلعت بك لتصفية الأرمن (2)

في البداية، كان في حلب، في إدارة المنفيين، لجنة خاصة مكلفة بسوق المنفيين (نحو الصحراء). وطوال ممارسة هذه اللجنة لوظائفها، لم يكن المنفيون يتعرضون لأعمال العنف والاضطهاد. ونظراً لأن الحكومة أدركت بأن الهدف الذي ترمي إليه لم يتم بلوغه بهذه الطريقة، فقد عزلت الوالي (بكير سامي بك) وعينت بدلاً منه مصطفى عبد الخالق المخلص إخلاصاً تاماً لأهدافها. وكان هذا الرجل عدواً للأرمن، وكان يسعى، باسم القومية التركية، لتدمير الأمة الأرمنية. إن الأوامر المعطاة من قبله لمديرية المنفيين كانت تتسم بقسوة لا يمكن تفسيرها. إن بعض الأعضاء الأرمن في البرلمان العثماني قد حصلوا من وزارة الداخلية، مقابل ألوف الترجيات دون شك، على الإذن بأن تبقى عائلاتهم في حلب. وكانت وزارة الداخلية، من جانبها، ترسل إليه تعليمات بصددهم، لكنه كان يخفي هذه التعليمات ويرسل هذه العائلات أيضاً إلى الصحراء. وأعرف ما بين خمس عشرة وعشرين عائلة سمح لها بالبقاء في حلب، لكنها أرسلت مع ذلك إلى الصحراء بناء على أوامره.

ووضعت الحكومة، تحت تصرف هذا الرجل، عبد الأحد نوري بك، من أجل مساعدته في مهمته، ومنحته لقب مدير عام مساعد لشؤون المنفيين. وكان نوري بك رجلاً ذكياً وقاسياً، وكان مفعماً جداً بالمشاعر العدائية ضد الأرمن. وقد كان التجسيد ذاته لأكبر درجة من القساوة. وكانت كارثة ومصيبة الأرمن والأخبار المتلاحقة عن وفياتهم، تثير لديه فرحاً كبيراً إلى درجة أنها كالنت تؤدي إلى فقدانه صوابه وقيامه بالرقص لوحده. لأن كل ما كان يحدث، كان نتيجة لأوامر معطاة من قبله. وكان يقول بأن الحكومة لا تريد أن يعيش هؤلاء الناس. حين دعي إلى تسلم هذه الوظيفة، وقبل ذهابه إلى حلب، طلب منه مستشار وزارة الداخلية مقابلة طلعت بك قبل ذهابه. وذهب عندئذ نوري بك إلى الباب العالي. وكان لدى الباشا بعض الزوار. ومع ذلك سأل نوري بك:

»متى تذهب؟«

ثم أخذه بالتالي إلى قرب النافذة وقال له بصوت خافت:

»تعلم دون شك العمل الذي يجب أن تقوم به. لا أريد بعد اليوم أن أرى هؤلاء الأرمن الملاعين يعيشون في تركيا«.

وكان جمال باشا قد أمر بأن تذهب إلى دمشق العائلات الأرمنية الخمس أو الست التي كانت تعمل، مع عرباتهم، في نفق أنتيلي. وأبلغ الوالي هذا الأمر إلى نوري بك الذي أضاف إليه الملاحظات التالية: »إن حكومة عظمى تنفي الأرمن بمئات الألوف، هل هي بحاجة إلى عربتين مخلخلتين يملكهما بعض الأرمن من أجل فصل هؤلاء الناس عن السوق العام (نحو الصحراء) وإرسالهم إلى دمشق؟«

وكان المساعد الرئيسي لعبد الأحد نوري بك مرؤوسه المباشر أيوب صبري بك، وهو رجل دموي وفاسد في آن واحد. وقد سخركل نشاطه في سبيل القتل ولاسيما السرقة. وبعد أن ترك وظيفته، وكان قد جمع ثروة طائلة، عمل بأشغال النقل والسمسرة. وهذا الرجل الذي اغتنى بفضل الغنائم التي أخذها من الأرمن، لم يعمل أي عمل حسن مع أي أرمني. وكان المال دينه وضميره، وان الأعمال البربرية التي كان يرتكبها ضد الأرمن لم يكن يمليها قط مثل أعلى وطني.

