عمليات الترحيل في عام 1915 (2)

وهكذا تم تشتيت الأرمن على مساحات شاسعة، كما أراد مخططو ذلك، إلا أن سمات مشتركة تجمع بين جميع الأماكن التي أرسلوا إليها، فقد كانت جميع تلك المناطق مأهولة بالسكان المسلمين الذين تعتبر عاداتهم وتقاليدهم بعيدة كل البعد عن عادات الأرمن ولغتهم، ولم تكن تتمتع بأسباب صحية – إذ كانت الملاريا تتفشى في معظمها – وفي حالات أخرى، لم تكن تلك المناطق ملائمة لأناسٍ، اعتادوا العيش في بيئة معتدلة المناخ، كما أنهم أصبحوا بعيدين تماماً عن وطنهم الأم، بعد أن أرسلتهم الحكومة إلى أبعد مكان ممكن داخل الحدود العثمانية، نظراً لأنه يحظر على المسيحيين دخول المناطق المقدسة في الحجاز، إضافة إلى قيام حملة عسكرية بريطانية باحتلال تخوم العراق، لذا فقد رضيت الحكومة العثمانية بأسوأ المناطق المتاحة لديها، وعملت ما بوسعها لزيادة التأثير الطبيعي للمناخ، وذلك بوضع المنفيين هناك بعد رحلة شاقة من دون طعام، أو مأوى، أو ثياب، ومن دون أن يكون معهم رجال قادرون على كسب عيشهم وتوفير متطلباتهم.

وكان أحد أسباب العذاب والمشاق التي واجهها المنفيون، هو بطء الرحلة الشديد، فقد انطلقت أول قافلة من زيتون بتاريخ 8 نيسان 1915، ثم تبعتها قوافل أخرى خلال الأشهر السبعة التالية من مختلف المناطق الأرمنية في أرجاء الإمبراطورية. ولا سجل عن أي توقف لهذه العمليات، إلا في 6 تشرين الثاني، فقد وصل في ذلك التاريخ أمر من القسطنطينية إلى السلطات المحلية في سهوب كيليكيا، تطلب منها التوقف عن أعمال الترحيل. إلا أن هذا القرار طبّق على الباقي من السكان الأرمن المحليين فقط، أما المنفيون من الشمال الغربي، الذين كانوا لايزالون يشقون طريقهم إلى منفاهم، إذ لم تصلهم الأوامر قبل نهاية العام، وكان اكتظاظ الطرق أحد أسباب هذا التأخير. إلا أن الازدحام كان سيكون أكثر شدة في حال عدم تنفيذ المخطط بشكل منظم، أي منطقة تلو الأخرى، وبنظام كان سيضلل الحكومة المركزية أكثر من غيرها، والتي وجهت الأوامر. وكانت كيليكيا أول منطقة يتم إخلاؤها فضلاً عن أنها، كانت المنطقة الرئيسة التي عانت ماعانته من مجازر عام 1909. ومن الناحيتين الاستراتيجية والاقتصادية، كانت كيليكيا أكثر البقاع نشاطاً وحيوية في تركيا الآسيوية،  وكان عدد السكان الأرمن الكبير الآخذ في الازدياد، يسبب قلقاً للاتحاديين، لذا كان من الطبيعي، أن تكون كيليكيا نقطة الانطلاق لتنفيذ المخطط العثماني. واستمرت عمليات الترحيل لمدة ستة أسابيع قبل أن تطبق على باقي مناطق الإمبراطورية، وقد أخليت زيتون في 8 نيسان، ثم تلاها بعد أيام قليلة كابان (Gaban) ثم فرنوس (Furnus) والبستان (Elbistan) وبعدها دورت يول (Dort Yol) في نهاية الشهر. ومن الناحية الأخرى بدأت عمليات الترحيل في هاجين في 3 حزيران واستمرت حتى أيلول، في حين جرت عملية إخلاء إجهاضية في أضنة في الأسبوع الثالث من أيار، وتم تأجيل عمليات الترحيل حتى الأسبوع الأول من أيلول.

