برقيات نفي الأرمن .. من مذكرات نعيم بك (4)

برقيات نفي الأرمن .. من مذكرات نعيم بك (4)

أرسل المنفيون إلى دير الزور بمجموعات منفصلة، بذريعة توجيههم إلى الموصل، ولكنهم لم يستطيعوا تخطي “شدادة”. وفي الطريق الممتد إلى شدادة، اختار زكي بك، بصورة خاصة، صحراء “مارث” وصحراء “سووار”، وحيث أنه لم يكن من الممكن إبادة هذه الجموع كلها بقتلها، اصطنع زكي بك مجاعة متعمدة أكل خلالها المنفيون أولا الحمير، ثم الكلاب، ثم القطط وجثث الخيول والجمال، وفيما بعد حين لم يعودوا يجدون ما يأكلونه، أكلوا الجثث البشرية، وبالدرجة الأولى جثث الأطفال، وهذه القوافل لم تعد سوى قوافل مجانين كان من الممكن أن تشاهد خلالها مشاهد مخيفة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية.

برقية رقم 723، برقية بالشيفرة من وزارة الداخلية إلى ولاية حلب.

(أرسلوا دون تأخير الأرمن المقيمين سابقاً في جوار حلب إلى منفاهم وأبلغونا عما فعلتم بهذا الصدد.

وزير الداخلية طلعت.

في بداية عمليات النفي حددت القرى المجاورة لحلب كمكان لإقامة المنفيين الأرمن، وقد أقام الكثيرون منهم في هذه القرى، كما أن الكثيرين أيضاً كانوا قد بدأوا العمل. وإثر هذه البرقية أرسل دركيون يركبون الخيول إلى ضواحي حلب وطردوا الأرمن من هذه القرى بأقصى درجة من الشراسة، ودفعوا بهم نحو “مسكنة”، الأمر الذي كان سبباً في هلاك عدد كبير منهم.

وحين جاء الأمر بأن يطرد من “المعرة”، ومن “الباب”، ومن جوار حلب الأرمن الذين كانوا قد استقروا هناك، أعطيت إلى القائمقامين تعليمات قاسية جداً إلى حد كان يستحيل على الإنسان قراءتها دون أن يذرف الدموع.

وأعطي من حلب الأمر إلى رجال الدرك ببذل كل جهد لترك المنفيين جائعين وعطشى خلال الطريق، من أجل “تخفيف عددهم قدر المستطاع”.

في 20 كانون الثاني 1916، كتب عبد الأحد نوري بك، إلى محرم بك، رئيس إدارة المنفيين في الباب ما يلي:

برقية رقم 344.

(إنكم تقدرون ولا شك، الثقة التي وضعتها الولاية في شخصكم الكريم، وكذلك أهمية العمل الذي عهدت به إليكم الإدارة بناء على هذه الثقة، يجب أن لا تسمحوا بإقامة أي أرمني في “الباب”. إن الصرامة والسرعة اللتين تبدونهما في طرد المنفيين،  يمكن أن يؤمنا الهدف الذي نرمي إليه. ولكن يجب أن تنتبهوا لعدم ترك جثث في الطرقات. أخبروني بأسرع ما يمكن عن الحد الأقصى للأجر الذي يجب إعطاؤه للأشخاص المكلفين من قبلكم بتحقيق هذه المهمة.

لا تهتموا بوسائل النقل. فالمنفيون يستطيعون الذهاب مشياً على الأقدام.

إن قوائم عدد الوفيات المرسلة إلينا في الآونة الأخيرة، لم تكن مرضية. وهي تثبت أن هؤلاء الأشخاص (الأرمن) يعيشون هناك بسلام.

إن إرسال المنفيين لا يجب أن يشبه أبداً رحلة ترفيهية. ولا تولوا أي اهتمام للشكاوى والأنين. إن التعليمات الضرورية قد أعطيت من الولاية أيضاً إلى القائمقام. أظهروا الغيرة والحماس.

20 كانون الثاني 1916

عبد الأحد نوري.

اما محرم بك هذا الذي كان مدير الشرطة السابق في بغداد، والموظف الأكثر دموية عين لسوق المنفيين، وكانت الوظيفة التي كلف بها هامة جداً، وخوفاً من أن يملي عليه الجشع بعض التساهل، خصصت له مئة وخمسون ليرة شهرياً، وكان هذا الرجل سبب طرد وموت آلاف المنفيين الأرمن الذين هلكوا على الطرقات.

وألحق عبد الأحد نوري بك بهذا الرجل القاسي، نقيب درك فارس، حمل معه إلى “الباب” التعليمات الجديدة التالية:

(إن التصرفات القاسية التي تصدر عن الموظفين من أجل تنظيف قضاء الباب من المنفيين لا تستتبع أية مسؤولية.

عبد الأحد نوري.

وهذا النقيب في الدرك، مع الرجال الذين كانوا برفقته، والذين يتراوح عددهم ما بين خمسة وعشرة رجال لم يتورع عن ارتكاب أية جريمة.