وبالاستيلاء على قسم كبير من المبالغ المخصصة لتموين ولسوق المنفيين، زاد كثيراً جوع وبؤس أكثرية هؤلاء التعساء.

وبناء على تعليمات هذين الشخصين (والي حلب عبد الخالق بك، ومساعد المدير العام للمنفيين عبد الأحد نوري بك)، بدأت كل العمليات المتعلقة بانتقال المنفيين، وفور شروعهما في العمل، تعاقبت الجرائم بعضها اثر البعض الآخر.

وصل إلى حلب أمر مخيف من وزارة الداخلية، وترك لهما حرية التصرف المطلقة بهذا الصدد. وعلى كل حال فهما لم يكونا بحاجة لمثل هذا الأمر:

وفيما يلي المرسوم:

إلى ولاية حلب،

(ألغي حق الأرمن في العيش في أراضي تركيا إلغاء تاماً، إن الحكومة التي تتحمل كل المسؤوليات بهذا الصدد، قد أمرت حتى بعدم ترك الأطفال الذين هم في المهد. وشوهد في بعض المقاطعات تنفيذ هذا المرسوم. وهكذا، ولأسباب نجهلها، تجري استثناءات بالنسبة لبعض الأفراد الذين بدلاً من أن يرسلوا إلى المنفى، يتركون في حلب، ومن جراء ذلك توضع الحكومة أمام صعوبة جديدة. فالنساء والأطفال، ومهما كانت أسبابهم، ومن غير قبول أعذارهم، وحتى لو لم يكونوا قادرين على التحرك، أخرجوهم من هناك ولا تتركوا مجالاً للسكان للدفاع عنهم. ونتيجة للجهل، فإن السكان يضعون مصالحهم المادية فوق المشاعر الوطنية، فهم ليسوا بقادرين على تقويم السياسة العليا التي تنتجها الحكومة بهذا الصدد. ونظراً لأن اعمال التصفية المحققة في أماكن أخرى بصورة غير مباشرة (الشدة، وتعجيل السير (في الطريق)، ومتاعب الطريق، وحالات البؤس)، يمكن أن تتحقق عندكم بصورة مباشرة، ابذلوا أقصى جهودكم دون أن تضيعوا الوقت. وأبلغت وزارة الحربية كل قيادات الجيش أن رؤساء المحطات العسكرية لا يجب أن يتدخلوا في تنقل المنفيين. أبلغوا الموظفين الذين يؤمنون هذا العمل أنه يتوجب عليهم، دون أن يخافوا المسؤولية، أن يعملوا لبلوغ الهدف الحقيقي. تفضلوا بإبلاغي كل أسبوع نتائج نشاطكم في تقارير بالشيفرة.

9 أيلول 1915

وزير الداخلية طلعت).

وحين وصل هذا المرسوم إلى حلب كان لدى إدارة المنفيين، بأمر مباشر من الوالي، كل الحرية بتنفيذ أية عملية. وواقع تكليف شخص واحد بشؤون انتقال المنفيين، كان هدفه إخفاء، بقدر المستطاع، الأوامر المعطاة لارتكاب أعمال بربرية، وتجنب اطلاع الكثير من الأشخاص على الوقائع، وأن تتحقق الجريمة بصمت ودون أن تعرف. وكان معسكر اعتقال المنفيين يوجد في مكان يسمى قارلك، وهو مرتفع سيئ السمعة يبعد عشرين دقيقة عن حلب. ومن هناك كان المنفيون يرسلون إلى الصحراء. إن حياة الأرمن الذين كانوا موجودين هناك، كانت على أهواء عريف دركي أو موظف مكلف بعمليات الانتقال.

