الأحداث التي سبقت عمليات الترحيل في عام 1915

 

ليس ثمة شك بما حدث عام 1915، فقد تمَّ طرد السكان الأرمن في الإمبراطورية العثمانية من بيوتهم، وترحيلهم إلى أصقاع بعيدة ومناطق تعوزها أسباب الحياة، اختارتها لهم الحكومة. وقد جرى قتل بعضهم منذ البداية، وهلك بعضهم الآخر وهم في الطريق، ومات آخرون بعد وصولهم إلى الأماكن المنشودة، وقد تجاوز عدد القتلى ستمئة ألف شخص، ومن المرجح وجود ستمئة ألف شخص آخرين تقريباً على قيد الحياة في الأماكن التي تم نفيهم إليها، أما الستمئة ألف الآخرون، فقد أرغمتهم السلطات على اعتناق الإسلام، أو هربوا إلى الجبال، أو إلى خارج حدود الإمبراطورية العثمانية، ولا يمكن للحكومة التركية أن تنكر هذه الوقائع، كما لا يمكنها أن تجد تبريراً لها.

ولهذا فقد ركزت الحكومة العثمانية والمتأولون الألمان الذين دافعوا عنها، على إثبات أن القضية تتلخص في أن الأرمن قد تآمروا ضد الدولة العثمانية[1] وثمة ثلاث حجج يثيرها الأتراك، ولاتخلو واحدة منها من المآخذ.

تقول الحجة الأولى، إن الأرمن حملوا السلاح، وانضموا إلى صفوف القوات الروسية عندما اجتازت الحدود العثمانية، ويستشهد دعاة هذه الحجة بثورة وان، إذ يقول هؤلاء: إن أوامر الترحيل صدرت بعد اندلاع هذه الثورة من أجل إحباط إمكانية تكرار حدوثها في أماكن أخرى. ويمكن دحض هذه الحجة بسهولة، فقبل كل شيء، لم تحدث ثورة في وان، وكان كل ما هنالك أن قام الأرمن بالدفاع عن الحي الذي كانوا يقطنونه في مدينة وان، بعد أن قامت القوات التركية بتطويقه ومهاجمته، وبعد أن ارتكبت الدوريات التركية المجازر في القرى النائية.

ومن هنا يتضح أن الأتراك هم البادئون، وتقع مسؤولية ذلك على الوالي التركي جودت بك، إذ كانت وحشية هذا الوالي وشخصيته المتقلبة والتي لا يمكن ضبطها هي السبب الحقيقي في حدوث الكارثة، وسيجد أي شخص يقرأ الشهادة غير المنحازة حول هذه المنطقة صدق ذلك، وفي المقام الثاني بدأت أعمال الترحيل في كيليكيا قبل نشوب القتال في وان. فقد أطلق الأتراك الطلقة الأولى في وان بتاريخ 20 نيسان 1915، وكانت أول دفعة من الأرمن تم ترحيلها من زيتون بتاريخ 8 نيسان، ويوجد سجل يثبت وصولهم إلى سورية مع بداية 19 نيسان.

 وهكذا يتضح أن قضية وان التي هوّل أمرها المتأولون واهية ولا أساس لها من الصحة[2]، ولا يمكنهم رد اعتبارهم وتبرير ذلك بالادعاء باندلاع ثورة سابقة في زيتون، وصحيح أن خمسة وعشرين مجنداً من الثوار، كانوا قد اشتبكوا مع القوات التركية دفاعاً عن النفس طوال يوم كامل في دير يقع قرب زيتون، ثم هربوا إلى الجبال المجاورة أثناء الليل، بيد أن هذه الحادثة جرت قبل يوم واحد من الترحيل، ويجب أن يكون قرار الترحيل، قد اتخذ ذلك بفترة طويلة، إذ سبقتها أعمال تفتيش مطولة عن الأسلحة، ومجيء لاجئين من مسلمي البلقان إلى المنطقة، ليحلوا محل الأرمن في زيتون عند مغادرتها، وخلال هذه الإجراءات الأولية – التي شكل معظمها انتهاكاً لميثاق الحريات الذي منحته الحكومة العثمانية لسكان زيتون – فقد حافظ السكان جميعهم (15000 نسمة مقابل 25 جندياً من الثوار) على السلام بشكل دقيق جداً، وكان الزعماء الأرمن قد دعوا الشعب إلى التزام الهدوء، ولاقوا استجابة تامة منه، ولم يحدث أي شيء في زيتون يستدعي اتخاذ الحكومة سياسة الترحيل.