أما المنطقة التالية التي تم إخلاؤها، فكانت المنطقة التي تقع على تخوم وان، وقد تعرضت للتهديد نتيجة تقدم الروس من البحر الأسود إلى الحدود الإيرانية، أما المناطق الجنوبية الشرقية من هذه المنطقة – بيتليس (Bitlis)، موش (Mouch)، صاصون (Sasoun)، حكاري (Hokkari) – فلم يتم إخلاؤها بالترحيل بل بالقتل الجماعي، وقد هدمت القرى النائية من بولانيك وموش وصاصون في القسم الأخير من أيار، وقبل نهاية الشهر نفسه، انسحب جودت بك من وان إلى سهل بوهتان، وأعمل يد القتل في سعرت، وفي 25 حزيران قام جودت بقتل أرمن بيتليس، وفي الأسبوع الأول من تموز وصل 000 20 جندي من خربوط، وأبادوا الأرمن في موش – في البدء القرويون، ثم سكان المدن التي تم قصفها بنيران المدفعية بتاريخ 10 حزيران. وبعد الانتهاء من موش، انضم إليهم هؤلاء الجنود غير النظاميين الذين كانوا يهاجمون صاصون. وفي 5 آب وبعد قتال ضار، تمت إبادة الناجين من سكان صاصون – رجالاً ونساء وأطفالاً – في آخر معقل جبلي لهم، وفي نهاية تموز دخلت القوات العثمانية مرة أخرى إلى وان، وقتلت جميع السكان الأرمن الذين لم يفروا في بداية الانسحاب الروسي، وفي حزيران وتموز هاجمت القبائل الجاليات النسطورية في منطقة حكاري في أعلى حوض الزاب الكبير، ولم تنج منهم سوى مجموعة صغيرة عبرت الوادي إلى حوض أورمية، ووجدوا ملاذاً لهم عند الحدود الروسية.

وفي الأقاليم الشمالية الغربية من منطقة الحدود، تمت عملية ترحيل مشابهة، وقتل جميع المنفيين – نساءً وأطفالاً ورجالاً – من دون تمييز، وهم في الطريق، وقبل نهاية أيار حدثت مجزرة في خنوص (Khnus)، وفي 6 حزيران بدأت عمليات الترحيل من قرى سهل أرضروم، أما أول عملية ترحيل من أرضروم، فقد بدأت في 6 حزيران، بينما كان آخرها في 28 تموز (أو في 3 آب وفق تقارير أخرى)، وقد تم ترحيل مطران المدينة الأرمني مع آخر قافلة، ثم لم يعد يسمع عنه أحد شيئاً، وفي بايبورت (Baybourt)، أخليت القرى المجاورة، كما حدث في المدينة من قبل، وأرسل سكانها في ثلاث قوافل بدأ آخرها في 14 حزيران. ومن مدينة أرزنجان (Erzinjan) انطلقت أربع قوافل خلال أيام متعاقبة من 7 حزيران إلى العاشر منه، وعملياً يبدو أنه لم يبق أحد من المنفيين في أرزنجان وبايبورت وأرضروم على قيد الحياة بعد المراحل الأولى من الرحلة.

وبدأ إخلاء السكان من خربوط (Kharbout) في الأول من حزيران، واستمر طوال الشهر، وفي الثاني والثالث والرابع من تموز، أخليت كذلك البلدة المجاورة ميزريه (Mezre). وقد انخفض عدد القوافل التي انطلقت من هذين المركزين والقرى المجاورة بشكل كبير بسبب الأعمال الوحشية التي ارتكبت ضدهم، وهم في الطريق.

