ورود الفرمان للمطران مالويان … وكبس كنيسة الأرمن

قضى النصارى عيد القيامة المجيد في 4 نيسان بقلوب خافقة جافلة وصدور هالعة خائفة. ملكت الرعدة على فرائضهم وازدادت الأراجيف بين ظهرانيهم. وكان قصاراهم السكوت ليفوزوا بالسلامة ويحصلوا على الطمأنينة. وأذاعت الحكومة أنّ معتمدي اميركا وافوا إلى باريس ولندن ليحجموا الدول المتحاربة عن القتال ويلجئوهم إلى عقد الصلح والوئام فسرّت تلك الأخبار عن قلوب المسيحيين شيئاً من الهموم والأكدار. واتفق أن حلمي بك المتصرف زار الكنائس ثاني العيد وهنأ الرؤساء الروحيين ورطّب قلوبهم وسلاهم واذن للآباء الدومنكيين الثلاثة المنزوين في دار البطريركية السريانية أن يخرجوا ويجولوا أينما أحبوا وشاءوا اذ كانوا إلى ذلك اليوم لازمين غرفهم لا يجسرون أن يغادروها.

وثالث عيد القيامة 6 نيسان تقدمت الحكومة إلى العملة النصارى أن يعاودوا الشغل في اصلاح الطرق وتوسيعها. وفي اليوم عينه وافت الأخبار من العاصمة إلى السيد اغناطيوس مالويان مطران الأرمن أن قد انعمت عليه الدولة بالفرمان الشاهاني والنوط العثماني. فاجتمع وجهاء الطائفة يتقدمهم مطران الكلدان ومطران السريان وهنأوه. لكن المطران اغناطيوس كان قلق الأفكار مضطرباً لسبب الأخبار التي كانت ترده من مطارنة الطائفة الموجودين في ارضوم وخربوط وسيواس وغيرها فيكتحل السهر ويلوذ بالصمت مصطبراً ويحبس في صدره الواسع تلك الحوادث المرة المزعجة لئلا يزيد أَبناءه كدراً وألماً. ولما بلغه أن الحاج زكي كاتب الطابور اللجوي يندد بالنصارى تخرصاً ويشغب المسلمين عليهم تشفياً أولم له وليمة في دار المطرنة استجلاباً لخاطره واقتناصاً لمحبته ليصرفه عن خبث نيته. وفاته أن قلب الكاتب المزبور دغل وضميره نغل لا يكلّ ولا يمل من تسعير نيران الفتن وتهييج المسلمين على المسيحيين وأنه قد كتب إلى القرى يستنفر كبراء الأكراد وزعماءهم ليفتكوا بالنصارى ويجتثوا أصلهم.

ويوم الأحد 11 نيسان استاقوا زهاء مائة وخمسين من مسلمي رشمل وقباله الى دياربكر فلم يلبثوا أن انهزموا وعادوا إلى منازلهم.

وبلغنا يوم الثلاثاء 13 نيسان أن الحكومة متشبثة بتجنيد العسكر الخمسيني الاختياري فبادر مسلمو ماردين إلى الانخراط في ذلك السلك الحديث اذ كانوا قبل هذا العهد ينهزمون او يختفون عن أعين الحكومة ولم نكن نعرف ما المراد من تجنيدهم. لكنا تشآمنا منه وتجدد اضطرابنا.

أما الحاج زكي اللعين فتمادى في خبثه ولؤمه وثابر يراسل مشايخ القرى. فلما شعر به الحاكم رحّله من البلد دون تمهل اخماداً لنيران الأراجيف. فسافر يوم السبت 17 نيسان إلى آمد. وحسبنا أن نقول أن الحاج زكي المزبور غدا منَّاعاً لكل خير مشاء بالنميمة والسعاية وكان يحشد في داره كل ليلة أحزاب الخبث وألدها. فينفث فيهم سمّ البغضاء والشحناء ويقتت لهم أحاديث الفساد ويئزهم على سحق النصارى ومحقهم ظلماً وعدواناً. قل أن الخائن كبر مقتاً عند الله.

ويوم الأحد 18 نيسان وافى إلى دير مار افرام جلمي بك المتصرف مستصحباً خضر حلبي رئيس البلدية ولبث مدّة يفاوض رئيس الدير بما طبع عليه من الرقة والعذوبة ودماثة الأخلاق. ثم تفقد الغرف والكنيسة وعاد إلى مركزه.

