العودة العثمانية الى الشرق الأوسط

إن سياسة تركيا الخارجية تغيّرت بشكلٍ جذري إثر وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في عام 2002. توعدت هذه القيادة من خلال رئيس الحكومة رجب طيب اردوغان بإيجاد حلّ سلمي ونهائي للمشكلة الكردية وبحماية حقوق الأقليات الساكنة في تركيا.

في الواقع بقيت الأمور على حالها بل تراجعت أكثر. استمرت السلطات التركية بقمع الأكراد أينما كانوا، خرقت السيادة الجوية لشمال العراق ولم تعمل شيئا لتحسين وضع الأقليات. ففي عام 2007 اغتيل الصحافي الأرمني هرانت دينك في وضح النهار وفي احد شوارع اسطنبول، كما نفذت جريمة بشعة بحق قسّ كاثوليكي، والأمثلة كثيرة.

هكذا، وعندما فشلت هذه القيادة بتنفيذ برنامجها في الداخل التركي أخذت تركز على سياستها الخارجية وذلك بهدف تحويل الرأي العام التركي من الداخل إلى الخارج. إن سياسة تركيا الخارجية هي من إخراج وهندسة وزير خارجيتها أحمد داوود أوغلو. وفي كتابه Strategic Depth الذي صدر عام 2001، يقترح داوود أوغلو تطبيق سياسة «لا مشاكل» مع الدول المجاورة ويقترح تقبل السياسة العثمانية الماضية، الأمر الذي برأيه سيؤمن السلام والإستقرار في المنطقة.

أخذت تركيا بتنفيذ سياسة خارجية توسعية أكثر منذ بداية 2002 وذلك في المسائل الإقليمية والدولية من خلال توسيع رقعتها التأثيرية في منطقة الشرق الأوسط. بدأت الثقافة التركية وسياستها وإقتصادها تترك بصماتها في الدول العربية منذ ذلك العام. من وجهة نظر داوود أوغلو إن سياسة «لا مشاكل» ستجعل من تركيا لاعباً سياسياً عالمياً مهمّاً ونحن نقترب من عام 2023 الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية تركيا.

إن هذه السياسة دخلت مرحلة التنفيذ بعد الحرب على العراق وسقوط نظام صدام حسين. حسّنت تركيا علاقاتها مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 2003 وكان الهدف من وراء هذا التطور في العلاقات السياسية، رفض الدولتين قيام دولة كردستان في جوارهما.

انتقد الرئيس العراقي جلال طالباني سياسة تركيا الخارجيـة. وفي مقابلة أجرتها معه صحيفة «ملييت» التركية، اعتبر طالباني أن هذه السياسة فشلت في العراق، وأضاف أن تركيا كانت دائما تحرّض السنة ضد الشيعة والأكراد في الــعراق، وذلك بهدف زرع الفتنة بين العراقيين. كما أشار الرئيس طالباني في مقابلة نشرت على الموقـع الألكتروني للإتحاد الوطني لدولة كردستان، أن تركيا تطلب من بغداد وكردستان محاربة حزب العمال الكردستاني من جهة ومن جهة أخرى تنظم مؤتمرات وندوات تهدف إلى توسيع الفتنة والقتال بين العراقيين.

بالرغم من كل هذا إن الصراع السياسي قائم في المنطقة، بين العملاقين، تركيا وايران، إن دولة إيران تركز دعمها السياسي لسوريا وحلفائها من جهة وتلعب تركيا دور الوسيط المزيّف بين اسرائيل وجيرانها من جهة ثانية.

إن سياسة الـ«لا مشاكل» التركية لقيت الفشل مع دولة أرمينيا. فبعد توقيع خارطة الطريق بين الدولتين لم ترجع العلاقات الديبلوماسية الغائبة منذ عقود إلى طبيعتها بعد ان اتضح أن تركيا أبقت على شروطها المرفوضة من قبل أرمينيا. ومن أبرز هذه الشروط، حلّ مسألة إقليم ناغورنو كاراباغ لصالح أذربيجان.

تكرّر هذا الفشل في قبرص عندما تدخّلت أنقره في الإنتخابات الرئاسية لصالح مرشح لا يدعم توحيد الجزيرة رغم كون هذا التوحيد من ركائز السياسة اليونانية والإتحاد الأوروبي.

من المهم أن نذكر أيضاً أن الإستراتيجية الخارجية للسياسة التركية تحولت من الإتحاد الأوروبي بإتجاه الشرق الأوسط، الأمر الذي أراح الجيش التركي الذي لا طالما كان ضد العلاقة القريبة من الإتحاد الأوروبي.