وثمة أمثلة عديدة أخرى شهر فيها الأرمن السلاح، إلا أنها لا تمت بصلة إلى هذه القضية، لأنها جرت بعد هذه الأحداث التي أوردناها، ولم تكن سوى محاولات للدفاع عن النفس من شعب شاهد إخوانه يقتلون ويطردون، ووجد أن المصير نفسه يهدد وجوده، فقد قاوم أرمن موش القوات التركية بقيادة جودت بك، الذي حاول قتل الأرمن في وان، وتمكن من قتلهم في سعرت وبيتليس. وقد قاوم الأرمن في صاصون عندما قام الأكراد بقتلهم في ديار بكر، وقد جرى ذلك في حزيران، كما قاوم المسيحيين النسطوريين في حكاري، الذين تعرضوا  للظروف نفسها وفي التاريخ نفسه. وعلى مسافة أبعد قليلاً إلى الغرب حملت عدة قرى السلاح في مقاطعات سيواس بعد أن تم ترحيل ماتبقى من أرمن سيواس، وفي شابين كاراهيسار طرد الأرمن السكان الأتراك من البلدة، وراحوا يتصدون للقوات التركية دفاعاً عن أنفسهم  لعدة أسابيع، عندما سمعوا أنباء قتل الأرمن المنفيين من طرابزون وكيراسون وهم على الطريق، وكان الدفاع عن جبل موسى في آب (القصة الوحيدة في هذا الكتاب التي انتهت نهاية سعيدة) نتيجة المصير الذي لاقاه الأرمن في زيتون، أما المقاومة في أورفة خلال شهر أيلول، فقد كانت عملاً يائساً آخر، جاء نتيجة سلسلة أعمال الطرد من خربوط ومن الشمال الشرقي.

هذه هي كل أعمال المقاومة التي رويت، وكانت كلها نتيجة أعمال الطرد، وليست سبباً لها، إضافة إلى أن الأتراك كانوا يصدّون أي مقاومة، ويقمعونها بعنف ووحشية، ولم يكونوا يكتفون بالانتقام من المقاتلين، بل كانوا في معظم الحالات يقتلون أي أرمني، سواء أكان رجلاً، أم امرأة أم طفلاً ببرود شديد بعد انتهاء المعركة.

أما الحجة الثانية فتقول: إن الأرمن كانوا يحيكون مؤامرة في أرجاء الإمبراطورية للقيام بثورة داخلية بغية تسليم البلاد إلى الحلفاء، في الوقت الذي كانت فيه جميع القوات العثمانية منهمكة في القتال.

وتزعم الحكومة التركية أن الإجراء الفوري الذي اتخذته، والذي تمثل في نزع سلاح وسجن وإعدام وترحيل الشعب الأرمني بأكمله – البريء والمذنب على حد سواء – أدى إلى سحق الحركة قبل إعلانها. إن هذه الحجة خبيثة لأنها ترفض أن تخضع لإثبات حقيقة ما حدث، فإذا كان قد أمكن عزل الثورات الحقيقية التي اندلعت نتيجة الذعر والتي اقتصرت على الدفاع عن النفس، وجاءت بعد اتخاذ الحكومة الإجراءات الوقائية، فإن كل هذا لا يشكل إثباتاً على براءة الأرمن، بل على نشاط الحكومة، ونفاذ بصيرتها فقط، ومع ذلك فعندما يدقق المرء في هذا الاتهام، يجد أنه يقوم على أسس تافهة ومتلاعبة كذلك.

