مجازر الأرمن في رأس العين ودير الزور (3)

 

في الوقت الذي كان يجري فيه إرسال المنفيين إلى رأس العين بالسكة الحديدية، أعلن القائمقام يوسف ضيا بك أنه لم يعد هناك مكان في رأس العين لإسكان الأرمن، وأن خمسمئة إلى ستمئة منفي يموتون كل يوم، وأنه لم يكن يتسع الوقت لإرسال المعافين إلى مكان أبعد، ولا لدفن الموتى.

وتلقى جواباً بالشكل التالي:

(نشطوا عمليات الإرسال، وبهذا الشكل، فإن أولئك الذين لم يشرفوا على الموت بعد، سيموتون على بعد كيلومترات قليلة من المدينة، وهكذا سيتم تنظيف القضاء سواء من الأحياء أم من الأموات).

إن التقارير الأخيرة المقدمة من الموظف المكلف بالإرسال، وتقارير قائمقام الناحية، تثبت أنه في ظرف أربعة أشهر، مات من الجوع والأمراض ما بين ثلاثة عشر ألف وأربعة عشر ألف شخص.

إن التعليمات المرسلة من حلب إلى الموظف المكلف بإرسال المنفيين إلى رأس العين لم تنفذ. وذهب عبد الأحد نوري بك شخصياً إلى رأس العين، حيث ضغط من قرب على عادل بك، الموظف المكلف بإرسال المنفيين، كما علم بأن الذي يعارض إرسال الأرمن إلى الصحراء هو حاكم دير الزور علي سعاد بك.

ولدى عودته إلى حلب، قدم نوري بك تقريراً إلى الوالي عبد الخالق بك، الذي أمر فوراً علي سعاد بك بما يلي:

(إن واقع ترك ألوف الأرمن في رأس العين، مخالف لهدف الحكومة المقدس. اطردوهم من هناك).

ورد سعاد بك:

(وسائل النقل غير متوفرة لنفي السكان، وإذا كان قتلهم هو الهدف، فلا استطيع أن أفعل ذلك أو أن أجعل غيري يفعل ذلك).

وأرسل مصطفى عبد الخالق بك برقية إلى وزارة الداخلية في استانبول مضيفاً إليها التقرير التالي حول سعاد بك:

(إلى وزير الداخلية:

يتبين من تقرير مساعد المدير العالم للمنفيين الذي قام مؤخراً بجولة تفقدية في رأس العين، أن الأرمن المرسلين إلى هناك، والذين تركوا حتى اليوم قد استقروا بكل بساطة هناك، وأن الذي يدافع عنهم ويسمح ببقائهم ليس سوى حاكم دير الزور، علي سعاد بك.

وبالرغم من الكتابة مراراً وتكراراً، بأن تجميع ألوف الأرمن في بلدة كرأس العين له أهمية محلية كبرى وأن عدم إرسالهم بذريعة “عدم توفر وسائل النقل” من شأنه أن يستتبع المسؤولية، إلا أن كل ذلك بقي دون نتيجة.

إن العطف والحماية اللذين يبديهما سعاد بك تجاه الأرمن قد اتخذا نسباً مدهشة، فقد قيل بأنه ينظف ويحمم شخصياً بعض الأطفال (الأرمن) الذين يقيمون عنده، ويبكي على مصائب ذويهم، وبهذا الشكل فإن الأرمن المرسلين إلى هذه المنطقة، ينعمون بحياة سعيدة ويعترفون بأفضال سعاد بك.

ولكن حيث أن الإبقاء على هذا الوضع سيكون سبب تأخر غير مقصود لإرسال الأرمن المنفيين من حلب، نتوجه إلى مقامكم الوزاري راجين أمراً بهذا الصدد.

23 كانون الأول 1915

الوالي مصطفى عبد الخالق.

وكان هذا التقرير سبباً في عزل علي سعاد بك.

وقد شكلت عصابة من التشيتشين في رأس العين بذريعة حماية المنفيين من كل هجوم لدى سيرهم. وكانت هذه العصابة المسلحة. وهؤلاء الأشخاص الذين زعم أنهم سيكونون حراساً لحماية المنفيين، كانت مهمتهم سلبهم وقتلهم في الطريق.

وأعطي الأمر بالحدث المفجع لرأس العين مباشرة من حلب وكان موجهاً إلى زعماء العصابة  المذكورة. وذهب بعض هؤلاء إلى حلب لكي يتفاهموا مع الوالي مصطفى عبد الخالق بك. وبعد أربعة أو خمسة أيام- وكان هؤلاء قد عادوا- أبلغ القائمقام (كريم رفيع بك)، برسالة بالشيفرة، الوالي بعودتهم وبالتعليمات التي تلقاها.

