ديار بكر

 

في غرّة تشرين الثاني 1895 شبّت نيران الاضطهاد على المسيحيين عموماً وعلى الأرمن خصوصاً في بلاد أرمينية. فشمَّر وجهاء المسلمين بدياربكر كجميل باشا واولاده وبهرم باشا وعبد القادر باشا ابن الحاج جرجيس آغا المارديني وبكر افندي محرّم زاده ونظيف بك ابن سعيد باشا ونيازي مأمور الشعبة وعارف برنج وابراهيم افندي صاحبه والحاج مسعود نقيب الأشراف وغيرهم وكتبوا إلى جميع الأكراد والعشائر يستعدّونهم على النهب والقتل. ووعدوهم أن حين حضورهم إلى دياربكر يدفعون لهم الأسلحة الكافية ليفتكوا بالنصارى ويحتووا على أموالهم. ثم صرّحوا لهم أن يوافوا عند الظهيرة إلى جامع ولي جامي ويُطلقوا البنادق وينادوا “محمد صلوات” فيخرج من بالجامع وينضمون إليهم ويقصدون كنائس النصارى ودورهم وأسواقهم ليقتلوا ويسبوا. فما كان من الأكراد إلا أن لبّوا الطلب واقبلوا بلفيفهم طبقاً للمؤآمرة. وقصدوا الجامع المرقوم واطلقوا البنادق فخرج المسلمون واستبشروا بقدومهم وراحوا يرومون الأسواق والمنازل. فبادر الأرمن ليقفوا على الخبر فلما لمحهم المسلمون والأكراد صوبوا نحوهم الرصاص فقتلوا منهم قسماً صالحاً وادعوا انهم هم الذين هجموا عليهم غفلة ليفتكوا بهم في الجامع. ثم ساروا الى المخازن والدكاكين وقتلوا من بها ونهبوا قدر ما أطاقوا وعند غروب الشمس قلبوا زيت البترول على مابقي بها من البضائع واحرقوها كلها فأمست دياربكر كلها عبارة عن اتون عظيم لا ترى سوى الدواخن صاعدة في الجو.

فلما رأى ذلك النصارى أيقنوا بالهلاك والتلف واستحوذت عليهم الرعبة فقصد منهم كنيسة الكبوشيين ودار القنصل الفرنساوي حتى انه اجتمع في اوجز مدة عند الأب يوحنا الكبوشي زهاء أربعة آلاف نسمة واستمروا لديه ثلاثة ايام بلياليها كان يرسل اليهم الخواجا جبور قزازيان وجيه الأرمن الكاثليك ما افتقروا إليه من القوت وواصل ذلك العمل مدة عشرين يوماً فاستوجبت أريحيته الأثنية الكريمة وخلف الذكر الطيب في قلوب جميع المنكوبين.

أما القنصل الفرنساوي فلما شاهد المسلمين والأكراد هائجين صعد الى سطح القنصلية وتناول الراية واخذ يرفعها ويخفضها طالباً النجدة والمغوثة. فأوفد انيس باشا الوالي إلى داره عشرين جندياً ليحموه. وثابر المسلمون والأجلاف يقتلون وينهبون حتى صباح الاثنين رابع تشرين الثاني. فخرج عند ذاك الوالي والمطران عبدالله في نفر من الجند وطافوا أزقة المدينة يحرجون الضرب والسلب على المشغبين. أما الأرمن فلزموا بيوتهم يضربون من تعرَض لهم. وخرج الخواجا اوسيب قزازيان كبير الأرمن الكاثليك الى دار الحكومة يسأل الوالي أن يلقي القبض على أصحاب الفتنة لتسود الطمأنينة. فلقيه الوالي بأنف طويل ولم يكترث لطلبه. وما عتم أن أرسل في استدعائه وزجه في السجن وأوقف معه الورتبيت ايزاكيل مرخص الأرمن الغريغوريين وهاكوب آغا كوبنكيان وميناسيان ومنديلجيان وظلوا في السجن حتى 20 كانون الثاني.