وقد زعم أن الثورة كانت ستندلع عند نزول الحلفاء في كيليكيا – إلا أنه لم يحدث هذا الإنزال أبداً، كما لم يكن متوافقاً مع الإنزال في الدردنيل – الذي تم من دون أن تندلع الثورة، وفي حقيقة الأمر، يصعب الظن بما كان بوسع الأرمن أن يفعلوه، لأن جميع رجالهم الأقوياء الذين تتراوح أعمارهم بين العشرين والخامسة والأربعين، كان قد تم تجنيدهم في بداية الحرب، ثم توسعت دائرة العمر حتى شملت الرجال بين الثامنة عشرة والخمسين من العمر، ولكن سرعان ما ثبت زيف ذلك كله، إذ من الثابت أن الأرمن يمتلكون عدداً من البنادق والمسدسات، لأن حكومة الاتحاديين سمحت لهم خلال السنوات الست الماضية بحمل السلاح للحماية الشخصية، وهو امتياز كان يتمتع به بطبيعة الحال جميع المواطنين المسلمين في الإمبراطورية العثمانية. ولكن كان من الواضح أنه لم يكن بحوزتهم أسلحة كافية، حتى مع الأعداد القليلة من الأشخاص الذين لم يتم تجنيدهم، فقد قامت السلطات العثمانية بعمليات تفتيش البيوت عن الأسلحة في شتاء 1914-1915 والتي رافقها بعض أعمال التعذيب الوحشي، إذ أخذ الأرمن يشترون سلاحاً من جيرانهم المسلمين، ليسلموها إلى السلطات، كي لا يتعرضوا إلى عقوبة أسوأ من السجن، وقد أفاد عدد كبير من الشهود الثقات عن حدوث هذه الممارسات.

بيد أن قصة القنابل تبقى أكثر تطرفاً ومغالاة، ففي ميرزيفون مثلاً، تم اكتشاف قنبلة مطمورة في مقبرة للأرمن، واتخذت ذريعة لارتكاب أعمال شنيعة ضد السكان الأرمن، بالرغم من أن القنبلة كان يعلوها الصدأ، وكان يعتقد أنها تعود إلى أيام عبد الحميد، حيث لم يتورع الاتحاديون، عندما كانوا لا يزالون منظمة سرية بالإضافة إلى الأحزاب الأرمنية الثورية، في استخدام القنابل، كما تعرض في هذه البلدة حداد كان يعمل في الكلية الأمريكية إلى تعذيب وحشي بتهمة “صنع قنبلة”، ولكن سرعان ما تبين أن هذه القنبلة لم تكن سوى كتلة حديدية، كان قد كلف بصنعها استعداداً لمسابقة “رفع أثقال” التي كانت ستجرى في عداد مباريات الكلية.

كما زعم أن الأرمن على السواحل كانوا على اتصال خياني مع أساطيل الحلفاء، فعلى سبيل المثال، تم ترحيل البحارة الأرمن في سيليفري العاملين في بحر مرمرة بحجة تزويدهم الغواصات البريطانية بالمؤن، وقبل ذلك وفي أوائل شهر نيسان 1915، أعدمت السلطات شنقاً ستة أرمن من قرية “دورت يول” وهي قرية تقع على خليج إسكندرونة في أضنة، وذلك بتهمة إعطائهم إشارات إلى أسطول من السفن الفرنسية والبريطانية – وهي خطوة تبعها ترحيل كل سكان دورت يول إلى الداخل للقيام بأعمال شق الطرق، ويمكن الوقوف عند هذا الاتهام ضد دورت يول، إذ يقول شاهد عيان (مقيم في كيليكيا وهو من جنسية محايدة وذو مكانة رفيعة)، إن أرمنياً واحداً من دورت يول كان على اتصال مع سفن قوات الحلفاء. وهذا الإثبات مصدر ثقة، ويمكن الركون إليه، لأنه إذا كانت فعلاً دورت يول على اتصال منتظم مع أسطول الحلفاء، فمن غير المعقول أن يستغرق الأرمن في منطقة جبل موسى، التي تبعد عدة أميال عن الشاطىء أربعة وأربعين يوماً لجلب انتباه الأسطول، عندما كانت المسألة بالنسبة إليهم قضية حياة أو موت.

