الإسلام السياسي في تركيا

 

المهندس هامبرسوم اغباشيان

إن المتتبع لتطور الحياة السياسية في تركيا سيلاحظ ظهور احزاب ذات خلفية دينية في النصف الثاني من القرن الماضي ووصولها الى سدة الحكم عبر صناديق الاقتراع، وقيام المؤسسة العسكرية المتمثلة بالجيش المبني على المبادئ العلمانية بالحد من سيطرة هذه الاحزاب على الحياة السياسية في البلد ، وذلك اما عن طريق الانقلابات العسكرية كما حدثت في الاعوام 1960م و 1971م و 1980م او التهديد بذلك كما حدث في عام 1997م.

لقد قام كمال اتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية الحديثة،  بالغاء نظام الخلافة الإسلامية في عام 1924م (حيث يعتبر الخليفة ظل الله في الارض)، وارسى اسس دولة علمانية وذلك بفصل الدين عن الدولة، ويدعي خصومه من الاسلاميين على أنه لم يكتف بذلك فقط بل حارب الدين والتدين من خلال النظام العلماني الذي شرعه،  وإنه ربط تقدم البلاد وتطورها بالتخلي عن الهوية الإسلامية تاريخا وممارسة، وسيطر على الممارسة الدينية ومنع كل مظاهر التدين بإجراءات قانونية تحميها مؤسسات الدولة وأبرزها الجيش . مع بدء التعددية الحزبية عام 1945م استطاع الحزب الديمقراطي بقيادة رئيس الوزراء المنتخب عدنان مندريس، تشكيل حكومات متتالية في عقد الخمسينات، وفي عهده أصبحت الحكومة أكثر تسامحاً إزاء الممارسات الدينية فعادت تدريجياً بعض المظاهر الإسلامية للمجتمع، وتم فتح معاهد لتخريج الأئمة والخطباء وبناء المساجد. إلا أن الأمر انتهى بتدخل الجبش عام 1960م والحكم علي عدنان مندريس بالاعدام وشنقه.

بعد عقد من الزمن برز الاسلام السياسي في تركيا (الايمان بالإسلام باعتباره نظاما سياسيا للحكم) وحقق صعودا ملموسا منذ ذلك الحين حيث شهد عام 1970م أول ظهور علني للعمل السياسي الإسلامي بقيادة نجم الدين أربكان مؤسس حزب (النظام الوطني) الذي كان أول تنظيم سياسي ذو هوية إسلامية تعرفه الدولة التركية الحديثة منذ زوال الخلافة عام 1924م،  ولقد اسس اربكان حزبه بالتحالف مع الحركة النورسية  التي أسسها الشيخ سعيد النورسي (1873 – 1960م) والذي انشأ تياراً إسلامياً في محاولة منه للوقوف أمام المد العلماني  الكمالي الذي اجتاح تركيا عقب سقوط الخلافة العثمانية.

لم يصمد حزب اربكان (النظام الوطني) طويلا حيث تم حله بقرار قضائي من المحكمة الدستورية بعد إنذار من قائد الجيش بدعوى توجهه الإسلامي ومعارضته للنظام العلماني ونيته إقامة دولة دينية. وجاء انقلاب 1971م وما تبعة من الفوضى السياسية  في البلاد، والتدخل المباشر من قبل  الجيش  في الشؤون السياسية،  ليؤثر مباشرة على نشاط الاسلاميين، ولكن مع هذا استطاع اربكان من تأسيس حزب اسلامي جديد تحت اسم (السلامة الوطني) عام 1972 م والذي شارك في الانتخابات العامة وفاز بعدد من المقاعد الكافية للمشاركة في حكومة ائتلافية في مطلع عام 1974 م مع حزب الشعب الجمهوري برئاسة بولنت اجاويد. ولاحقا تراجع الحزب في الانتخابات النيابية عام 1977م وفقد الكثير من المقاعد في البرلمان لكنة ظل في الائتلاف الحكومي حبث قام اجاويد بتشكيل حكومة جديدة مع سليمان ديميريل رئيس حزب العدالة عام 1977م. وفي نهاية عام 1978م طالب المدعي العام التركي بفصل أربكان من رئاسة وعضوية حزب (السلامة الوطني) بتهمة استغلال الدين في السياسة، ولم يهدأ اريكان فلقد قدم في صيف عام 1980م  وهو خارج الحكومة  مشروع قانون إلى مجلس النواب يدعو فيه الحكومة إلى قطع علاقاتها مع إسرائيل، وأتبع ذلك مباشرة بتنظيم مظاهرة ضخمة ضد القرار الإسرائيلي بضم مدينة القدس. كانت المظاهرة من أضخم ما شهدته تركيا في تاريخها المعاصر، الأمر الذي اعتبر استفتاء على شعبية الإسلام السياسي.