ولذلك، يمكن أن نستنتج أن أردوغان و«فريقه» من الزعماء الأتراك يحاولون بإستمرار أن يكونوا على صلة جيدة مع الجيش، متخوفين من إنقلاب عظيم، تكون نتائجه كارثية عليهم.

رغم ذلك فإن السلطات التركية لم تنسَ أحلامها بالإنضمام الى الاتحاد الأوروبي. فهذه السلطات تحاول كسب الوقت والنفوذ بتوطيد علاقاتها السياسية بدول الشرق الأوسط، محاولة تمرير بعض الوقت لحين سقوط أو تغيّرالأنظمة في أوروبا وخاصة في فرنسا والمانيا، الدولتين الأشد اصراراً ورفضاً لإنضمام الدولة التركية للاتحاد الأوروبي.

كما يدخل الفكر التركي والثقافة التركية في لبنان والدول العربية عبر البرامج التركية والمسلسلات المدبلجة وذلك لتقديم الجانب الإيجابي المزيّف للعقلية التركية. ولكن هل هناك فعلا ما يسمّى بالثقافة التركية؟ وهل دولة مثل لبنان لها تاريخ حافل وثقافة غنيّة ومميّزة في العالم بحاجة إلى الإخراجات التركية المزيّفة؟ الشيء المؤسف أيضاً هو الوجود العسكري التركي على الأراضي اللبنانية ضمن قوات اليونيفيل. كيف يمكن لهذه الدولة أن تلعب دور الوسيط بين حليفها الإستراتيجي والعسكري اسرائيل، وبين لبنان أرض النصر والفخر؟
في جميع الاحوال، الرؤية التركية – العثمانية الجديدة واضحة في المنطقة. تهدف هذه الرؤية إلى إعادة الدور السـياسي والإقتصادي والعسكري والثقافي التركي إلى الأراضي والمناطق التي كانت سابقا ً مقاطعات وولايات ضمن السلطنة العثمانية.

إن أحمد داوود أوغلو، ومن خلال فكره السيـاسي الذي يقول أن ليس هناك حلّ لأيّ مشكلة وأزمة سياسية في المنطقة دون العودة إلى السابق العثماني، يهدف إلى إعادة الماضي العثماني في الحاضر لتأمين الدور القيادي لتركيا في منطقة الشرق الأوسط.
أسئلة كثيرة تطرح نفسها أمام هذا الواقع. هل سياسة الـ«لا مشاكل» التركية فعلا واقعية؟ ألا تذكرنا عودة الدور التركي في المنطقة بالمجازر العثمانية التي ارتكبت بحق الشـــعب اللبناني؟

إن تركيا لم تحقق شيئا ولو تقدماً بسيطاً في علاقاتها مع الدول المجاورة. فهي تحاول اليوم وبكل وقاحة لعب دور البطل في الصراع العربي – الاسرائيلي لنيل إعجاب الشعوب العربية مفبركا ما يسمّى بتأزم العلاقات التركية – الإسرائيلية والتي تبقى دائما مسرحية رخيصة.

علينا الا ننسى ما أعلنه أردوغان عام 1993 بقوله «إن تركيا لديها القوة الكافية لتطبيق رؤية سياسية امبراطورية واذا رغبت تركيا أن تلعب دوراً إقليمياً أساسيا في الألفية المقبلة عليها أن تتبنّى رؤية سياسية توسعية امبراطورية.

وهكذا تستغلّ تركيا اليوم مشاعر الشعوب العربية لتحصل على دعم سياسي ومكانة سياسية متقدمة في المنطقة. من جهة أخرى فهي لم تلغ أياً من معاهداتها الـ 26 العسكرية والإستراتيجية مع اسرائيل بالرغم مما يسمّى بتأزّم العلاقات الديبلوماسية بين الدولتين والإنسحاب المسرحي لأردوغان من مؤتمر دافوس. إذا كان هناك فعلاً أزمة ديبلوماسية بين تركيا واسرائيل، فلتتفضل السلطات التركية وتلغ كلّ معاهداتها العسكرية مع اسرائيل، وإذا كانت النوايا التركية صادقة اتجاه الشعوب العربية فلتستخدم كل قوّتها السياسية في الصراع العربي الإسرائيلي ضد العدو الصهيوني وتساعد الفلسطينيين في قيام دولتهم المستقلة. وقبل كل هذا، فلتعتذر من اللبنانيين والسوريين عن المجازر التي ارتكبها أجدادها الشرعيون، العثمانيون.

وأخيراً، هل نقبل نحن اليوم الجيل الشاب الصاعد بقوة سياسية تدخل المنطقة من الباب العريض ولديها رؤية امبراطورية توسيعية تبقى دائما حليفة الولايات المتحدة واسرائيل؟

شانت كريكوريان

8 أيار 2011

http://www.aldiyaronline.com/index.php/article-details/62995

Share This