وفي طرابزون (Trabizon)، استمرت عمليات التهجير من الأول من تموز، وحتى السادس منه، وبدا أنه كان متزامناً مع أعمال التهجير في عدة مدن ساحلية من المقاطعة، وكانت كذلك أعمال التهجير هنا ستاراً لارتكاب مجازر مباشرة، فكان يتم إغراق المنفيين في البحر، أو قتلهم عند إحدى نقاط الاستراحة على الطريق.

وفي إقليم سيواس (Sivas) بدأت الإجراءات في القرى، ولم يتم إخلاء المدينة نفسها، إلا في الخامس من تموز، وفي ميرزيفون (Marzifon) بدأ تهجير الرجال في 26 حزيران والنساء في 5 تموز، أما الناجون الذين لجؤوا إلى الإرساليات التبشيرية الأمريكية، فقد تم نقلهم بتاريخ 10 آب، وقتل جميع الرجال وعدد كبير من النساء في الطريق.

أما الأرمن القاطنون في الأقاليم الواقعة غرب سيواس، وفي المناطق المحيطة بالقسطنطينية، فتم نقلهم بالقطار على خط حديد الأناضول إلى قونية، ومن هناك توجهوا إلى مدينة حلب على طول المحطات المختلفة لخط حديد بغداد، وتم تنفيذ المخطط في أرجاء هذه المنطقة بشكل مميز فيما بعد. وفي أنقرة بدأت عمليات الترحيل في أواخر شهر تموز. وفي أدابازار (Adapazari) نحو 11 آب، ويبدو أنه لم تحدث عمليات ترحيل في بورصة، إلا في الأسابيع الأولى من أيلول. ويذكر أن هذا هو آخر مكان للترحيل، ولم يتم ترحيل الأرمن في أدرنة (Edirne) إلا في منتصف تشرين الأول، وفي سنجق قيصرية (Kayseri) حتى 12/15 تشرين الثاني.

وتركت المواقع المتقدمة الواقعة في الجنوب الشرقي إلى النهاية، على الرغم من أن جيرانهم في مرتفعات كيليكيا، كان قد تمَّ ترحيلهم في البداية. وبدأ تهجير القرويين من جبل موسى (Djebel Mousa) في 13 تموز وعنتاب (Aynteb) في 1 آب وتم إخلاؤهما بالتدريج على مدى شهر، ولم تنفذ النداءات التي وجهت إلى أورفة (Ourfa) التي قوبلت بالتحدي كما حدث في جبل موسى، إلا في آخر أسبوع من شهر أيلول.

إن إلقاء نظرة على هذا الجدول الزمني، يبين المخطط العام الذي كانت تهدف إليه الحكومة المركزية، فقد كان شهرا نيسان وأيار مخصصين لإخلاء كيليكيا، وحزيران وتموز لإخلاء المناطق الشرقية، وآب وأيلول لإخلاء المناطق الغربية الواقعة على طول الخط الحديدي. وفي الوقت نفسه امتدت العملية لتشمل السكان الأرمن في المناطق النائية في أقصى الجنوب الشرقي من البلاد. لقد كانت محاولة متعمدة ومنظمة لإبادة الشعب الأرمني في أرجاء الإمبراطورية العثمانية، وقد حققت في ذلك نجاحاً كبيراً، إلا أنه ليس من السهولة بمكان تقديم النتائج بشكل تقريبي بصيغة إحصائية، إذ إن السلطات العثمانية هي الجهة الوحيدة القادرة على حفظ سجلات دقيقة عن الأشخاص المنكوبين، ولكن يبدو أنها لن تفعل ذلك، كما أنه ليس من الجائز أنها ستكشف عن مثل هذه الأرقام إلى العالم المتحضر. لذلك نجد أنفسنا مرغمين على أن نعتمد في تقديراتنا على بيانات أوردها بعض الأشخاص الذين تم إبعادهم نتيجة ارتياب المسؤولين الحكوميين بهم، والذين لم يكونوا قادرين على مراقبة الأحداث في أكثر من قطاع واحد، ويجب أن نجري حساباتنا بجميع هذه البيانات المأخوذة عن مصادر خاصة، وسنعتمد فقط في جمع هذه البيانات على الشهادات التي قدمها شهود عيان أجانب، ينتمون إلى جنسيات محايدة، إذ يمكن أن نؤكد أن مثل هؤلاء الشهود بعيدون عن المبالغات غير الواعية، كما يمكن أن نضمن عدم تقديم بيانات خاطئة بشكل متعمد.