وفضلاً عن ذلك، فإن الأمل بالحياة لم يعد قائماً بالنسبة لجميع أولئك الذين كانوا يخطون خطوة واحدة خارج حلب. إن الخط الممتد من قارلك حتى دير الزور، لم يكن سوى بؤرة بؤس، بل مقبرة. وقد طلب من الموظفين الموثوقين المكلفين بسوق المنفيين، أن لا يتورعوا عن استخدام كل الأعمال البربرية التي تسبب الموت.

وهذا ما تثبته البرقيتان التاليتان المرسلتان من قبل وزير الداخلية، طلعت باشا.

البرقية الأولى: (علمنا أن بعض الموظفين قد قدموا إلى المجلس الحربي بتهمة التصرف بشدة وعنف تجاه الأشخاص موضوع البحث (الأرمن). وبالرغم من أن ذلك ليس سوى مجرد معاملة شكلية، فإن من شأنه تخفيف حماس الموظفين الآخرين. ولهذا السبب آمر بأنه يجب أن لا تجري بعد اليوم وفي المستقبل تحقيقات مماثلة).

وزير الداخلية طلعت.

البرقية الثانية: (إن الأخذ بالاعتبار للشكاوى والدعاوى ذات العلاقة بكل أنواع المسائل الشخصية للأشخاص موضوع البحث (الأرمن)، من شأنه ليس فقط تأخير إرسالهم (إلى الصحراء)، بل من شأنه أيضاً ترك المجال لبعض العمليات التي يمكن أن تنبثق عنها، فيما بعد، متاعب سياسية. ولهذا السبب، يجب أن لا تؤخذ هذه المساعي بعين الاعتبار، كما ويجب إعطاء تعليمات بهذا المعنى للموظفين المعنيين.

وزير الداخلية طلعت.

وحيث أنه من وقت إلى آخر كانت توجه إلى الولاية وإلى مديرية المنفيين شكاوى ضد مختلف الموظفين، أوصت برقية أخرى صدرت عن وزير الداخلية بقبول هذه الشكاوى دون التحقيق بها أو بحثها. وكان سبب توجيه هذه البرقية، التعليمات السرية التي أرسلتها ولاية حلب، إلى إدارة البريد في نفس المدينة، تمنعها فيها من قبول برقيات الشكاوى المرسلة من قبل المنفيين الأرمن. ويبدو أن مدير بريد حلب طلب أيضاً، إيضاحات بهذا الصدد من وزير البريد في استانبول، وبناء على مساعي هذا الوزير أرسل وزير الداخلية البرقية المذكورة.

وحين ذبحت عائلة وأطفال رجل بائس، واختطفت ابنته بالقوة ولطخ شرفها، أراد إرسال برقية مر بها في طريقه، من أجل عرض حالته المؤلمة ومن أجل طلب النجدة، لكن موظفي البرق لاموه متسائلين لماذا يريد إرسال برقيات بهذا الأسلوب؟.

بيد أن هذه الشكاوى أصبحت شكاوى أشخاص محكوم عليهم بالإعدام، وكانت أشبه بأصوات صاعدة من أعماق القبور.

المصدر: من مذكرات نعيم بك، سكرتير أول لدى مدير عام مساعد لشؤون المنفيين ، مقتطفات من كتاب (مجازر الأرمن شهادات ووثائق) إعداد باروير يريتسيان، بيروت، 1986. (2)

مقتطف من كتاب “شهود عيان عن الإبادة الأرمنية في الإمبراطورية العثمانية (مجموعة وثائق) بمناسبة ذكرى مرور مئة سنة على الإبادة الأرمنية (1915-2015)”، إعداد وإشراف ودراسة: البروفيسور الدكتور آرشاك بولاديان، دمشق-2014، حيث ينفرد موقع “أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر مقتطفات منه.

Share This