وهكذا تثبت الحجة الثانية فشلها، وتبقى الحجة الثالثة التي تركز قليلاً على العدالة والأمن العام، وتقيم المسألة كلها على أساس الانتقام. إذ إن هناك جدلاً يقول: إن سبب الكوارث التي أصابت السكان المدنيين الأرمن في الإمبراطورية العثمانية، هم المتطوعون في الجيش الروسي، حيث يقول الأتراك: “في واقع الأمر عانى الأرمن في تركيا الأمرّين من الإجراءات التي اتخذناها ضدهم، ويمكن أن يكونوا أبرياء وعانوا ما عانوه، ولكن من يمكنه أن ينحي باللائمة علينا؟ أليست هي الطبيعة الإنسانية التي دعتنا إلى الانتقام ضد الأرمن في وطننا بسبب الضرر الذي لحق بنا بسبب بني جلدتهم الذين قاتلوا ضدنا في الجبهة إلى جانب الروس – هؤلاء الرجال الذين تطوعوا لقتالنا لمصلحة أعدائنا؟”.

وتعتبر هذه الحجة المفضلة تقريباً لأولئك الذين يحاولون إيجاد تبريرات للمجازر التي جرت، إلا أن هذه الحجة هي أكثر الحجج السابقة وحشية، لأن المتطوعين الأرمن لم يكن لهم ولاء للأتراك، وذلك لسبب بسيط، وهو أنهم كانوا من الرعايا الروس، فمن خلال حصول الروس على الأراضي والسماح للأرمن بالهجرة عبر الحدود، أصبحت الحكومة الروسية حتى عام 1914 تسيطر على أكثر بقليل من نصف الشعب الأرمني[3]. لذا اعتبرت روسيا من الناحية القانونية “الوطن الأم” لهذه الأقلية، تماماً كما كانت تركيا الوطن الأم للأرمن الذين يعيشون فيها، وإنه لمن سوء طالع أي شعب، أن يكون منقسماً ويخضع لولاءين، ولاسيما عندما تكون هاتان الدولتان في صراع، إلا أن الأمر الذي يخفف من حدة المشكلة هو عندما يجد كل قسم نفسه متعاطفاً، حتى عندما يكون في حالة حرب، مع الدولة التي ينتمي إليها من الناحية القانونية، وهكذا فلا يمكن أن يلقي لوم ولاء الأرمن الروس على الأرمن الأتراك، بل ليس له علاقة بالأتراك. وربما سيقول الأتراك: إنه لم يكن لديهم أي اعتراض على الأرمن الروس، وهم يؤدون واجبهم، إلا أنهم شعروا بالاستياء من أمر أكبر من ذلك. “فالمجندون لبوا النداء بشمل طبيعي، ولكن لماذا هرع أولئك الذين كانوا معفيين من الخدمة للتطوع بحماسة شديدة؟ في حين اتخذ الأرمن العثمانيون موقفاً مغايراً تماماً، ففي بداية الحرب أرسلت جمعية الاتحاد والترقي مندوبين إلى مؤتمر حزب “طاشناقتسوتيون” (Dashnaktsoution) في أرضروم، وقدموا لهم تنازلات تتعلق بالجنسية ودعوهم إلى تجنيد متطوعين بغية احتلال الأراضي الروسية، إلا أنهم رفضوا رفضاً قاطعاً – في حين لم ينتظر بنو جلدتهم أن يطلب منهم ذلك على الطرف الآخر، وهذا الأمر يوضح العواطف الحقيقية للشعب الأرمني وطموحاته، ليس في روسيا فقط، بل كذلك في بلدنا”.