تتمثل الخطوة الأولى في تحديد عدد الأرمن الذين كانوا يعيشون ضمن حدود الإمبراطورية العثمانية عند بدء عمليات الترحيل، لأن جميع الأرقام الأخرى تعتمد على ذلك، ولكن من الصعوبة بمكان الحصول على هذا الرقم، نظراً لعدم وجود تقديرات أجنبية مستقلة مسجلة، والاختلافات بين التقديرات المحلية كبيرة جداً[1]. فاستناداً إلى البطريركية الأرمنية، فإن عدد الأرمن يبلغ 2.100.000 نسمة بعد إحصاء أجرته عام 1912، أما الحكومة العثمانية، فتذكر أن عددهم يبلغ 1.100.000 نسمة فقط نتيجة آخر إحصاء أجرته، و لدى كلا الفريقين مصلحة سياسية متساوية في وضع الأرقام، ولكن يحتمل أن تكون إحصاءات الأرمن أكثر دقة، وعلى كل حال، فهناك دافع قوي في تزوير الأرقام.

وبناء على ذلك، فإن العملية “الحيادية” تتمثل في تقسيم الفرق ولنعتبر مؤقتاً، أن الرقم هو 1.600.000 نسمة، مع الترجيح بأن الرقم الحقيقي يتراوح بين هذا الرقم وبين  2.000.000 ومن المحتمل أن يصل العدد إلى الرقم الأخير، أما باقي الأرقام الضرورية، فيمكن استخلاصها من الشهادات التي أدلى بها أجانب محايدون، والتي يندر أن يكون فيها فروقات شاسعة.

