نبؤة مطران الأرمن اغناطيوس مالويان

 

وليلة أول أيار اجتمع الحبر الجليل بأقسته الأفاضل وأعرب لهم عن مكنونات صدره وكاشفهم بمزيد اضطرابه وكدره ونقل لهم خلاصة الأخبار التي وردته من رؤساء أبرشيات أرمينية عن جماعاتهم مما يقلق الأفكار ويلقي اليأس والقنوط في القلوب فشملهم الفشل والرعب وقصدوا الكنيسة تلك الليلة وانطرحوا أمام المذبح المقدس يبتهلون نحو السماء إلى ربّ العزّ والجبروت يطلبون منه المغوثة والمعونة.

وكان منظر الحبر النبيل وامتقاع لونه ينبئان بما في نفسِه من الانحلال والارتعاش لسبب الغوائل التي تتهدده وتتوعد اقسته وجماعته وبعد أن قضوا برهة يتضرعون بالابتهال إلى الله باكين متنهدين مبسوطة أيديهم إلى السماء مستمنحين العضد والقوة ليخوضوا غمرات الاضطهاد استودعوا نفوسهم إلى العناية الربانية والحماية المريمية والتمسوا من صاحب المعهد المقدس مار جرجس البطل الصنديد والفارس الباسل أن يؤيدهم في الايمان القويم ويوطد في قلبهم دعائم الشجاعة ليفوزوا بالغلبة والانتصار على أعدائهم الخونة الاغرار. وبعد هذا كفكفوا دموعهم السخينة وانصرفوا إلى غرفهم صامتين وباتوا ليلتهم يتململون قلقا ويتقلبون أرقاً.

وعند الصباح أخذ السيد اغناطيوس الغيور القلم بيمينه المباركة وكتب رسالة جليلة حقها ان تنقش بحروف ذهبية لأنها تضمنت النبوءة عما سيحيق به اقتداءً بسميه اغناطيوس الشهيد فخر بطاركة انطاكية الذي دوَّن رسالته المشهورة وأوفدها إلى المسيحيين الرومانيين يتوسل إليهم ألا يعارضوه في نيل اكليل الاستشهاد. ودفعها في 2 حزيران إلى السيد جبرائيل تبوني مطران السريان ليصونها عنده بمثابة تذكار ثمين إليك نصها بحروفها.

عبد يسوع المسيح بنعمة الله

المطران اغناطيوس مالويان رئيس اساقفة ماردين وملحقاتها المثبت من الكرسي الرسولي

إلى أولادنا المحبوبين بالرب الخوارنة والكهنة وسائر طغمة الاكليروس الاجلاء السلام الوداعي والبركة الالهية

وإلى أولادنا الاعزاء بالرب شعب أبرشية ماردين وملحقاتها السلام والبركة من صميم الفؤاد.

“لما كانت هذه الظروف الحاضرة تقضي علينا باتخاذ كل الوسائط اللازمة لإدارة شؤون أبرشيتنا العزيزة قبال كل ما عساه أن يصادفنا في هذه الآونة الحرجة ونحن تداولنا أيدي أمواج تعصف بها الرياح من كل جانب وتتهدد حياتنا الضئيلة التعيسة. فنأتي ونحرضكم قبل كل شيء أن تقوّوا إيمانكم وتعززوا ثقكتم بالصليب المقدس المرتكز على الصخرة البطرسية التي عليها ابتنى السيد المسيح كنيسته الأبدية الأركان جاعلاً دم الشهداء أساساً لها. ومن أين لنا تلك المنية العظمى أن يؤهل دمنا نحن الخطأة أن يمتزج بدم أولئك الأبرار الأطهار.

ثم اذا نفذت بنا أحكام العلي بأي نوع من الأنواع بالابتعاد أو بالاستشهاد فقد عيَّنا ان يستلم زمام إدارة أبرشيتنا حضرة الأب الجليل اوهنيس ورتببد بوطريان ويكون له بصفة معاون حضرة الأبوين دير جبرائيل قمرجيان ودير اغناطيوس شاديان. فنرجوكم أن تخلصوا له الطاعة متكلين على إلهام الروح القدس إلى أن يشاء الرؤساء فيأتوا بتدبير آخر يوافق الحال والزمان.

