يوميات كاراباخ … مكان اللقاء الأوبرا

كانت ساحة الأوبرا -وأصبحت الحرية لاحقاً- تشكل مركزاً لتجمع الشعب الأرمني في الأسبوع الأخير من شباط عام 1988، وكانت الساحة تجذب الأرمن كالمغناطيس من يريفان والمدن والقرى الأخرى، غيّر الأسبوع الأخير من شهر شباط حياة المخرج السينمائي ديكران خزماليان كلياً، فلم يعد الشاب العاشق للروك أند رول والسينما الفرنسية والأدب الروسي يستمر في العمل في جامعة يريفان الحكومية، لأن العالم من حوله كان يتغير، ويقول خزماليان: “حتى سومغاييت كانت حفلة أرمنية راقصة خاصة، كتبت لاحقاً في أفلامي ومقالاتي أن شعارات الثورة الفرنسية: الحرية والعدالة والأخوة قد تحققت في القرن العشرين، بدا الأسبوع الأخير من شهر شباط لنا ثورة حقيقية، دخلنا في المعمعة، انصقلنا، وخرجنا أناساً مختلفين تماماً”[1].

يعد رافايل غازاريان العضو المؤسس في لجنة “كاراباخ” شهر شباط عام 1988 والعامين التاليين من الصفحات المشرقة في تاريخ الشعب الأرمني، كان الناس المتجمعون في ساحة الحرية يرون أن قضية كاراباخ ستحل عاجلاً، وأن موسكو ستفصل الإقليم من أذربيجان، وتنقله لأرمينيا، وبذلك تعود العدالة التاريخية.

ويقول غازاريان: “منذ البداية أخذ إيكور موراديان القيادة كاملة، وتجمع حوله أشود مانوتشاريان وهامبارتسوم كالسديان وألكسان هاكوبيان وآخرون، منذ البداية كنا مندهشين من أن مئات الآلاف يستمعون إلى خطاباتنا، ويؤمنون بها، وينتظرون الحلول والمقترحات والتوصيات”[2].

في 18 شباط جرت تظاهرة لعمال أحد المعامل في مدينة أبوفيان، حين انطلق عدة مئات من الأشخاص باتجاه يريفان سيراً على الأقدام احتجاجاً على مشكلات تتعلق بمضار التكنولوجيا والمطالبة بإغلاق المعمل.

غادر رئيس الحزب الشيوعي في أرمينيا كارين ديميرجيان مع زوجته إلى موسكو، يومها جرت مظاهرة حماة البيئة، فقال كارين بأن مظاهرة كاراباخ ستنطلق غداً، لم يكن هناك شيء مفاجئ له، كان يقول إن القضية لن تحل الآن، لم تنضج بعد، كان يفكر في رفع وضع كاراباخ لتصبح جمهورية ذات حكم ذاتي، وتشير مذكراته إلى أنه اتفق مع ليكاتشوف على ذلك”[3]، تقول ريما ديميرجيان زوجة رئيس أرمينيا السوفيتية.

يتذكر رئيس وزراء أرمينيا حينها فادي سركيسيان، ويقول: “بدأت التجمعات الكبيرة الأولى حول معمل أبوفيان، ومن الواضح أن المنظمين استخدموها حجة. في 18 شباط عدت من موسكو، وقابلت المتظاهرين عند مدخل مبنى الحكومة، وكان نائبي فلاديمير موفسيسيان يلتقي بممثليهم في القاعة في الداخل، كان عددهم بين 50 و60 شخصاً، جلست وشاركت شخصياً في اللقاء”[4].

وافق المتظاهرون على اقتراح تشكيل لجنة اختصاصية لدراسة الوضع، وفي الأيام المقبلة بدأت في ساحة الأوبرا التجمعات التي لا تمت إلى مشكلات البيئة بأي صلة، الموضوع المركزي كان كاراباخ.