أما الخطوة الثانية، فتتمثل في تقدير عدد أولئك الذين نجوا من عمليات الترحيل. فهناك اللاجئون الذين تمكنوا من عبور الحدود إلى القوقاز الروسية (182.000) وإلى مصر (4.200) استناداً إلى أرقام مستمدة من مصادر يركن إليها[2]. كما توجد فئتان أرمنيتان مهمتان في تركيا، لم تمسا بسوء باستثناء زعمائها – في إزمير وفي القسطنطينية – ففي القسطنطينية لايزال ثمة 150.000 أرمني، إضافة إلى الطائفتين الكاثوليكية والبروتستانتية اللتين أعفيتا من الترحيل والأرمن الذين اعتنقوا الإسلام، ومن المستحيل تقدير أعداد تلك الفئات بشيء من المعقولية، لأن سلوك السلطة كان غريباً بعض الشيء، فقد عاملت السلطة العديد من الذين اعتنقوا الدين الإسلامي، إضافة إلى الأرمن من الطوائف الأخرى، بالطريقة نفسها التي عاملت بها الغريغوريين. كما أنه لا يمكن تأكيد النسبة المئوية للذين غيروا دينهم، لأنه تم تشجيعها في مناطق معينة وتثبيطها في أماكن أخرى، كما يجب أن نأخذ بالحسبان أولئك الذين تمكنوا من الإفلات من شباك الحكومة. وكقاعدة عامة، يبدو أن عدد هذه الفئة أكبر بكثير مما يظهر، ولاسيما في الشرق الأدنى ولكن في هذه الحالة، يبدو أن الاتحاديين، نفذوا خطتهم بدقة متناهية، وكان عدد المتأثرين ضئيلاً، ففي مدن مثل زيتون وهاجين وسيواس وميرزيفون وأرضروم، حيث لدينا شهادات كافية تتيح لنا تدقيق التقديرات المقدمة، فإنه يبدو أن عمليات الإخلاء سواء بالترحيل، أم القتل، كانت تتم بشكل كامل، فعلى سبيل المثال، كان بين عدد سكان أرضروم 20.000 أرمني قبل عمليات الإخلاء، وعند انتهائها لم يبق أكثر من 100 أرمني[3]، إن التكتم عن عدد سكان الأرمن، يمكن أن يتم بشكل ما في القرى، ومع ذلك، فإن عدد الذين ظهروا من مخابئهم منذ الاحتلال الروسي كان ضئيلاً جداً، واستناداً إلى إحصائيات البطريركية، فقد كان عدد سكان الأرمن في أقاليم وان وأرضروم وبيتليس التي تقع الآن ضمن الحدود الروسية[4] 580.000 نسمة عام 1912 – وقد أفاد العاملون في لجنة الإغاثة الأمريكية، أنه لم يبق سوى 12.100 أرمني على قيد الحياة في تلك المناطق، ومهما كان هامش التخفيض، فإن غياب الإحصاءات المتطابقة، يمكن أن يجعل من الضرورة بمكان طرح الرقم المجمل متناهياً في الضآلة. ويقدر عدد الأرمن الموجودون في القسطنطينية وإزمير إضافة إلى عدد اللاجئين إلى أرمينيا الروسية بـ 350.000  تقريباً، ولن تكون حساباتنا منخفضة جداً، وإذا استثنينا ربع المليون بالنسبة للبروتستانت والكاثوليك الذين اعتنقوا الإسلام والذين بقوا على قيد الحياة، فإن العدد الإجمالي للأرمن في تركيا الذين لم يتعرضوا للترحيل، لا يزيد على 600.000 أرمني، وهذا يعني أن ما لا يقل عن 1.000.000 أرمني تعرض للترحيل والقتل؛ بل ربما 1.200.000 أرمني وأكثر.

أما الخطوة الثالثة، فتكمن في تقدير أعداد الذين قتلوا، والذين بقوا على قيد الحياة من بين المليون أرمني أولئك. وهنا كذلك، فإن المادة المتوافرة لدينا ضئيلة وغير كافية، كما أن التعميم غير مأمون العواقب، لأن إجراءات السلطة في هذا الصدد، كانت غريبة الشأن، ففي أقاليم مثل وان وبيتليس، لم تجر عمليات ترحيل أبداً، بل جرت مجازر على الفور.

وفي أقاليم أخرى مثل أرضروم وطرابزون وأنقرة، فقد كانت عمليات الترحيل تتم بموازاة أعمال القتل، إذ تم إبادة القوافل بشكل منظم في مرحلة مبكرة وهي في الطريق، ومن الناحية الأخرى، يبدو أنه تم ترحيل الرجال والنساء في كيليكيا، وأن عدد أفراد القوافل تدنى نتيجة المرض والإعياء. وعلى الرغم من ذلك، ففي الأماكن التي تمت فيها مجازر شاملة، كان من الممكن إبادة أفراد القافلة بالتدريج، فعلى سبيل المثال انطلقت قافلة ضخمة من ملاطية (Malatia) مؤلفة من 18.000 شخص ينتمون إلى فيران شهير (Viran Shehir) سوى 301، وعندما وصلت إلى حلب لم يتجاوز عددها 150 شخصاً، ويبدو أن نسبة المفقودين في هذه الحالة استثنائي. ولدينا مثال آخر مماثل لقافلة انطلقت من خربوط، وانخفض عددها وهي في الطريق حتى وصولها إلى حلب من 5.000 إلى 213 شخص أي إن نسبة الذين هلكوا تقدر بـ 96%. وبشكل عام يبدو أن نسبة الفقد تفاوتت بشكل كبير على كل جانب بنسبة 50%، فقد وصل إلى حلب من إحدى القرى في مقاطعة خربوط 600 شخص من أصل 2500 (24 بالمئة)، ووصل 60% من أصل القافلة الأولى  المنطلقة من قرية ي. (قرب هـ.) و46% من أصل القافلة الثانية، ووصل 25% من أصل القافلة المنطلقة من قرية د. في المنطقة المجاورة نفسها. وستكون تقديراتنا قريبة من الصحة، إذا ما قدّرنا أن نصف الذين تعرضوا للمجازر أو الترحيل على الأقل قد لاقوا حتفهم بالفعل.