وسبق الوالي فأرسل في طلب البطريرك عبدالمسيح من ماردين فركب من ساعته وقصد الولاية وما كاد يصل حتى سمع صوت اطلاق البنادق فاستدعى شاباً سريانياً دفع اليه رسالة ليوصلها الى الوالي يعلمه بقدومه. فتناول الشاب الرسالة وسار وما ان  وصل إلى سوق ميليك أحمد جتى تعرض له الأجلاف وقتلوه ووجدوا الرسالة في عبّه فمضوا بها إلى الوالي لايدرون ما مضمونها. ولما طالعها الوالي أمر الفريق بإرسال شرذمة من العسكر إلى كنيسة السريان ليحموها. فسارع كثير من النصارى إلى الكنيسة المذكورة حتى احتشد فيها ثمانية آلاف نسمة في برهة يسيرة وانهزم أيضاً قوم من القرى المجاورة وأتوا فانضموا إليهم.

ثم أوفد الوالي في طلب البطريرك فسار إليه في حاشيته وكانوا يطأون جثث القتلى بأقدامهم. وألفوا دار الحكومة غاصةً بالعشائر وهم محترطون السيوف المضرّجة بدماء البشر. وكان عند الوالي اذ ذاك كبار المسلمين يتشاورون. فما سمعوا بقدوم البطريرك حتى أرفض المجلس وانصرف كلّ إلى محله. فدخل البطريرك فاستقبله الوالي باكرام وقال له اصدر الأمر إلى عامة المسيحيين ليدفعوا للحكومة ماعندهم من الأسلحة فوعده البطريرك بذلك. وعند عودته أوفد معه نظيفاً وبكراً أفندي فاقبلا إلى الكنيسة في جماعة من العسكر وبحثوا عن الأسلحة فلم يجدوا شيئاً فانقلبوا راجعين وباغتوا هم والأكراد دور الوجهاء ونهبوها وقتلوا من شاؤا واستحيوا من شاؤا وكسروا صناديق الجواهر واختلسوها وسلبوا البضائع والأمتعة وظلوا كذلك ثلاثة أيام.

أما أهالي ماردين المتوطنين بدياربكر فإن بطريرك السريان جال الخانات والبلد في طلبهم وأحضرهم إلى الكنيسة وعين لهم الغذاء. وبعد أيام حضر البريد إلى ماردين مع عشرين ضابطاً حاملين الرسائل من وجهاء دياربكر إلى المسلمين يقولون لهم »لو كنتم حقيقة مسلمين لافتعلتم بماردين ما افتعلنا بدياربكر« فنشِّم المسلمون في الشر طبقاً لمشورتهم كما سترى.

واستمر نصارى دياربكر في الأخطار والمخاوف حتى 18 كانون الأول 1895 فحضر من العاصمة ثلاثة مفتشين وهم سامي بك وعبدالله باشا الفريق ويوسف رشدي. فسار الرؤساء الروحيون لزيارتهم فاستقبلوهم بالإكرام. ثم اندفع سامي بك يطمئنهم ويؤمنهم ونشر ورقة يقرأ فيها ما نصه بتصرف »لقد تحقق لجلالة مولانا السلطان ما جرى من الوقائع المزعجة في بعض انحاء الأناضول كسامسون وسيواس ومعمورة العزيز ودياربكر لسبب ثورة الأرمن وبناءً على طلب رؤساء الولايات من الأعتاب الشاهانية قد صدرت الإرادة السنية بإرسالنا للتفتيش عما جرى واتخاذ الوسائل الفعالة لاصلاح الولايات وارجاع الراحة والطمأنينة إليها. فغادرنا العاصمة وطفنا تلك الولايات فرأينا أن ما حدث فيها من الفظائع يفوق ما جرى في دياربكر فتأسفنا لذلك مزيد الأسف«. ولا يخفى أن ما حدث حدث بدسائس البعض من الدول الأجنبية وفي مقدمتها الدولة الانكليزية فإنها ألقت الفساد في قلوب الأرمن فهاجوا في العاصمة وهجموا الباب العالي ظانين أنهم يفوزون بخبيث مأربهم.