فأنا اجتهدتُ بقدر مابلغت مني الاستطاعة القاصرة في الطاعة التامة لرأس كنيسة الله الحبر الروماني الأقدس. وجلُّ بغيتي أن أرى اكليرسي ورعيتي العزيزة تحذو حذوي وتخلص الانقياد دائماً لأوامر السدة الرسولية.

” ثم أني أويد بانني ما خنتُ قط في أمر من الأمور الدولة العلية بل كنتُ دائماً مخلصاً الأمانة لها كما هي واجبات المطران الكاثليكي فاحرضكم أن تسلكوا جميعكم هذا المسلك.

“استودعكم الله أيها الأبناء الأعزاء طالباً إليكم أن تصلوا إلى الله كي يعطيني القوة والشجاعة لأقضي هذا العمر الفاني بنعمته وفي محبته حتى سفك الدم.”

عن قلاية المطرنة بماردين                 الحقير المطران اغناطيوس مالويان

    1 أيار سنة 1915                        رئيس أساقفة الأرمن الكاثوليك بماردين وملحقاتها

هذه آخر عبارة دونها الحبر الشهيد بتلك اليمين المقدسة وهي قوله »حتى سفك الدم« واوضح بها ارتياحه الى خوض ميدان المعركة واحراز تاج الغلبة. ولمزيد تعمقه في بحار الاتضاع قال »من أين لنا تلك المنية العظمى أن يؤهل دمنا نحن الخطأة أن يمتزج بدم أولئك الأبرار الأبطال« فأعلن بذلك انه يصبو بكل جوارحه أن يحتمل الأذى والنكال تأسياً بالشهداء البسل الأبطال ويقتحم غمرات العذاب كأسد مغوار فيغسل دمه الزكي أدرانه وينقيه من جميع الشوائب ويعرضه على الحمل الذبيح بمثابة تحفة شهية ليحوز القبول لديه فيضمه إلى مصاف الأحبار السعداء المغبوطين الراتعين في بحابح نعيمه. مرحباً بالهدية السنية وأهلاً وسهلاً بمهديها البار الشجاع.

ثم صرّح بإخلاصه الطاعة للكرسي الرسولي المقدس عربوناً لغلوه بالدين المتين وراح يبعث في أفئدة رعيته المباركة العزيزة تلك الشاعرة المجيدة ويحمِّسها لتبوء بدمها نظيره حباً للديانة الكاثليكية المقدسة وشرائعها الغراء. فكأَنه يقول لها أن »ربنا الحي وإن سخط علينا حيناً يسيراً لتوبيخنا وتأديبنا سيتوب على عبيده من بعد« (2 مقا 7 : 33).

أخيراً أيَّد قائلاً »إنّي ماخنتُ قط في أمر من الأمور الدولة العلية بل كنت دائماً مخلصاً الأمانة لها كما هي واجبات المطران الكاثليكي« لعمري ما قول تركيا ورجالها الخونة في ذلك. كيف تيسر لهم إلحاق السوء والعذاب بمن أمحض لهم المودة وما خلص لهم الأمانة. ترى ما الذي استفزّهم ليتهضموا الراعي البارّ ويغلبوه على حقوقه ويعاملوه أَعنف معاملة ليودوا بحياته. ما كاد يمر الشهر مذ وافاه الفرمان والنوط حتى قامت عليه وعلى طائفته المحبوبة قائمة الأشرار اللثام وفرَّقوا لهم أصوب السهام…

يارباه. إن هؤلاء كبسونا مجدفين وعذبونا ساخطين. وحسبوا نكباتنا وشقاءنا حظاً وهناءً لهم. وألحقوا الأضرار بأموالنا وأملاكنا وأرواحنا. فحتم تتأنى وإلامَ تصمت.. وإلا فصبراً على ما يرجفون ولتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض.

 

المصدر: من فصل (القصارى في نكبات النصارى، للعلامة الأب اسحق أرملة السرياني، الطبعة الأولى- 1919) الفصل العشرون (6).

مقتطف من كتاب “شهود عيان عن الإبادة الأرمنية في الإمبراطورية العثمانية (مجموعة وثائق تاريخية)، إعداد وإشراف ودراسة: البروفيسور الدكتور آرشاك بولاديان، دمشق-2014، حيث ينفرد موقع “أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر مقتطفات منه.

 

Share This