وبوسعنا أن ندقق في صحة هذا التقدير إلى مدى محدد بوساطة سجلات الوصول عند بعض المراكز المهمة الموجودة على الطريق، أو في أماكن وصول القوافل، فبتاريخ 16 آب 1915 مثلاً، صرح أحد المقيمين الأجانب في القسطنطينية وهو حيادي وموضوع ثقة، بأنه حسب معلوماته كان هناك 50,000 منفي مشتت على طول الطريق الممتد من بوزانتي (أول تفرع لخط بغداد) إلى حلب. وفي 5 تشرين الثاني كتب شاهد عيان آخر من حلب، كان قد عبر الطريق، بأنه مرّ على 150,000 منفي بين المنطقة الممتدة بين حلب وقوني. كما وصل 13,155 منفياً إلى حلب، أو مروا منها في 30 تموز 1915، ووصل 20,000 إليها بين ذلك التاريخ و19 آب، وفي 3 آب نقل 15,000 من هؤلاء، وهم أحياء إلى دير الزور، وكانت هذه بداية وصول المنفيين إلى تلك المدينة، ولم يصل منفيون إلى دمشق قبل 12 آب، ولكن بين ذلك التاريخ و3 تشرين الأول 1915 وصل 22,000 أرمني. إن هذه الأرقام عبارة عن أرقام منفصلة، ولا تعني شيئاً كثيراً بحد ذاتها، بيد أن لجنة الإغاثة الأمريكية، أصدرت في نشرتها المؤرخة في 5 نيسان 1916 برقية وصلت مؤخراً إلى الولايات المتحدة من مصدر موثوق به، تذكر فيه أن العدد الإجمالي للأرمن الأحياء في مناطق دير الزور ودمشق وحلب يقدر بـ 500,000 شخص، ومن المحتمل أن يكون ثمة مبالغة في هذا الرقم، إلا أنه لا يتعارض مع استنتاجينا السابقين، بأن عدد الأرمن الذين كانوا ضحية مخططات الاتحاديين الأتراك، كان مليون شخص على الأقل، وأن خمسين بالمئة منهم على الأقل لاقى حتفه. ويجب أن نضيف رقماً ضئيلاً إلى عدد الأحياء الذي ورد في البرقية (500,000) في المناطق الثلاث المذكورة، وهم الذين نقلوا الى الموصل، أو الذين كانوا لا يزالون على الطريق في شهر آذار 1916، وهذا من شأنه أن يزيد الرقم الأصلي إلى ما يقارب من 1,200,000، وهو الرقم الذي اعتبرناه، لأسباب أخرى، أقرب إلى الرقم الحقيقي من المليون الذي أخذنا به.

يمكننا أن نلخص هذه الدراسة الإحصائية بالقول: إنه على الرغم من عدم توافر المعلومات الدقيقة، يبدو لنا أن عدد الأرمن الأتراك الذين تمكنوا من الفرار، والذين لاقوا حتفهم، والذين نجوا نتيجة أعمال الترحيل في عام 1915 متساوٍ تقريباً، إذاً نقدر أن عدد كل فئة من هذه الفئات يبلغ 600,000 شخص.