ولم يكُ ذلك لمنافع الأرمن بل لمنافع الانكليز اذ كانوا يحاولون ابتلاع البلاد دون غيرهم. فالذين اصاخوا لهم ركبوا طرقاً خشنة وصمموا على سحق عرش الدولة العلية خلافاً لإرادة مولانا السلطان وأوامر انجيل سيدنا عيسى كما هو مقرّر في كتبكم “إن من قاوم أوامر السلطان قاوم أوامر الله” فأعداء الدولة ألقوا المشاغب في بعض المماليك المحروسة ليسببوا الأضرار لعموم التبعة. فتأتي من ذلك أن الضرر شمل الدولة والملة معاً وتناول عامة المسلمين والمسيحيين. مع أن الدولة لاترغب إلا راحة عموم المنتمين إليها. على أن الرعية كلها في نظر الحكومة متساوية لافرق عندها بين المسلم والمسيحي طبقاً للشريعة الإسلامية والنظامات السنية. ومما يؤيد ذاك انعامات جلالة مولانا السلطان عبدالحميد خان الثاني على المسيحيين بالرتب السامية والأوسمة الشريفة. لأن المسلمين والنصارى في نظره هم على حد سوى. ولا فرق بين مال المسلم والنصراني.

واعلموا أن ماقلناه منقول عن لسان الذات الشاهانية وها أننا بفضلها متخذون الاحتياط اللازم لراحة العموم. ولا يغلب على ظنكم أن الحقوق تُهضَم. كلا » بل لابد من أن يعود لكل حقه«.

ثم استتلى سامي بك يقول: أننا قبل حضوركم أرسلنا في طلب وجهاء المسلمين وبلغناهم الأوامر وصرحنا لهم بأنهم هم والنصارى في عين الدولة ملة واحدة. وأن المعتدي والجسور لابد من معاقبته. وأوصيناهم أن ينبهوا سائر المسلمين ليحجموا عن الثورة. وأملنا أن المسلمين والنصارى منذ الآن فصاعداً يعودون إلى ما كانوا عليه من الألفة والسلام. ونرغب اليكم أنتم أيها الرؤساء الروحيون أن تبلِغوا أفراد طوائفكم ما بلغناكم. وترفعوا الأدعية لمولانا السلطان ليزداد اقبالاً وانتصاراً على الدوام.

وبعد هذا رجع الرؤساء الروحيون إلى كنائسهم. أما الخواجا اوسيب قزازيان وأصحابه المسجونين فإنهم رفعوا الى إلمفتشين عريضة ليخرجوهم من السجن فآتاهم الأمر في 20 كانون الثاني 1916 بالذهاب إلى العاصمة فاستصحب الخواجا اوسيب ابنه اوهنيس وحنا ابن أخيه وسافر معهم أربعة من وجهاء دياربكر المسلمين في شرذمة من الجند لمحافظتهم.

وحضر بعد هؤلاء ثلاثة مفتشين آخرين وهم شاكر باشا وماردو قردادو الرومي وتحسين بك عرب وحلُّوا ضيوفاً في دار بهرم باشا عند باب الجبل. ووافى إلى دياربكر في خامس شباط 1896 مفتشان آخران أحدهما روم ملكي اسمه اغوب باشا ونزلا في دار الحاج جرجيس آغا فأفادهما أن عارف افندي برنج وأحزابه كانوا أصل الفتنه. وفي 13 شباط شدَّ المسلمون على اكوب خانجي في خان العباجية ومضوا به إلى دجلة فقتلوه والقوه في النهر وعادوا. فاستحضرت الحكومة جثته إلى الولاية ولما سمعت امرأته قصدت المفتشين وبلّغتهم أن ياسين آغا هو قاتل زوجها فلم يكترثوا لمدعاها وفي 29 آذار شخص إلى دياربكر معاون للوالي يقال له وغلهري وكان رومياً.