لم يتاخر الجيش طويلا فلقد نفذ انفلاب سبتمير 1980م  بقيادة الجنرال كنعان ايفرين الذي أطاح بالائتلاف الحاكم ليعطل الاتجاه المتزايد نحو الورع الديني، وإعاد القوة للتيار العلماني وشكل مجلس الأمن القومي وعطل الدستور وحل الأحزاب وقام باعتقال الناشطين الإسلاميين ومن بينهم اربكان إلى جانب الناشطين اليساريين. إلا أن هاجس انتشار المبادئ الاشتراكية والماركسية واليسارية في المجتمع التركي دفع بحاملي راية العلمانية إلى استخدام الدين كسلاح فعال لمواجهة هذه المبادئ، فخففوا من الضفط على الحركات الاسلامية وامتنعوا عن التدخل في أنشطة الجمعيات الدينية ، وأصبح التعليم الديني إجباريا في المدارس، وصار المد الإسلامي في الحياة الاجتماعية التركية ملحوظاً، وانتشرت المعاهد الدينية التركية التي يطلق عليها اسم “معاهد إمام ـ خطيب” التي درس فيها العديد من السياسيين ومنهم الرئيس الحالي اردوغان. ولم يلبث تورغوت أوزال ، عند تسلمه رئاسة الوزراء عام 1983م أن تبنى سياسة إسلامية معتدلة ، فسمح بارتداء الحجاب وبقيام مؤسسات الأوقاف، كما فتح المجال أمام مزاولة نشاط رابطة العالم الإسلامي في تركيا. وفي إطار موجة الانفتاح على الحريات تم اطلاق سراح العديد من السياسيين المعارضين ومنهم اربكان الذي قام  بتاسيس حزب (الرفاه) كامتداد لحزب (السلامة الوطني) الذي ألغته المؤسسة العسكرية في عام 1981م، وحرص حزب الرفاه على التمسك بالخيارات التي تجمعه مع الإسلام السياسي في العالم العربي والإسلامي والمتمثلة في مواجهة النموذج الغربي وثقافته. وبعد تقوية التيار الاسلامي وتوسع نشاطاته في الحياة السياسة التركية، شكل نجم الدين أربكان في حزيران 1996م حكومة برئاسته وبالائتلاف مع حزب الطريق القويم برئاسة سليمان ديميريل ليصبح بذلك أول إسلامي يصل لقمة السلطة السياسية في تاريخ الدولة التركية الحديثة.

بدأت الحكومة بتبني الخطاب السياسي الاسلامي ولكنها انخرطت في قواعد اللعبة السياسية وسعت للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وبفيت تركيا في حلف شمال الأطلسي، وخفف الاسلاميون لهجة انتقاداتهم لأوروبا والولايات المتحدة، ولم يعترضوا على تطور العلاقات العسكرية التركية الإسرائيلية (مع العلم بانهم طالبوا الحكومة سابقا عندما كانوا هم خارج الحكم بقطع العلاقات مع اسرائيل). ومارس الاسلاميون اللعبة السياسية بانتهازية واضحة مع تغطية دينية للحفاظ على الرصيد الشعبي والسياسيى. ولكن  الجيش والأحزاب العلمانية كانوا لهم ولزعيمهم نجم الدين أربكان بالمرصاد ، فقدم الجنرالات إلى أربكان بعد التهديد بانقلاب عسكري مجموعة طلبات لغرض تنفيذها على الفورمن ضمنها وقف كل مظاهر النشاط الإسلامي في البلاد سياسياً كان أم تعليمياً أم متعلقا بالعبادات، فكان أن اضطر أربكان إلى الاستقالة من منصبه في حزيران 1997م لمنع تطور الأحداث.  أصدر بعدها مجلس الأمن القومي جملة من الإجراءات الصارمة ضد التيار الإسلامي، ومنع نجم الدين أربكان وقياديين اخرين من حزبه من ممارسة اي نشاط سياسي لمدة 5 سنوات، وهدفت هذه الإجراءات إلى القضاء على أدنى احتمال لعودة الحركة الاسلامية الى الحياة السياسية وثم حظر حزب (الرفاه) في عام  1998م. ولقد تحول حزب (الرفاه) بعد الحضر إلى حزب الفضيلة بزعامة احد معاوني اربكان والذي تم حله أيضا في 2000م ، ثم استقر أخيراً على اسم حزب السعادة عام 2003 بعد انتهاء الحضر على اريكان الذي حكم علية لاحقا بتهمة اختلاس اموال من حزب الرفاه المنحل، وحكم عليه بالسجن وانتهت حياتة السياسية، وسجل التاريخ بكونه احد ابرز قادة الاسلام السياسي في تركيا الحديثة.