وبحسب التعليمات الأخيرة، فإن كل المنفيين في الباب كان يجب طردهم خلال أربع وعشرين ساعة، وكان يجب أن يرحلوا عنها كيفما كان الأمر.

وفي كل الحالات، فإن هذا الانتقال كان يجب أن يؤدي إلى موتهم، إذ كان يجري سوقهم في عز الشتاء حفاة عراة من القدمين إلى الرأس تقريباً، وكانوا يسقطون من الباب حتى مسكنة، وعلى طول الطرقات، كما كانت الحقول مملوءة بجثث الأرمن، هذه الجثث التي لم تُكرَم ولو بحفنة من التراب تلقى فوقها. وحين علمت الحكومة أن الجثث متروكة وسط الحقول أظهرت بعض القلق، وقد لفتت النظر إلى ان هذه الجثث رآها بعض الأجانب، وأمرت بدفنها. وجرى تأمين رفوش ومعاول، واستؤجر حفارون، وكأنه بهذا الشكل يمكن إزالة آثار الجرائم.

وكان عدد الموتى يبلغ برقياً كل خمسة عشر يوماً بالشيفرة إلى استانبول، ويثبت ذلك أيضاً أن إدارة المنفيين قد أنشئت لغاية إجرامية صرفة.

طالبت الحكومة بتدمير حياة وشرف الأرمن، ولم يعترف لهم بحق الحياة، وحق الوجود. وكتب طلعت باشا:

(يجب بأية ذريعة كانت »وإطلاع الموظفين سراً على ذلك« أن يعاقب كخونة للوطن، وكل أولئك الذين يؤمنون وجود الأرمن، الذين هم عنصر مزعج لتركيا منذ قرون طويلة، وقد سعوا في الأعوام الأخيرة لخنق تركيا كلها بالدم).

وفي وقت الانتشار الواسع لوباء التيفوس، جرى تنشيط طرد المنفيين من حلب بدرجة كبيرة، إلى حد أن رجال الشرطة والدرك كانوا يخرجون الأرمن المختبئين في البيوت، ويجرونهم أرضاً، ويربطونهم بالحبال كالخنازير. وكان يجري إخراج هؤلاء الأرمن البؤساء من المدن، هؤلاء الذين لم يبق لهم من ملجأ غير الله. وذات يوم قدم أرمني بائس التماساً، أعلن فيه أن كل أفراد عائلته المصابين بالتيفوس، قد قذف بهم إلى الشارع ومن ثم كدسوا في عربة الزبالة وأرسلوا إلى »قارلك« خارج المدينة. وكان المسكين يتوسل ويبكي، ويطلب الإذن بالبقاء ولو عشرة أيام على الأقل. ولم يكن هذا الرجل التعيس يعرف أنه محكوم عليه بالموت، وأن أحداً لن يشفق عليه. وطوال مدة تولّي الوظيفة، أرسل إلى إدارتنا عشرة آلاف التماس من قبل المنفيين الأرمن، ولم أر أنه أخذ بعين الاعتبار، ولو حتى عشرة منهم.

حتى أن امرأة بائسة من دياربكر، شوهد صحن بين يديها عليها شعار أرمينيا، فأخذت هذه الامرأة وصحنها إلى الإدارة العامة للمنفيين، وسئلت عن مصدر هذا الصحن وأجابت الإمرأة أن الصحن موجود منذ وقت طويل في عائلتها، وأنها لا تعلم تاريخ وجوده بالتحديد. وبعد هذا الجواب سجنت هذه المرأة في غرفة في مخفر الدرك، حيث عذبت لمدة تتراوح ما بين ثمانية وعشرة أيام من أجل إجبارها على القول من أين أتت بهذا الصحن. لكن المرأة المسكينة لم تكن تعلم شيئاً. وماتت في نهاية الأمر نتيجة لأعمال التعذيب هذه ونتيجة للجوع. إن فيزي أفندي، مفوض شرطة باب الفرج، ولدى ذهابه ذات يوم في الساعة الثامنة مساء إلى حي الجديدة، أخرج كاهناً أرمنياً من بيته (أصله من أنقرة) بذريعة سوقه إلى قارلك، وقتله بطلقات من مسدسه. ودفنت جثة الكاهن في المقبرة الإسلامية القريبة من الثكنة، وفي اليوم التالي أبلغت إدارة المنفيين رسمياً بذلك.

وكان يجري البحث عن شخص أسمه أرداشيس باعتباره مشبوهاً، وجرى البحث عنه وقتاً طويلاً دون جدوى. وأخيراً اعتقل شقيقه الذي لم يكن من الممكن توجيه أية تهمة إليه، وقد قتل في الطريق أثناء سوقه.

وبعد أن شهدت بأم عيني في حلب مئات ألوف المآسي، أرسلت إلى مسكنة كمأمور نفي. وساعة ذهابي سألني أيوب بك قائلاً:

-نعيم أفندي، لم نستطع الثناء على أي موظف نفي أرسل إلى مسكنة: لقد كنت معنا دائماً وأنت على اطلاع على الأوامر المتلقاة.