وعند ذاك أطلقت الحكومة للنصارى الحريّة في السفر إلى حيث يشاؤون. فغادر الولاية زهاء ثلاثمائة بيت في مدّة شهر ونصف. وباعوا أموالهم ودورهم بأبخس الأثمان . وفي 15 نيسان توجه إلى الأستانة اوهنيس وعبد المسيح قزازيان في أسرتيهما.

أما المفتشون فبعد أن مكثوا زماناً في دياربكر سار عبدالله باشا أحدهم إلى الموصل وتوجه الاثنان إلى خربوط وظلّ القومندان بدياربكر. وفي السادس من  أيار خرج انيس باشا الوالي إلى القرى المجاورة يتعهدها وينظر ماحل بها. وفي 15 حزيران وافى إلى ماردين عارف افندي برنج ونزل ضيفاً في دار سرّي افندي رئيس البلدية ثم نُفي إلى الموصل وعاد إلى العاصمة.

السعديّة

السعديّة قرية إلى شرقي دياربكر تبعد عنها ساعتين كان أهلها أرمناً وسرياناً يبلغ مجموعهم ثلاثمائة نسمة. ويوم الجمعة غرّة تشرين الثاني 1895 وثب عليهم أعلاج الأكراد وقتلوا الرجال والأطفال وسبوا النساء والبنات ونهبوا الدور والدكاكين أما بقية المسيحيين فانهزموا إلى الكنيسة وأغلقوا الأبواب فدمر الأكراد والجنود ونقبوا سطح الكنيسة وصبّوا عليهم زيت البترول وأحرقوهم قاطبة. أما الذين انهزموا من الأبواب فأحتفُّ بهم الأكراد وثاوروهم بالخناجر والسيوف وذبحوهم. ولم يبق من النصارى سوى ثلاثة رجال فقط لبثوا تحت جثث القتلى حتى انكشف عنهم الأعداء فخرجوا الى دياربكر ونجوا من القتل.

ميافرقين

ميافرقين بلدة قديمة أورد ذكرها المؤرخون البيعيون في القرن الرابع للمسيح واشتهر فيها خاصة مطرانها القديس ماروثا 421 تقريباً. وأهلها أرمن وسريان وبزتستان يبلغ مجموعهم زهاء ألف نسمة. ويوم الجمعة عينه ثار الأكراد بنصاراها وقتلوهم ونهبوا أموالهم وسبوا نساءهم ولم يفلت منهم سوى اثني عشر رجلاً وثلاث نساء. وكان في تلك القرية ثلاثة ماردينيون فرّ الاثنان إلى الولاية أما الثالث وهو ايليا مورو فانه جاهر بالإسلامية ونجا من القتل.

واحتشد في الكنيسة زهاء سبعمائة نسمة فانقضّ عليهم الأعلاج وأحرقوهم بزيت البترول. غير أن أولاد بدويل توماس الثلاثة لاذوا بمغارة داخل الكنيسة وظلوا ثلاثة أيام صائمين ثم خرجوا. وشدَّ الأكراد على بيت صادفوا فيه امرأةً حسناء فافترشوا عرضها وركبوا منها الفاحشة بحضور زوجها فرفع الزوج يده ليضربهم فأوثقوه وقطعوا يديه ورجليه وفتكوا به وانقلبوا الى المرأة فبتروا يديها ورجليها واستحيوها وكان لها رضيع في المهد تعذّر عليها أن ترضعه فمرّ بها رجل خير وأحضرها إلى الولاية وكانت تعضّ بنواجذها على طفلها وترضعه الحليب. وظلّت كذلك حتى تصرمت حياتها.

المصدر: من فصل (القصارى في نكبات النصارى، للعلامة الأب اسحق أرملة السرياني، الطبعة الأولى- 1919)، ديار بكر، ص43-55 (3).

مقتطف من كتاب “شهود عيان عن الإبادة الأرمنية في الإمبراطورية العثمانية (مجموعة وثائق تاريخية)، إعداد وإشراف ودراسة: البروفيسور الدكتور آرشاك بولاديان، دمشق-2014، حيث ينفرد موقع “أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر مقتطفات منه.

 

Share This