ملامح الترجمة من الأرمنية إلى العربية.. نزار خليلي نموذجاً (1)

 

تعود جذور الترجمة في أرمينيا إلى عهد اختراع الأبجدية الأرمنية، وأول مترجم أرمني هو من ابتكر أحرف الأبجدية الأرمنية ميسروب ماشدوتس. وتعد ترجمة الكتاب المقدس النموذج الأهم من نوعه العلمي والتاريخي والثقافي القديم في أدبيات الترجمة الأرمنية التي أنهيت على يد ماشدوتس مع تلاميذه وبالتعاون مع ساهاك بارتيف بين 431-439 ميلادي، وقد أصبحوا بذلك مؤسسي الترجمة الأرمنية.

حينها لم يكن يوجد دولة أرمنية، وكانت اللغة السلاح الذي سيحافظ على الهوية الأرمنية. فبدأت حركة الترجمة في البلاد لتتوسع وتصبح عملية تربوية وتنويرية، من خلال إنشاء مراكز للتعليم والمكتبات ومدارس الكهنوت وترجمة الكتب الكنسية من اللغات اليونانية والسريانية واللاتينية إلى الأرمنية، حتى تمكن الشعب الأرمني من الاستماع إلى القداس بلغته الأم الأرمنية.

لا يمكن حصر الترجمات الأرمنية القديمة وفي القرون الوسطى فقط في إطار الدراسات الأرمنية، فقد نالت مكانة عالمية لجهة دراسة الثقافة العالمية، لأن عدداً كبيراً من نماذج الأدب اليوناني والسرياني فقدت النسخ الأولية منها، وتسنى للحضارة المعاصرة تداولها فقط من خلال تلك الترجمات؛ مثل كتاب “التسلسل الزمني” لأوسابيوس القيصري (توفي عام 339م) الذي بقي حياً من خلال الترجمة الأرمنية التي تمت في القرن الخامس الميلادي، وكذلك كتاب “برهان الكرازة الرسولية” لإيرينيوس (توفي عام 203م) الذي ترجم عن اليونانية، وكذلك اللاهوتي بيلون العبري أو الجزء الأكبر من التراث الأدبي للاسكندرية.

بعد الكتاب المقدس يحتل “تفسير سفر اشعيا” للمفكر البيزنطي هوفهان الذهبي الفم (توفي عام 407 م) المركز الأول من حيث الحجم وعدد النسخ المكتوبة بخط اليد، بالإضافة إلى الترجمة الأرمنية لنموذج آخر من الأدب البيزنطي واللاهوت التفسيري مثل “عظة القديس يوحنا” وغيرها.

واستمرت أعمال الترجمة في القرون الوسطى من الجيورجية والفارسية والفرنسية القديمة والتركية والروسية والإيطالية والإنكليزية والاسبانية والعربية.

وقد لعبت تلك الترجمات دوراً هاماً في تطور البيبليوغرافيا الأرمنية الخاصة، وتوسيع أفق القارئ الأرمني وتطوير اللغة الأرمنية، حيث تعرف المجتمع الأرمني عبر تلك الترجمات إلى علوم الطبيعة واللاهوت والفلسفة وأدب القرون الوسطى والإنجازات الطبية الشرقية. وتمت ترجمة كبار الكتاب العالميين في القرن التاسع عشر والعشرين على يد الكتاب الأرمن؛ أمثال الشاعر هوفانيس تومانيان الذي ترجم (غي دوموباسان)، والشاعر فاهان ديريان (بودلير وبروسوف)، والأديب خاتشيك تاشدينتس (شكسبير). وقام تومانيان وتشوبانيان بترجمة أعمال (شيلر)، وأول من ترجم لـ(وولتر سكوت) كان الأديب ماموريان، أما الشاعر (هنريخ هايني) فترجم له الشعراء تومانيان وديريان وتشارينتس وغيرهم.

وعلى اعتبار أن الأرمن يقدسون لغتهم وأبجديتهم، فإن الترجمة أيضاً كان لها مكانتها إلى درجة التقديس. وتصنف الكنيسة الأرمنية رجال الترجمة ورواد الثقافة بنفس درجة القديسين -أي تمنحهم القداسة-، ولذلك سمي مخترع الأبجدية والمترجم ميسروب ماشدوتس قديساً، واعتبر عيد المترجمين القديسين عيداً من الأعياد الرئيسية لديهم.

ويحتفل الأرمن بعيد المترجمين بشهر تشرين الأول، فهو عيد كنسي مكرّس لميسروب ماشدوتس وتلاميذه، الذين ترجموا الكتاب المقدس وأمهات كتب الثقافة العالمية، وأسهموا في تنوير الشعب والنهضة الثقافية الروحية في أرمينيا. وسميت ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة الأرمنية “ملكة الترجمات”.

وكان لابد من ترجمة جميع المؤلفات اللاهوتية والأدب الكنسي. وقد مرت عملية الترجمة بمراحل عديدة، مرتبطة بعمل المدرسة اليونانية.

ويمكن تقسيم الترجمات التي تمت منذ النصف الأول من القرن الخامس الميلادي إلى: -الليتورجية (مؤلفات للقداس الإلهي)، -والأدب الموعظة، -وقواعد وقوانين الاجتماعات الكنسية، -وسير القديسين.

إن أهم المؤلفات التي تمت ترجمتها منذ ابتكار الأبجدية الأرمنية حتى عام 440م. هي:

1-الكتاب المقدس، 2-قواعد القداس الإلهي (عن اليونانية والسريانية)، 3-المواعظ الـ15 لأتاناس الأسكندري (من اليونانية)، 4-كتاب الصلاة (من اليونانية)، 5-مواعظ يوحنا الذهبي الفم والتفسيرات، 6-تفسير كوريغ لكتاب الميلاد ورسائل نسطور (من اليونانية). 7- “مقدمات وتفسيرات” من أوراق بولس الرسول (عن اليونانية). 8-تفسير هيرونيموس 9- “تاريخ الكنيسة” ليوسابيوس القيصري (عن اليونانية)، 10-يبيبان القبرصي “وفاة الرسل” (عن اليونانية)، وغيرها.

سنسلط الضوء هنا على الترجمة الى اللغة العربية في العصر الحديث؛ فمنذ أربعينيات القرن العشرين بدأت في البلاد العربية حركة ترجمة التراث والأدب الأرمني إلى اللغة العربية، بالإضافة الى ترجمة دراسات تاريخ الأرمن والقضية الأرمنية، وقد اهتم مترجمون عرب وآخرون أرمن من أبناء المجتمعات الأرمنية في الوطن العربي بترجمة مؤلفات الكتاب والشعراء الأرمن.

ينبغي أن نشير إلى أن المكتبة العربية المعاصرة كانت تفتقر إلى الترجمات من الأرمنية، خاصة الكنوز الأرمنية في القرون الوسطى إلى أن بدأ المترجم السوري نزار خليلي -الذي أتقن اللغة الأرمنية القديمة والحديثة- بنشر ترجماته، التي تجاوزت الثلاثين عملاً إلى اللغة العربية.

وكذلك لا يمكن إغفال دوره في ترجمة قصص عربية تراثية وأشعار ودراسات عن كبار المفكرين والشعراء العرب إلى اللغة الأرمنية، أما ترجماته من الأرمنية إلى العربية فتنوعت بين الشعر والرواية والقصص والدراسات التاريخية، فلعب بذلك دوراً هاماً في نقل نماذج هامة من الأدب الأرمني إلى اللغة العربية.

د. نورا أريسيان

المصدر: مجلة جسور ثقافية –العدد6- 2017

Share This