أما زوري بالايان، أحد قادة الحركة، فيصف الموضوع على النحو التالي: “تجمعنا في ساحة الأوبرا بشعارات تخص البيئة فقط، بينما كان أحدهم يقول مثلاً: “كاراباخ هي أرض أرمينيا التاريخية”، لم يعره أحد أي انتباه، وفي التجمعات التالية ازدادت بعض الشعارات المشابهة. عندما كان إيكور موراديان يقود الناس إلى الساحة كان يحمل معه صور كورباتشوف، وكان شعاره الذي اخترعه بنفسه: “لينين، الحزب، كورباتشوف”. وبعد ثلاثة أسابيع اخترع شعاراً جديداً: “ستالين، بيريا، ليكاتشوف”، وبهذا المنحى تأقلم الناس مع فكرة أنه عدا مشكلات معمل (نايريد) الكيميائي وبحيرة سيفان، يمكنهم الحديث عن مسائل وطنية أيضاً، بعد شهر كانت عبارات معمل (نايريد) وبحيرة سيفان تذكر مدة 5 دقائق فقط”[5].

أول مرة في الاتحاد السوفيتي بدأت حركة وطنية جماعية، وعدّت تحدياً للنظام السوفيتي والحزب الشيوعي الأحادي السلطة، كتب ليفون دير بيدروسيان أول رئيس جمهورية لأرمينيا: “أول مرة في تاريخ البلاد اتخذت المجالس الإقليمية والعليا في كاراباخ الجبلية وأرمينيا من الأسفل وبإرادة الشعب، وليس بأوامر تنزل من الأعلى، وجرت تجمعات بمئات الآلاف في كاراباخ الجبلية وأرمينيا فاقت بتعدادها وتنظيمها وتواردها الاتحاد السوفيتي والعالم كله”[6].

في مساء 22 شباط عام 1988 رن الهاتف في مكتب كارين برودينتس المستشار الأرمني من كاراباخ لرئيس الاتحاد السوفيتي، إنه ميخائيل كورباتشوف. يذكر برودينتس الكلمات الأولى لقائد الدولة: “يا كارين، عليك الذهاب إلى استيباناكيرد، فالشعب يغلي هناك، لقد خرج عن السيطرة، خذ معك من تريد وانطلق، ما نشر من معلومات شحيحة في الصحف حينها تذكرنا اليوم بالنزاع، حينها كانت حقاً أحداثاً ثورية”، كتب برودينتس[7].

كانت الصحافة السوفيتية المركزية أحادية الطرف فيما يخص توضيح الأحداث في كاراباخ، كتبت “برافدا” و”إزفيستيا” بعض الأسطر فقط بأن مجموعة من المتطرفين والقوميين نظموا تجمعاً في يريفان.

يصف أحد أعضاء لجنة “كاراباخ” المرحوم هامبارتسوم كالسديان الأيام الثورية بقلمه الحاد والساخر كالتالي: “لقد شعر شعبنا النبيل بالإهانة كثيراً من الكلمتين: القومية والتطرف، وتضاعف عدد المشاركين في التجمعات أكثر فأكثر”[8].

كانت التجمعات اليومية، التي بدأت في يريفان، تأتي بأناس جدد إلى الساحة، في 25-26 شباط جرت أضخم مظاهرة في تاريخ الاتحاد السوفيتي، وفي بعض الإحصاءات طالب نحو نصف المليون والمليون أرمني بضم كاراباخ الجبلية إلى أرمينيا، واستقبل رئيس أرمينيا السوفيتية كارين ديميرجيان حينها عدداً من المشاركين في المظاهرات، ومنهم سيلفا كابوديكيان، واقترحت الشاعرة على رئيس أرمينيا أن ينضم إلى الشعب في الساحة، وعن الوضع المأساوي في تلك الأيام كتبت كابوديكيان: “بدا على وجه ديميرجيان القلق بدلاً من السخرية، وقساوة الوضع المتأزم، كان يعرف أكثر منا جميعاً، دام اللقاء عدة ساعات، وحدد التجمع ثانية في الصباح التالي، كان وجه الكاراباخيين يشع نوراً من السعادة، علموا أنه في اجتماع المجلس في استيباناكيرد في المساء جرت الموافقة بالإجماع، عدا الأعضاء الأذريين، على قرار الانضمام إلى أرمينيا. سأل الكاراباخيون: هل تعلمون عن ذلك، يا رفيق ديميرجيان؟. لم يتقبل ديميرجيان، وأجاب بقلق: “نعم أعلم، فذلك القرار سيغير الأحداث”[9].