هناك بالطبع رد مفحم وحاسم على هذا الوابل من الحجج، فإذا كان شعور الأرمن تجاه الأتراك والروس متبايناً إلى درجة كبيرة، فإن ذلك لم يكن سوى انعكاس خطِر لمعاملة الأتراك لهم، وكان الحل المنطقي لتغيير مشاعرهم الذين مازالت ذكرى المجازر التي ارتكبت ضد إخوانهم في أضنة منذ عدة سنوات ماثلة في ذاكرتهم، بالدفاع عن الذين أصدروا الأوامر بارتكاب هذه المجازر؟.. وهل يتوقع أحد أن تكون مشاعرهم مغايرة لذلك؟ ولكن مادامت مشاعرهم فقط كانت موضع تساؤل، ولم يكن يشوب سلوكهم أي شائبة، فهل يحق للأتراك معاملتهم بطرق لا تمت للإنسانية ولا للدستور بصلة؟ وهنا يمكن أن نقيم مقارنة: فقد كانت هنال ألوية من المتطوعين البولونيين في جيش النمسا – المجر، فماذا سيكون رد المتأولين الأتراك والألمان، إذا قامت الحكومة الروسية بالتعبير عن حدة كراهيتها لهؤلاء المتطوعين النمساويين – البولونيين، وذلك بسحق المدنيين البولونيين الروس الموجودين في بلادها؟..

والحقيقة المهمة هنا تكمن، في أن جميع هذه التذمرات التركية موجهة مباشرة إلى الأرمن الروس الخاضعين للولاء والحكم الروسي. فلا  دلائل تشير إلى خيانة الأرمن العثمانيين الذين جنّد الكثير منهم بصورة غير شرعية في الجيش التركي، ولا تلميح إلى أن سجلهم لم يكن مرضياً عام 1914، كما كان عام 1912[4]، وحسب معلومات المحرر تشبث المتأولون الألمان بوجود “خائنين اثنين” بالمعنى القانوني للكلمة (وليس الأخلاقي) فمن الطبيعي أن يهرب عدد اللاجئين من مناطق مثل موارد من سيواس إلى القوقاز عندما كانت المجازر على أشدها – أشخاص أرغموا على الدفاع عن أنفسهم، ورأوا جيرانهم وأقرباءهم، يقتلون مرة أخرى من كل حدب وصوب.

ولا يحق للمتأولين الألمان أن ينحوا باللائمة على هؤلاء الأشخاص الذين تعرضوا لمثل هذه الظروف، وذلك بسبب عدم تطوعهم في الجيش، إلا أنه توجد حالتان عن انتقال رعايا أرمن إلى الطرف الروسي قبل بدء المجازر – وهما شخص يدعى كاريكين بصدرمجيان، وهو نائب في البرلمان العثماني، وأرمني آخر يدعى سورين يقال إنه كان عضواً في مجلس الطاشناقتسوتيون في أرضروم، ويقول الكاتب الألماني الذي اقتبست من كراسته[5] هذه الأمثلة: “على الرغم من ذلك كان على الحكومة العثمانية أن تؤيد القانون والنظام العامين، إلا أن الإجراءات من هذا النوع في وقت الحرب تتخذ طابعاً عظيم الشأن، – وبهذا التعميم يصدر عفو ضمني على المجازر الوحشية التي ارتكبت عام 1915. وإذا كان هذا يمثل دفاعاً عن الحكومة العثمانية، فإن الرد يتمثل في البرهنة على صحة ذلك بإبطال نقيضه، إذ عندما نزل السير روجر كايسمنت (Roger Casement) من غواصة ألمانية على الساحل الإيرلندي، كان على الحكومة البريطانية بناء على ذلك أن تطرد جميع السكان الإيرلنديين الذين ينتمون إلى طائفة الكاثوليك، وأن تنقلهم إلى شواطىء لابرادو، أو إلى أواسط الصحراء في أستراليا. والمقارنة دقيقة ووافية، ولا تترك مجالاً لإضافة المزيد حول هذا الموضوع.