إن أكثرية العاملين في البناء والإدارة في السكك الحديدية كانوا من الأرمن. وأعطت الحكومة الأمر التالي، وكأنها كانت تخشى مساوئ وجودهم:

رقم 801، إلى ولاية حلب:

تقرر أن يرسل إلى منفاهم الأرمن المستخدمون بصورة عامة في كل المؤسسات سواء في السكة الحديدية أم في إنشاءات أخرى، وأبلغت وزارة الحربية بهذا الصدد كل قواد الجيوش. أبلغوني النتائج.

وزير الداخلية طلعت.

وبناء على ذلك طلبت أسماء هؤلاء الأرمن من المفوضية العسكرية في السكك الحديدية. وبهذه المناسبة، أبدى مفوض السكك الحديدية خيري بك شعوراً إنسانياً كبيراً، فظلم طلعت باشا كان صارخاً جداً.

إن موظفي السكك الحديدية، وأكثرهم من الأرمن، وبالرغم من كل الأعمال البربرية التي تعرضوا لها، لم يفعلوا خلال أربع أو خمس سنوات من الحرب، سوى العمل بإخلاص، ولم يسببوا في أي مكان عملوا فيه، أقل حادث… ولكن المسألة لم تلبث أن أثيرت مجدداً بالبرقية التالية:

رقم 840، إلى ولاية حلب:

علمنا أنه ابتداءاً من جوار اينتيلي وعيران، وحتى حلب، في محازاة خط السكة الحديدية، يوجد من أربعين إلى خمسين ألف أرمني  أكثرهم من النساء والأطفال. وسيعاقب كل الأشخاص، الذين يساعدون في قيام تجمع سكني حقير، في هذه النقاط الهامة بالنسبة لإرسال القوات، بأقصى درجة من القساوة. وبالتالي، فبالأشتراك مع ولاية أضنة أرسلوا فوراً كل هؤلاء الأرمن، مشياً على الأقدام، إلى أماكن نفيهم (في الصحراء) دون أن تجعلوهم يمرون عبر حلب… أنتظر بفارغ الصبر إبلاغي بالنتيجة بعد أسبوع.

16 كانون الثاني 1916

وزير الداخلية طلعت.

وفي نفس اليوم وصلت البرقية التالية كتتمة للبرقية السابقة:

(إلى ولاية حلب،

ملحق بالبرقية رقم 840 بتاريخ 16 كانون الثاني 1916. إن الأرمن الذين تركوا في إنتيلي وعيرات والذين يعملون في الإنشاءات (السكك الحديدية)، لا تصرفوهم حتى إنجاز هذه الأشغال. ولكن نظراً لأن سكنهم مع عائلاتهم غير مسموح به، ضعوهم مؤقتاً في جوار حلب في الأماكن المحددة… أما النساء والأطفال الذين يبقون دون عائل، أرسلوهم فوراً (نحو الصحراء) وفقاً للبرقية السابقة.

وزير الداخلية طلعت.

وكان سبب إرسال هذه البرقية الأخيرة احتجاج مهندسي شركة بناء السكك الحديدية، وذلك لأن إبعاد العمال الأرمن يعني وقف البناء، وأخذت إلى حلب مجموعات من عائلات هؤلاء، وكان يجب أن تقطن في القرى. وكتبت أسماؤهم ورتبت بدفاتر، وظهر بريق أمل أمام التعيسات، لكن أملهن خاب، فقد كانت الشرطة تبعدهن شيئاً فشيئاً. ولكنهن قدمن التماساً، وقيل لهن بأن الالتماس سيؤخذ بعين الاعتبار، ولكن لم يأبه به أحد. وكانت النساء التعيسات يجرجرن أنفسهن من دائرة إلى أخرى. ومرت أيام، ولم تعد هناك حاجة لا إلى التماس ولا إلى عمل، فقد ألغت وزارة الداخلية- تلبية لطلب ولاية حلب- الأمر الذي أعطي سابقاً والقاضي بإقامة هذه النساء في القرى المجاورة لحلب. وكانت البرقية الجديدة حاسمة جداً:

رقم 860، إلى ولاية حلب،

(جواب على الرسالة بالشيفرة بتاريخ 27 كانون الثاني 1916. أقنعوهن بأن أزواجهن سيأتون إليهن فيما بعد وأرسلوهن إلى مكان نفيهن.

وزير الداخلية طلعت).

وهكذا كان الأمر. فذات يوم سيقت النساء الملتمسات إلى صحراء “مسكنه” ومن هناك إلى دير الزور…

المصدر: من مذكرات نعيم بك، سكرتير أول لدى مدير عام مساعد لشؤون المنفيين ، مقطتفات من كتاب (مجازر الأرمن شهادات ووثائق) إعداد باروير يريتسيان، بيروت، 1986. (3)

مقتطف من كتاب “شهود عيان عن الإبادة الأرمنية في الإمبراطورية العثمانية (مجموعة وثائق) بمناسبة ذكرى مرور مئة سنة على الإبادة الأرمنية (1915-2015)”، إعداد وإشراف ودراسة: البروفيسور الدكتور آرشاك بولاديان، دمشق-2014، حيث ينفرد موقع “أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر مقتطفات منه.

 

Share This