ناقش المكتب السياسي في موسكو الأمر، وكتب كورباتشوف التالي: “أكد رئيس أذربيجان كيامران باغيروف أنه ينبغي أن تضمن موسكو وضع كاراباخ الجبلية غير المتغير، أما رئيس أرمينيا كارين ديميرجيان فقد اقترح أن تجري مناقشة طلب مجلس إقليم كاراباخ الجبلية في المجالس العليا في أذربيجان وأرمينيا والاتحاد السوفيتي، وتبين أنه ينبغي لموسكو تسوية حجج باكو ويريفان، قال نيكولاي ريجكوف إنه ينبغي العمل وفق الدستور، وأبلغ فيكتور تشيبريكوف أن هذه الأحداث ستؤثر سلباً في الجمهوريات الأخرى في اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية.

كان الشعور بالانفصال عن اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية ينمو في أستونيا، وطاجكستان تناقش طموحها في بخارى وسمرقند، كنت أرى أنه يجب تسوية المسألة بطرق سياسية، حيث يجب على اللجنة المركزية أن تعلن عدم موافقتها على أي تغيير في الحدود، ونحن بحاجة إلى مشروع اقتراحات اقتصادية واجتماعية وثقافية من أجل تحسين وضع كاراباخ الجبلية، علينا أن نترك الأرمن والأذريين يقررون وضع كاراباخ الجبلية، من الضروري قبول القرارات التي يتخذونها”[10].

من كان يقود حركة كاراباخ والتجمعات في يريفان واستيباناكيرد؟، هل كانت حركة شعبية تلقائية؟، أم كان لها مركز قيادة؟، في أيلول عام 1987 انتقد الشخص الثاني في الاتحاد السوفيتي إيكور ليكاتشوف الغرب لتشجيعه على القومية في الجمهوريات السوفيتية، أما فيكتور تشيبريكوف رئيس وكالة الأمن القومي فيتهم بعض الجهات الغربية الخاصة بحثّ الصدامات بين القوميات في الاتحاد السوفيتي[11].

وهناك رأي يقول إن قضية كاراباخ كانت أحد أسباب انهيار الاتحاد السوفيتي، وقد رأى فلاديمير كروتشوف، الذي خلف تشيبريكوف، أن “الأسباب كثيرة، ولا أفصل أي حدث، هناك أسباب داخلية وخارجية، فقد أدت الأسباب الخارجية عملاً معيناً، ولكن، في كل الأحوال، الأساسي هو الأسباب الداخلية، لم يكن هناك ضرورة موضوعية لانهيار الاتحاد السوفيتي. طبعاً، أدت الأحداث في كاراباخ عملاً مصيرياً، ولكن في تلك العملية، أي انهيار اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية، لم تكن حاسمة، لقد انهار الاتحاد السوفيتي لأسباب موضوعية، نتيجة لعمليات قام بها شخصيات واضحة مثل كورباتشوف وألكسندر ياكوفليف وآخرين، كانوا في قيادة السلطة”[12].

أعلن أحد أعضاء لجنة “كاراباخ” أشود مانوتشاريان خلال أحد التجمعات أن وكالة الأمن القومي بدأت حركة كاراباخ لدفع الصادمات، وتشويه سمعة كورباتشوف، والتشكيك في قبول الخطط السياسة التي يتبناها، قال مانوتشاريان: “هذا يعني أن أحد الطرفين في السلطة في الاتحاد السوفيتي الذي كان ضد إعادة البناء والخط السياسي لكورباتشوف، كان يحث على الصدامات بين القوميات، إنه أمر آخر، لم يتوقعوا بدء العمليات الجماعية وخروج الشعب إلى الشارع في أرمينيا، وأنهم بعد ذلك سيفقدون السيطرة على العملية[13].