في عام 2001م تم تاسيس حزب (العدالة والتنمية) من قبل مجموعة من الشباب الذين ترجع جذورهم الى حزب الرفاه الإسلامي وبنيته الفكرية الإسلامية، ولكنهم انشقوا عن تياره، بقيادة عبد الله غول ورجب طيب أردوغان واخرين وكونوا حزبهم الجديد، وانتخب رجب طيب أردوغان لقيادة الحزب وهو خريج معاهد (إمام – خطيب) شأنه شأن معظم قادة الحزب، وكان اردوغان  قد خرج من السجن بعد إدانته بتهمة التحريض على التعصب والنيل من العلمانية، حيث قضى عدة أشهر في السجن عام 1999م بسبب خطبة سياسية اعتبرتها المحكمة تحريضية لما أورد من أبيات شعرية قال فيها )أن المساجد ثكناتنا، والقبب خوذنا، والمآذن مدافعنا، والمؤمنون جنودنا وهذا الجيش يحمي ديننا(، كما صدر حكم بحظر نشاطه السياسي مدى الحياة غير أنه ألغي بمقتضى عفو عام صدر في ديسمبر 2001م .

ظفر حزب العدالة والتنمية في عام 2002م بحق تشكيل الحكومة بعد حصوله على أغلبية برلمانية متمثلة بـ 363 مقعداً من أصل 550 مقعد في الانتخابات التي جرت في تشرين الثاني من نفس العام وقام عبد الله غول بتشكيل الحكومة من دون الحاجة الى دعم بقية الاحزاب ، وقد عدّ ذلك بمثابة مؤشرا على وجود اتجاه شعبي عارم يرغب باستعادة الوجهة الإسلامية لتركيا. وفي عام 2003 م اصبح عبد الله غول رئيسا للجمهورية ليشكل اردوغان وزارتة الاولى عام 2003م والثانية عام 2007م والثالثة عام 2011م وليكمل بعدها مسيرتة السياسية وينتخب رئيسا للجمهورىة في عام 2014م ، وهو منصب يفترض أن يكون شرفيا وفقا للدستور التركي، ولكن طموحات اردوغان لم تقف عند هذا الحد فازاح رفيق الامس الاستاذ الجامعي والسياسي المحنك احمد داود اوغلو من رئاسة الوزارة التي عينه فيها، وعين بدلا منه بن علي يلدرم المتوافق معه في تنفيذ ما عكف داود اغلو عن تنفيذه، وبذلك مهد اردوغان الطريق لتحويل نظام الحكم الى نظام رئاسي عن طريق التصويت حيث صوت 53.1% من المشتركين بنعم  ليكون اردوغان الحاكم بامره بعد كل تلك الصلاحيات التي حصل عليها.

لقد قدم اردوغان نفسه في البداية كسياسي منفتح على الغرب ومستعد لقيادة بلده ضمن قواعد اللعبة الديمقراطية والليبرالية الغربية وبذلك اعتبره الغرب النموذج المطلوب لقيادة الدول الاسلامية وقرر مساندته. ولكن لم يدم ذلك طويلا اذ كشر اردوغان عن انيابه واعلن بأن الإسلام والعلمانية لا يمكن أن يتعايشا معاً، وبدأ بالحد من مظاهر العلمانيه وقاد البلاد نحو الاسلمة. ولقد أثارت طريقة تعامله بالقوة المفرطة مع المعارضين ومطاردة الصحفيين وسجنهم واستخدام القضاء لإسكات خصومه السياسيين استياء المراقبين في الداخل والخارج. وفي نفس الوقت بدأت العلمانية بفقدان مواقعها وتاثيرها على الشارع السياسي التركي وكان من الطبيعي ان يتحرك الجيش للدفاع عن العلمانية والحد من التطرف الاسلامي الذي بدأ يتحول اليه سياسة البلد، ولكن تحرك اردوغان بسرعة وقام بتقليم اظافر الجيش مبكرا وحاكم مجموعة كبيرة من العسكريين وزج بالعديد منهم في السجون بتهمة التامر على النظام ،(حركة ارجينيكون)، وادى ذلك الى استقالة قادة الجيش والقوات البحرية والجوية، واطلق اردوغان العنان لأجهزة الدولة عام 2013 كي تخمد احتجاجات واسعة في اسطنبول والتي تركزت في حديقة غيزي، وامتدت الاحتجاجات إلى مدن أخرى، وشارك فيها أتراك علمانيون تساورهم شكوك بشأن الميول الإسلامية لحزب العدالة والتنمية.