وهكذا يبقى المقياس الكمي الدقيق للجريمة غير ثابت، إلا أنه لا يوجد أدنى شك بمسؤلية مقترفيها، إذ لم يكن هذا البلاء والمعاناة والقتل الذي حل بهذا الشعب ناتجاً عن تعصب ديني، لأن التعصب الديني لم يلعب دوراً هنا كما كان له دور في القتال في كاليبولي (Galipoli) أو كوت (Kut)، أما الجهاد المقدس الذي أعلنه الاتحاديون في تشرين الأول 1914م فلم يكن سوى تحرك سياسي لإحراج رعايا الدولة المسلمين أمام الحلفاء، كما لم يكن هناك تعصب مثلاً في سلوك الأكراد الجتا– الذين ارتكبوا جزءاً من الأعمال الشنيعة– ولكنهم لا يمكن أن يتحملوا المسؤولية، إذ لم يتجاوزوا، لكونهم قطاع طرق ومجرمين، لم تتغاضَ الحكومة عن أعمالهم فحسب، بل حرضتهم كذلك، لذا يجب أن تتحمل عبء عملها، كما أن الفلاحين (على الرغم من أنهم كانوا إخواناً للجنود العثمانيين الذين حازت إنسانيتهم التي أبدوها في كاليبولي وكوت احترام أعدائهم) قاموا بأعمال وحشية مذهلة بحق الأرمن، ومع ذلك، فإن المسؤولية لا تقع على الفلاحين الأتراك، فهم أناس خاملون وطيِّعون، كما أنهم غير مستعدين لارتكاب أعمال عنف من تلقاء أنفسهم، بل ينفذون ما يطلبه منهم أسيادهم، فهؤلاء الفلاحون، لم يقدموا على مهاجمة الأرمن، إذا لم يصدر لهم أسيادهم الأوامر بذلك، وكذلك لا ينحى باللائمة على السكان المسلمين في المدن، فسجلهم ليس قاتماً، كما تلقي الإثباتات الواردة في الكتاب ضوءاً على شخصيتهم، فحيثما يعيش المسلمون والمسيحيون في المدينة أو القرية نفسها، كانوا يعيشون حياة واحدة، ويمارسون المهن نفسها، كما كانت تجمعهم وشائج إنسانية قوية، ولم تكن عند المسلمين في المدن رغبة في قتل جيرانهم الأرمن، بل عبروا في بعض الأحيان عن أسفهم وحزنهم لما حدث. وثمة حالات عديدة تظهر أنهم عملوا ما بوسعهم من أجل وقف ذلك، وتتوافر لدينا إثباتات عن ذلك في أماكن متعددة– كما لدينا أمثلة عديدة من أضنة وهاجين في كيليكيا وقرى ييراباكان وفيككي (Fekke) في منطقة هاجين، ومدينة أنقرة التي أصدرت فيها السلطات عقوبات صارمة ضد أي مسلم، أو أجنبي، أو يوناني، يحاول إيواء أرمني، ومن الطبيعي أن يقوم الرعاع بنهب أملاك الأرمن، عندما تتواطأ معهم الشرطة، تماماً كما كان سيفعل الغوغاء في المدن الأوروبية، أما أغلبية السكان المسلمين المحترمين، فيمكن إدانتهم باللامبالاة أثناء هذه الظروف السيئة، ولايمكن تحميلهم مسؤولية ماحدث.

وهكذا يجب أن يقع عبء هذا العمل على عاتق المسؤولين في الحكومة العثمانية، ولكن ليس كلهم، إذ كان سلوك الدرك مثلاً فظيعاً وشنيعاً جداً، فقد تمَّ إفساد أخلاق الجنود بالقوة الشريرة التي منحت لهم. وشجعهم رؤساؤهم الذين أتاحوا لهم ارتكاب الشرور ضد الأرمن، فقد كانت نسبة كبيرة من المآسي التي أصابتهم نتيجة أعمال الدرك، ومع ذلك، فلم يكن الدرك منفذين من تلقاء ذاتهم، فمسؤولية سوء سلوكهم، يجب أن يتحملها الولاة المحليون، أو الحكومة المركزية أو كلاهما.