في النصف الثاني من الثمانينيات كان هناك تناقضات بين قطبين في الكرملين؛ الإصلاحيون ومنهم كورباتشوف وياكوفليف، والمحافظون مثل ليكاتشوف وكروتشكوف، وقيادة مؤسسات السلطة. ولكي يظهر هؤلاء الأخيرون تهديدات البريسترويكا والكلاسنوست في البلاد السوفيتية كانوا يثيرون مسائل وطنية من خلف الستار، وبذلك وفق هذه النظرية فإن الطرف المحافظ هو الذي أثار حركة كاراباخ، لأنه لولا الدعم لما تجرأ الشيوعيون في أرتساخ على إرسال وفود إلى موسكو، والدعوة إلى جلسة في مجلس الإقليم لقبول قرار جريء استثنائي للمطالبة بفصل كاراباخ الجبلية عن جمهورية أذربيجان السوفيتية، ونقلها إلى جمهورية أرمينيا السوفيتية.

اتهم ياكوفليف، وهو من مدافعي الإصلاحات، كروتشكوف بإثارة النعرات في سومغاييت وريكا وفيلنوي بين عامي 1988 و1990، وبهذا، جرى تنظيم مجازر الأرمن في مدينة سومغاييت الأذرية في أواخر شباط 1988 بموافقة وتشجيع من المحافظين، وذلك ليبينوا لكورباتشوف أن البريسترويكا يمكن أن يكون لها عواقب وخيمة ومأساوية عند إدراج الديموقراطية في الاتحاد السوفيتي.

والنظرية الثانية التي انتشرت هي مشاركة قوى خارجية، وخاصة ما يتعلق باستقدام الخدمات الغربية الخاصة، وأساس هذا الرأي ليس فقط إصرار الطرف المحافظ للقيادة السوفيتية، بل الموقف الإيجابي لوسائل الإعلام الغربية من حركة كاراباخ والأرمن في البدايات.

لكن كاراباخ لم تكن قضية اصطناعية، تلك العقدة تعود إلى العقود الأولى في القرن العشرين، وكانت محط المناقشة في السنوات السوفيتية على كل المستويات، حتى الشخصيات الأولى في أرمينيا وأذربيجان، أي إن قضية كاراباخ كانت دائماً على جدول الأعمال.

يعد منسق لجنة كاراباخ وأول رئيس وزراء في أرمينيا فاسكين مانوكيان أن ظهور الحركة طبيعي، مع أنه في البداية ترك انطباعاً أن موسكو هي التي تثير الحركة، “أنا لم أفهم حتى اليوم بماذا يرتبط ذلك، لكن أول ثلاثة وفود كاراباخية عادت من موسكو متأملة، واستلهم الشعب في كاراباخ، وبدا للناس أنه يمكن حل القضية في الأحوال الجديدة، مهما بحثنا عن مصادر خارجية، وفي كل الأحوال كانت قضية كاراباخ من الداخل وطبيعية”[14].

أما ممثل الحزب الثوري الأرمني (الطاشناك) هراير ماروخيان فإن حركة كاراباخ هي أرمنية، وليس لها أي علاقة بالخارج، “إنها حركة لا بد منها في الأحوال الحالية، حتى إنه لو كان شعبنا يعيش في ناخيتشيفان في الأحوال نفسها لكانت هناك حركة مشابهة أيضاً”[15].

هل الأقوال قريبة من حقيقة أن وكالة الأمن القومي جنّدت عدداً من أعضاء لجنة كاراباخ؟، بعد عدة سنوات أجاب كروتشكوف عن هذا السؤال قائلاً: “أتعلمون، أنا لا أتذكر عن السنوات التي تتحدثون عنها، أتفهمون؟، أنا لا أستطيع أن أقول كل ما أعرفه، الجزء الأكبر مما أعرفه سآخذه معي إلى العالم الآخر”.

