هنرييت عبودي تخوض تاريخ المأساة الأرمينية

مرّ قرنٌ على مذبحة الأرمن والسريان التي ارتكبتها الدولة العثمانية. وعلى رغم مطالبة الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا تركيا بالاعتراف بالمجازر التي ارتكبتها ضد الأرمن والسريان وغالبية المسيحيين والاعتذار لهم، تصرّ على عدم الاعتراف بالجريمة حتى ولو كلفها الأمر طردها من عضوية الاتحاد الأوروبي. ذلك لأنّ المجرم لا يريد الاعتراف بجريمته حتى لو ضبط متلبساً بها، ولكن ما بال الضحية التي انتظرت قرناً لكي تفتح هذا الملف الذي كاد يطويه النسيان؟.

كُتب الكثير من الكلام عن هذه الجريمة البشعة في السياسة والتاريخ وعلم الاجتماع، ولكن لم تتمّ معالجتها إبداعياً عبر عمل يوازي حجم ضحاياها الذين قاربوا النصف مليون قتيل. هل كان الأرمن ينتظرون من العرب أن يكتبوا بدلاً عنهم وهم الغائصون حتى ركبهم بحروبهم وطائفيتهم وعنصريتهم التي تتفجر يوماً بعد آخر؟

تعترف الكاتبة هنرييت عبودي في روايتها «وداعا ماردين» (دار الفرات، بيروت)، وبشيء من الشعور بالذنب، إنها كتبت هذه الرواية لأن الجراح التي خلفتها الجريمة لم تندمل بعد، على رغم مرور كلّ هذا الوقت. إنها تروي سيرة عائلتها الشخصية عبر أكثر من جيل، حيث تبدأ هذه السيرة من نهاية القرن التاسع عشر ويبدو إنها ستستمر ولن تتوقف، فهناك جزء ثان لهذه السيرة قد يظهر خلال السنوات المقبلة كما هو مثبت في نهاية الرواية.

ولأن الرواية سيرة ذاتية لعائلة معروفة في مدينة ماردين، لا تتورع الكاتبة من إضفاء الصفات المشرقة على شخوصها بدءاً من الجد الكبير يونان الذي يرد وصف له يقربه من الولاة والوجهاء وانتهاء بأخر فتاة شابة لا يفارقها الذكاء. كان من المفيد لو إن الكاتبة قد عرضت مخطوطة الرواية على زوجها المفكر الكبير جورج طرابيشي الذي لديه كتب كثيرة عن أصول «الرواية العائلية» الفرويدية، خصوصاً في كتابه عن رواية «الياطر» لحنا مينا، لكان استطاع إقناعها بالتخلي عن هذه التقنية.

يمكن عدّ هذه الرواية وثيقة تاريخية لأنها تتحـــدث عن وقـــائع بحذافيرها وأشخاص عاشوا في الفترة التي وقعت فيها الجريمة، وكذلك عن أشخاص ما زالوا يعيشون بيننا ولهم صفة الشهود الذين يمكن لهم أن يدلوا بدلوهم أمام أي محكمة يمكن لها أن تفتح مثل هذه الملفات.

ركّزت الكاتبة في روايتها على الحقيقة وحاولت أن تكون حكايتها دقيقة وأقرب إلى ما حدث تقريباً، غير عابئة بالشكل وتقنياته حيث جاء السرد واقعياً واللغة سلسة ومفهومة وبتسلسل منطقي لا يشذ عن مفهوم الرواية التقليدية في خمسينات وستينات القرن الماضي. أكثر الفصول واقعية هي تلك التي تتحدث فيها الكاتبة عن آلام الأرمن والسريان الذين هربوا من البطش والموت إلى كل جهات الأرض والمصائب التي رافقتهم في هذا الهروب الكبير.

من الأشياء التي أثقلت أجواء الرواية تلك النبرة الوعظية حول التسامح والعيش المشترك بين المسلمين وغير المسلمين في الرقعة الجغرافية التي كانتها الإمبراطورية العثمانية العمياء. هذا الوهم الذي نتعامى عنه هو أحد أكبر الأسباب التي تجعلنا نخوض حروباً أهلية سنة بعد أخرى، لابد لنا من الاعتراف بهذه الحقيقة التي تصفعنا كل يوم في الشارع والتلفزيون والجريدة اليومية وفي البيت الواحد أحياناً. لسنا نحن العرب عنصريين فحسب، بل طائفيون أيضاً فكيف تريدوننا أن نطيق الأخر المختلف؟

صلاح حسن

الحياة

Share This