وحاول أن لا تترك هؤلاء الناس (الأرمن) أحياء. إذا اقتضى الأمر اقتلهم بيديك. إن قتلهم متعة.

وذهبت إلى مسكنة. وعلمت بالجرائم التي ارتكبها في “ابو حرار” عريف دركي. وبقيت هناك شهرين حيث لم أبعد سوى دفعة واحدة من المنفيين الذين لم يتجاوز عددهم الثلاثين. وحين كنت لا أزال في حلب وصلت البرقية التالية من استانبول:

برقية بالشيفرة من وزارة الداخلية إلى ولاية حلب.

(بالرغم من وجود إبداء حماس شديد لإبادة الأشخاص موضوع البحث “الأرمن”، علمنا بأن هؤلاء يرسلون إلى أماكن مشبوهة مثل سوريا والقدس. إن مثل هذا التساهل هو خطأ لا يغتفر. إن مكان نفي مخلين بالأمن من هذا النوع هو العدم، أوصيكم بالتصرف بالشكل اللازم.

أول كانون الأول 1915

وزير الداخلية طلعت.

لدى ذهابي إلى مسكنة، كان يوجد هناك مطران أزميت القديم. وكان معتكفاً في خيمته الصغيرة، ويقضي وقته بالتفكير بمصيره. وكان يقول لكل الذين كانوا يزورونه إن هذه المصيبة جاءت من الله، وأوصى الجميع بالحذر من ارتكاب الأخطاء. ولا يعلم أحد كيف أن هذا الرجل العاجز عن إيذاء أي كان، قد لفت انتباه مدير إدارة المنفيين.

وكتب لنا أيوب بك: »لديكم مطران أزميت، لماذا تركتموه عندكم؟ أبعدوه كي يموت في الطريق في زاوية ما«. ولم أكن أستطيع القول إن ذلك مستحيل وإننا لا نستطيع أن نفعل ذلك، لكننا لم نبعده.

وفي يوم آخر اعتقل كاهنان وأرسلا إلى مسكنة، والأمر الذي أعطي بصددهما كان صارماً جداً. فقد جاء فيه، بكل بساطة انه يجب قتلهما. ولم أبعد أيضاً هذين الكاهنين. وأبقيتهما. ولا أذكر اسمهما، لكنني أعتقد أن الاثنين موجودان حالياً في حلب.

إن المكان المسمى ديبسي، الذي يوجد بين مسكنة وأبو حرار، كان مسرحاً من أهم مسارح الجرائم. ففي المكان المذكور كان يقتل المحكوم عليهم بالإعدام ويقذف بجثثهم بالتالي إلى النهر، وكانت الهياكل العظيمة مكدسة في كل أنحاء مسكنة. واتخذت بكل بساطة منظر حقل عظام واسع.

ومن مدينة حلب وحدها، طرد مئتا ألف أرمني عبر طرق رأس العين ومسكنة، وبالكاد بقي على قيد الحياة ما بين خمسة آلاف وستة آلاف شخص. وقد قتل الأطفال وألقي بجثثهم إلى الفرات. وقتلت النساء على الطرقات بالحراب أو برصاص رجال الدرك والسكن.

برقية رقم 745، برقية بالشيفرة من وزارة الداخلية إلى ولاية حلب.

(علمنا أن بعض مراسلي الصحف، الذين يتجولون في منطقتكم، قد حصلوا على صور فوتوغرافية وأوراق، تمثل وقائع مفجعة وسلموها إلى القنصل الأميركي في مدينتكم. اعتقلوا واقتلوا الأشخاص الخطرين الذين من هذا النوع.

11 كانون الأول 1915

وزير الداخلية طلعت.

برقية رقم 809 إلى ولاية حلب.

(علمنا بأن ضباطاً من الأجانب يشاهدون عبر الطرق جثث الأشخاص المعلومين »الأرمن« ويصورونها. أوصيكم بإصرار أن تدفنوا فوراً هذه الجثث وأن لا تبقوها مرماة على الطرقات.

29 كانون الأول 1915

وزير الداخلية طلعت.

 

المصدر: من مذكرات نعيم بك، سكرتير أول لدى مدير عام مساعد لشؤون المنفيين ، مقطتفات من كتاب (مجازر الأرمن شهادات ووثائق) إعداد باروير يريتسيان، بيروت، 1986. (4)

مقتطف من كتاب “شهود عيان عن الإبادة الأرمنية في الإمبراطورية العثمانية (مجموعة وثائق) بمناسبة ذكرى مرور مئة سنة على الإبادة الأرمنية (1915-2015)”، إعداد وإشراف ودراسة: البروفيسور الدكتور آرشاك بولاديان، دمشق-2014، حيث ينفرد موقع “أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر مقتطفات منه.

 

 

Share This