لا داعي للإصرار المعلن عن التعاون الممكن بين وكالة الأمن القومي وعدد من أعضاء لجنة كاراباخ، لأنه لا أدلة على ذلك، ولم يفتح أرشيف وكالة الأمن القومي لأعوام 1988-1991، لقد أخذ سجل وكالة الأمن القومي إلى روسيا عام 1988 وأعيد عام 1991، ما الجدوى من ذلك؟، أجاب كروتشوف أن ذلك لم يضر موسكو ولا يريفان.

إن أعضاء لجنة كاراباخ الذين أتوا إلى السلطة لاحقاً اعتقلوا في نهاية عام 1988، وقضوا نصف عام في سجون موسكو (مادروسايا ديشينا) و(بوديريان)، والحقيقة أن أعضاء اللجنة كانوا يعاملون بالحسنى، وفتح الباب على الكثير من التعليقات، منها أنهم أو بعضهم جرى تجنيده من وكالة الأمن القومي.

كان إيكور موراديان أحد قادة حركة كاراباخ يعطي أهمية لتفعيل يريفان وتوفير أمن السكان في كاراباخ الجبلية، “من أجل تنفيذ ذلك يتطلب الأمر التعاون بين السلطات في أرمينيا ووكالة الأمن القومي ووزارة الداخلية والشركات والمؤسسات الكبرى من أجل الضغط على السلطات الشيوعية في أرمينيا، كانت الحركة القومية المحلية وتحت السيطرة تصب في مصلحة السلطات في أرمينيا، وعلى رأسها كارين ديميرجيان، حرم ديميرجيان خصم البريسترويكا من ودّ كورباتشوف، كما كانت الحركة تحت السيطرة تلائم جداً القائد القادر على جعلها محلية في رأي موسكو، لم يكن ديميرجيان يتعاطف مع الكاراباخيين، ولم يكن ينوي قط طرح قضية كاراباخ جدياً في منابر موسكو”[16].

أما ريما ديميرجيان فهي ترفض قطعياً التعليق، وتقول: “لم يفعل أحد من قادة أرمينيا أي شيء من أجل تحسين وضع كاراباخ وسكانها، كما فعل ديميرجيان، ولم يتضرر أحد، كما تضرر ديميرجيان. كانت كاراباخ دائماً في ذهنه، كان يفعل كل شيء لكي لا تفرغ كاراباخ من سكانها الأرمن، كان كارين يعارض إعطاء الكاراباخيين مناصب في أرمينيا، وقد ترجم ذلك على نحو آخر، وكانوا ينقلون إلى الكاراباخيين أن ديميرجيان لا يحبهم، كان دائماً يقول: الكاراباخيون يتركون كاراباخ ويأتون إلى هنا، من سيبقى هناك؟”.

لا يتفق فادي سركيسيان مع موراديان أيضاً، ويؤكد أن ديميرجيان كان مهتماً جداً بحل قضية كاراباخ، “كانت خطاباته في جلسات المجلس السياسي الأعلى في موسكو، التي كنت أحضرها، حادة وجريئة، وكان هناك ضغط كبير على ديميرجيان من اللجنة المركزية، وخاصة ليكاتشوف. في شباط عام 1988 دعا ليكاتشوف ديميرجيان وباغيروف، وقال لهما إن “مسألة تقرير مصير كاراباخ وضمها إلى أرمينيا لا يمكن أن تحل إيجابياً، ويجب إنهاء الحديث عن ذلك”.

لم يتأخر جواب موسكو عن التجمعات التي بدأت في يريفان واستيباناكيرد، وكذلك عن قرار مجلس إقليم كاراباخ الجبلية في 20 شباط، وفي 21 شباط رفض المجلس السياسي الأعلى الحركة التي بدأت، أما المشاركون فيصفهم بأنهم “متطرفون ومتشددون”.