ويوم الاثنين 19 نيسان سُيرت فئة من الجنود إلى نواحي سعرد وسُير مثلها في الغد وما بعده أيضاً وبلغ مجموع الفئات الثلاث فوق المائتين وخمسين. وشخص إلى ماردين مبعوثها يتبعه محمد كبوشو الخبيث ليسيرا على قولهما إلى البرية ويجمعا من العرب ألفي بعير طبقاً لأوامر رشيد الغشوم.

وفي عشرين نيسان وافى الفرمان الشاهاني إلى السيد اغناطيوس مالويان فاستدعاه المتصرف إلى دار الحكومة ودفعه إليه. فرفع إلى السلطان ووزراء الدولة الأدعية في نصرهم وفوزهم ثم قفل راجعاً إلى دار المطرنة. وأمر أن تنصب الراية العثمانية على سطح الكنيسة وراح كبراء الطائفة ووجهاؤها يهنئونه ويدعون له بالتوفيق والتيسير. وكان المطران يخفي شارات الخوف ويظهر علائم الشجاعة ويستر للضعف بجلباب القوة والبسالة ويقول مع القائل

وإن قصدتك الحادثات ببؤسها                                فوسّع لها صدر التجلد واصبر

ويوم الخميس 22 نيسان أوفد الخواجا حبيب ترزي دي جروه أحد وجهاء الطائفة السريانية يقول أخفوا ما عندكم من الرسائل والأوراق والكتب المتضمنة أخباراً سياسية أو كتابات افرنسية أو أرمنية فإن الحكومة مزمعة أن تبحث عنها بحثاً مدققاً وتنزل أغلظ العقاب بصاحبها فشكر الكثيرون للوجيه وسارعوا إلى حرق الرسائل والمكاتيب وإخفاء المهم منها. ومن جملة ذلك دفن المؤلف في قلب الأرض التصانيف الخطية ومجموعة الحوادث اليومية التي كتبها مذ اعلان الحرب إلى ذلك اليوم وأوقد جميع الكتب الأرمنية والفرنسية لمزيد الرعب. اذ كان الاعداء يحاولون أن يصيبوا حجة من النصارى ليمثلوا بهم.

ويوم الاثنين 26 نيسان علمنا أن المسلمين نشموا يختلفون الى البيوت تحت الليل ويتقوّلون على النصارى ويؤلفون الجمعيات للايقاع بهم. ويبعثون الأوامر إلى مشايخ القرى ليتفقوا معهم في ذلك.

وفي سلخ نيسان يوم الجمعة كبس كنيسة الأرمن شرذمة من الجنود واحتاطوا بها وجعلوا يبحثون وينقرون عن أسلحة ومدافع. وتهددوا المطران والقسَّان وعربدوا عليهم والجأوهم أن يكشفوا لهم المخابئ كلها. فقال لهم المطران بجرأة إليكم الكنيسة ودار المطرانية وغرف الكهنة فتشوا ما استطعتم ونقبوا بكل طاقتكم فإننا لسنا ممن يخزن عنده أسلحة. وما فائدتنا منها ونحن لا نتجرأ أن نمسكها بيدنا. غير أن الأعداء لخبث طويتهم لم يصدقوا مقالة المطران فخاضوا الكنيسة والقلالي والغرف جمعاء ولم يعثروا على شيء مما توهموا وادّعوا. وقصدوا غرفة المطران وفتشوا أوراقه واستحوذوا على جميع الرسائل الوافدة إليه وعلى الأوراق القديمة الموجودة لديه وعلى الدفاتر والصحف والسجلات ومضوا بها الى دار الحكومة وارسلوها الى والي دياربكر الخبيث ليفحصها. فتنغص المطران من ذلك أي تنغص وتأسف على أوراقه شديد الأسف اذ كان يحسبها من أثمن الكنوز وأفخر التحف.

 

المصدر: من فصل (القصارى في نكبات النصارى، للعلامة الأب اسحق أرملة السرياني، الطبعة الأولى- 1919) الفصل التاسع عشر، ص130-139 (5).

مقتطف من كتاب “شهود عيان عن الإبادة الأرمنية في الإمبراطورية العثمانية (مجموعة وثائق تاريخية)، إعداد وإشراف ودراسة: البروفيسور الدكتور آرشاك بولاديان، دمشق-2014، حيث ينفرد موقع “أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر مقتطفات منه.

 

Share This