ويجدر بالذكر هنا بانه مع بزوغ نجم حزب (العدالة والتنمية) وتوليه زمام السلطة، نشأ حلف غير معلن بينه وبين جماعة الداعية فتح الله غولن، التي يطلق عليها اسم (هزمت – الخدمة) المتجذرة في المجتع التركي منذ عشرات السنين، وحصلت من خلاله الأخيرة على الكثير من الامتيازات، من نواب ووزراء وحرية عمل وانتشار في مقابل تصويت أعضاء الجماعة لحزب العدالة والتنمية. إلا أن شهر العسل هذا لم يدم طويلا، وبدأ ظهورالخلافات بين الطرفين واعتبر البعض بان حزب (العدالة والتنمية) تقصد مواجهة الجماعة وإضعافها لشعوره بانتشارها في مفاصل الدولة وقوتها المتزايدة واعتبرتها (التنظيم الموازي) لسلطتها، بينما اعتبر اخرون أن جماعة فتح الله غولن هم الذين استعجلوا هذه المواجهة من خلال مواقفهم التي أغضبت أردوغان وحزب (العدالة والتنمية) واعتبرت هذه المواقف بمثابة تحضير لانقلاب من قبل فتح الله غولن وجماعته على الحكومة ورئيسها.

واخيرا تحرك الجيش وشهدت تركيا في 15 حزيران 2016 محاولة انقلابية عسكرية فاشلة اخمدت بسرعة مما دعى المراقبين للسؤال عن من اعطى الضوء الاخضر للجيش هذه المرة للتحرك ؟

اتهم الرئيس التركي رجب طيب اردوغان حليفه السابق فتح الله كولن بتدبير الانقلاب الفاشل  فيما نفى كولن هذه التهمة وأعلن رفضه للانقلاب. ولقد صرح كمال كليجداراوغلو زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض وحسب موقع (www.al-monitor.com) في 8 اب 2017، بان الانقلاب كان ( مسيطرا عليه) ويقصد انها كانت تحت سيطرة الحكومة، بينما صرح عضو البرلمان  واحد اعضاء حزب الشعب الجمهوري مصطفى اكايدن وحسب نفس المصدر بان الانقلاب الفاشل كان عرضا مسرحيا.وبالرغم من كل الذي قيل ويقال في هذا الموضوع فان اردوغان ضرب عدة عصافير بحجارة واحدة، فمع تصفية عناصر حليفه السابق كولن ، استطاع تصفية خصومه العقائديين في الجيش وعين ثلاثة من انصاره في القيادات الرئيسية ( البرية والبحرية والجوية)، واستطاع تخفيف معارضة حزب الشعوب الديمقراطي وذلك بزج قياداتة في السجون وطالت عقوباتة اخيرا حزب الشعب الجمهوري، ويبدوا انة سيستمر في تصفية معارضيه واسكات خصومه ليصفى الجو له تماما وسينتعش الاسلام السياسي حسب اجتهادات اردوغان واتباعه، وفي المقابل سوف يلملم الجيش جراحاته ويتهيا من جديد وستكمل المعارضة مسيراتها الاحتجاجية، واذا نجحت في توحيد صفوفها واستغلال اخطاء اردوغان ونهجه الدكتاتوري فسوف تستطيع اسقاطه عبر صناديق الاقتراع وبدعم من الجيش ليبزغ من جديد فجر العلمانية وينتصر على الاسلام السياسي.

لوس انجلوس – كاليفورنيا

آب 2017

 

Share This