ومن أجل الأخذ بزمام الأمور وتهدئة الشعب أرسل كورباتشوف وفوداً إلى باكو واستيباناكيرد ويريفان، ووصل مسؤولون من موسكو إلى كاراباخ الجبلية مثل كيوركي رازوموفسكي وبيدر ديميتش، كان إيكور ليكاتشوف يعمل في باكو، وسارع إلى الإعلان أن كاراباخ الجبلية جزء لا يتجزأ من أذربيجان، وأن حدود الاتحاد السوفيتي لا تنتهك، كما أعلن رازوموفسكي في استيباناكيرد أن كاراباخ الجبلية جزء من أذربيجان، وأن أي محاولة لضم الإقليم إلى أرمينيا غير مقبول وغير مسموح به.

ويقوم أناتولي لوكانوف وفلاديمير دولكيخ بزيارة يريفان، ينشر خبر زيارة مسؤولي الكرملين في ساحة الأوبرا، وبعد عدة ساعات جرت محاصرة مبنى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في أرمينيا على شارع باغراميان، ونشأت حالة معقدة للقيادة الأرمنية، خاصة في أثناء وجود مسؤولين من الكرملين. طلب كارين ديميرجيان السكرتير الأول للحزب الشيوعي اللقاء بأحد ممثلي التجمع، وجرى اختيار هامبارتسوم كالسديان، بعد أربع سنوات كتب كالسديان: “عرفت ديميرجيان وفادي سركيسيان فقط من بين الجالسين، بدأ ديميرجيان الكلام، فعرفت عن نفسي، وسألني عن اختصاصي، أجبت بأن اختصاصي التاريخ، ثم سألني عن سبب تجمع الناس وعما يريدونه، واستمر في الحديث من دون أن يسمع جوابي، وقال إنه وكل شخص من المجتمعين ليسوا ضد ضم كاراباخ الجبلية إلى أرمينيا، ولكن هناك مشكلات، ثم عاد وسألني عن مطالب المتجمعين، وكيفية إعادة الناس إلى بيوتهم وعملهم، أجبت بأنه لا يمكن إعادة الناس إلى بيوتهم إلا بعد إعلان قرار عن دعوة لجلسة المجلس الأعلى لأرمينيا السوفيتية، كنت أجيبه كالتلميذ الخلوق، طرح ديميرجيان سؤالاً، سبب سخرية البيروقراطيين الحاضرين المحتجين وضحكهم، كان السؤال عن سبب عدم فهمي مع اختصاصي بالتاريخ أن المشكلات لا تحل بالجلسات”[17].

واتفقوا على أن يشكل كالسديان وفداً من المتجمعين للقاء مسؤولي الكرملين وطرح مشكلاتهم، وحالاً أعطت سيلفا كابوديان عدداً من الأسماء، سيرو خانزاتيان، وهنريك إيكيتيان، وفلاديمير بارخوداريان، وأشود مانوتشاريان، ومانويل سركيسيان، وخلال اللقاء أكد دولكيخ أنهم يفعلون كل شيء لكي يجري حل قضية كاراباخ في أحوال جيدة، وأنه من الضروري إجلاء الناس من الساحة وعودتهم إلى أماكن عملهم، يقبل لوكيانوف بوجود قضية كاراباخ، ولكن الحل يختلف عما يفكر فيه الذين في ساحة الأوبرا في يريفان، ورأى أنه من غير المنطقي التفكير في حل المشكلة بالجلسات.

أول من تحدث من الأرمن هو الكاتب خانزاتيان، ثم كابوديكيان، وذكّرا مسؤولي الكرملين أن الشعب الأرمني وأرمينيا كانا مخلصين جداً بلا حدود لروسيا على مر السنوات، وقدم مانويل سركيسيان قضية كاراباخ من الناحية التاريخية والأخلاقية.

في 26 شباط تمت الدعوة إلى الجلسة المكتملة للجنة المركزية للحزب الشيوعي في أرمينيا، حيث شارك فيها أيضاً دولكيخ ولوكيانوف، قدم دولكيخ طلب كورباتشوف الموجه إلى عمال أرمينيا وأذربيجان، وفي الجلسة المكتملة قبل مقترح ديميرجيان لتشكيل لجنة خاصة لدراسة قضية كاراباخ، لكن في رأي الجموع الثائرة كان ذلك قليلاً، عشرات الآلاف من المتجمعين في الساحة وأكثرهم لم يزوروا كاراباخ، ولا يعرفون سوى القليل عن هذه المناطق الأرمنية، كانت لا تطالب إلا بضم كاراباخ إلى أرمينيا.