كما يجب توجيه اللوم الشديد إلى الولاة المحليين للأقاليم والنواحي (ولاة ومتصرفين وقائمي مقام) فالمجال الذي أتاحته لهم الحكومة المركزية، كان واسعاً جداً، كما هو واضح من الممارسات المختلفة، وفي مختلف المناطق وفق المخطط العام. ففي إحدى المناطق تم قتل الرجال الأرمن، وفي أخرى تم ترحيلهم من دون أن يمسوا بأذى، وفي أماكن أخرى تم إغراقهم، وفي تلك المنطقة أجبرت النسوة على اعتناق الإسلام، في حين لم يسمح لإحداهن في منطقة أخرى باعتناقه، بل في أماكن أخرى ذبحن مثلما ذبح الرجال. كما يمكن ملاحظة اختلافات واسعة في معالجة أمور أخرى مثل التصرف بممتلكات الأرمن أو التعذيب، والتي يمكن عزوها جميعها لصالح أو لطالح المسؤولين المحليين، فهم يتحملون مسؤولية جسيمة، كمحبِي إثارة الفتن مثل جودت بك أو قساة القلوب مثل والي أورفة، ومع ذلك، فقد كانت حريتهم في العمل مقيدة نوعاً ما، فحيث كانت نياتهم شريرة نحو الأرمن، كان بوسعهم الذهاب بعيداً في تنفيذ تعليمات الحكومة المركزية (حتى في أمور مثل إعفاء الكاثوليك والبروتستانت، حيث كانوا أحراراً في تنفيذ عملهم، لذا فهم متواطئون مع الحكومة المركزية)، ولكنهم لم يعملوا على التخفيف من حدة هذه التعليمات أبداً، أما الولاة الشرفاء الطيبون (وكان هناك عدد منهم) فكانوا عاجزين عن حماية الأرمن في ولاياتهم.

ولقد كان للحكومة المركزية عملاؤها في الولايات – رئيس الوحدة المحلية لجمعية الاتحاد والترقي ورئيس الدرك المحلي، وحتى بعض العاملين الإداريين التابعين للوالي– فلو أبدى هؤلاء الولاة الذين يتمتعون بالرحمة تساهلاً في تنفيذ التعليمات، كانوا سيتعرضون للمهانة، وإذا رفضوا إطاعتهم، فكانوا سيعزلون من منصبهم، ويحل محلهم ولاة طيِّعون. وبطريقة أو بأخرى، دعمت الحكومة المركزية المخطط وأشرفت على تنفيذه نظراً لأنها صاحبة الفكرة. لذا يتحمل الوزراء الاتحاديون والمتعاونون معهم في القسطنطينية مسؤولية مباشرة وشخصية من البداية وحتى النهاية للجريمة الشنيعة التي ارتكبوها والتي التهمت الشرق الأدنى عام 1915.

المصدر مختارات من بعض الكتابات التاريخية حول إبادة الأرمن عام 1915، ترجمة: خالد الجبيلي، اللاذقية – 1995)- شهادة أرنولد ج. توينبي). مقتطف من كتاب (شهادات غربية عن الإبادة الارمنية في الإمبراطورية العثمانية)، إعداد ومراجعة ودراسة: البروفيسور-الدكتور آرشاك بولاديان، دمشق – 2016.

31- على الرغم من أنها ليست متطرفة مثلما هي في أجزاء أخرى من بلدان الشرق الأدنى مثل هنغاريا، حيث تعتبر مسألة إحصاء القوميات مسألة لاهبة وتحمل الكثير من الجدل السياسي.

32-  تم الحصول على الرقم الأول من النشرة الرابعة للجنة الإغاثة الأمريكية والمؤرخة في 5 نيسان 1916.

33- الرقم الحقيقي للذين كانوا من أرضروم هو 22.

34- الإشارة إلى حدود عام 1915.

Share This