وخرج ديميرجيان إلى الساحة، وأعلن رداً على التوبيخات أن كاراباخ ليست في جيبه، مهما كانت كلمات القائد المحبوب حقيقة مرة، فقد كانت قديمة، ومضى عليها الزمن، ما أدى إلى رد فعل عنيف من الثوار المتجمعين، قالت ريما ديميرجيان: “خرج ديميرجيان بين الجموع، وأعلن أنهم يطالبون موسكو بإنشاء لجنة خاصة بشأن كاراباخ، ولكن لم يقبل الناس، فطالبوا حالاً بضم كاراباخ الجبلية إلى أرمينيا، عندما أبدى الناس استياءهم قال كارين: “كاراباخ ليست في جيبي، كي أعطيكم إياها، أنا أعدّ هذا كلاماً تاريخياً، فنحن اليوم ما زلنا ننتظر ماذا سيقول المجتمع الدولي، وكيف ستتطور الأمور، وكاراباخ الآن ليست في جيب أحد، كي يخرجها ويعطيها”.

المصدر: كتاب “يوميات كاراباخ، أخضر وأسود-لا حرب، لا سلم” للصحفي طاطول هاكوبيان، ترجمة د. نورا أريسيان، الطبعة الأولى للترجمة العربية، لبنان – 2012، الفصل الثاني.

[1]   حوار مع خزماليان، 3 تموز، 2006.

[2] حوار مع غازاريان، 25 نيسان، 2006 في يريفان. توفي غازاريان في 3 تشرين الثاني، 2007. أما هامبارتسوم كالسديان، عضو لجنة كاراباخ ومحافظ يريفان السابق، فقد قتل في 17 كانون الأول، 1994.

[3] حوار مع ديميرجيان، 16 تشرين الأول، 2006.

[4] حوار مع سركيسيان، 22 أيار، 2006.

[5]    Tomas de Waal, Black Garden; Armenia and Azerbaijan through Peace and War, New York University Press, New York and London, 2003, pp. 22-23.

[6] “هايكاكان جاماناك”، 5 تشرين الأول 2006، العدد 175. نشر الموضوع في منشورات باسم (لجنة أرمينيا لحركة كاراباخ) في 25 تموز، 1988.

[7]                                        Карен Брутенц, Тридцать лет на Старой площади,

Международные отношения, Москва, 1988, сс. 505-506.:

[8] هامبارتسوم كالسديان، (مقالات، مذكرات، حوارات)، يريفان، 2002، ص 335.

[9] سيلفا كابوديكيان، (صفحات من حوارات مغلقة)، يريفان، 1997. توفيت كابوديكيان في 25 آب 2006.

[10]       Mikhail Gorbachev, Memoirs, New York and London, 1996, pp. 333-340.

[11] The Armenian Reporter, New York, September 17, 1987, The Karabagh File: Documents and Facts on the Region of Mountainous Karabagh 1918-1988,

Editor-Gerard Libaridian (Cambridge, Toronto, March, 1988):

 [12] توفي فلاديمير كروتشكوف في 25 تشرين الثاني 2007     Интервью Лусика Гукасяна с Владимиром Крючковым, журнал Армения и мир, # 11, 2004 г.:

[13] حوار مع مانوتشاريان، 19 نيسان، 2006.

[14] فاسكين مانوكيان، “إنه زمن الطيران من القطار”، مجموعة مقالات، يريفان، 2002، ص 36.

[15] “تروشاك”، 4 كانون الثاني، 1989، العدد 19.

[16] مقالات إيكور موراديان في صحيفة “هايوتس أشخار” (عالم الأرمن)، العدد 6-10، 20-24 كانون الثاني 1998.

[17] هامبارتسوم كالسديان، ص 339.

Share This