ويجدر بنا أن نورد ما ذكره وزير الداخلية لحزب تركيا الفتاة طلعت بك خلال مقابلة أجراها معه في الآونة الأخيرة مراسل صحيفة برلينر تاجيلات (Berliner Tageblatt):[6] “إن الأحداث المؤلمة التي جرت في أرمينيا أزالت النوم عن عيني، فقد أنحي علينا باللائمة، لأننا لم نفرّق بين البريء والمذنب، إذ إن ذلك كان شيئاً من ضرب المستحيل، لأن الأبرياء اليوم يمكن أن يكونوا مذنبين غداً”. ولا داعي لمزيد من الشهادات هنا.

وهكذا تثبت جميع ادعاءات وحجج الأتراك بطلانها، إذ تحاول كلها أن تعزو مجازر عام 1915 إلى الأحداث الناجمة عن الحرب. ففضلاً عن أنه لا يمكنهم تبريرها على هذا الأساس، فهم لا يقدمون أي أسباب مقنعة وكافية تدعوهم لارتكاب هذه المجازر، ومن الواضح أن الحرب كانت مجرد فرصة، وليست حافزاً – لأن مخطط الترحيل وكل ماتبعه من مغبات انبثق عن السياسة العامة لحكومة الاتحاديين، ويمكن تأكيد هذا الاستنتاج إذا أجرينا تحليلاً للإيديولوجيات السياسية التي تبناها الاتحاديون.

لقد بدأت حركة الاتحاديين كرد فعل إزاء سياسة عبد الحميد، فقد رفض مؤسسو الاتحاد والترقي “تحييد” القوى الذي دعا إليه عبد الحميد، وقالوا: إن الإمبراطورية العثمانية يجب أن تقف بفضل قوتها وحدها، وإنه يجب تطوير هذه القوة وتنميتها، وذلك بإعادة البناء بشكل جذري من الداخل، ومن منفاهم في باريس أخذوا ينادون بمبادئ الثورة الفرنسية (الدين، التسامح، إلغاء الامتيازات الطبقية، مساواة جميع المواطنين أمام القانون، أداء جميع المواطنين الخدمة العسكرية، إقامة حكومة دستورية من خلال برلمان يمثل الجميع). وعندما تسلموا مقاليد السلطة حاولوا تطبيق بعض هذه المبادئ، وفي تركيا مثله مثل فرنسا قبل 120 عاماً أسفر” الاستدلال المنطقي” عن نشر السلام والمحبة بين الناس لفترة وجيزة من الزمن خلال عام 1908، ويشهد جميع المراقبين الأجانب تقريباً الذين كانوا في البلاد آنئذ بذلك التحول السحري والعجيب من الكراهية إلى المحبة، واعتقد الأرمن الذين كانوا يتوقون لرؤية هذا اليوم أكثر من غيرهم، أن النظرة المثالية للاتحاديين كانت تماثل نظرتهم، ومع ذلك، فقد كانت توجد خلافات غيرظاهرة، فقد أدرك الاتحاديون أن العناصر المسيحية، كانت رصيداً جيداً لهم، فهم لم يقترحوا من البداية تدميرهم كما فعل عبد الحميد، بل أرادوا التعاون معهم كشركاء منفصلين في الدولة العثمانية، إذ كانوا يمقتون “الملل” كمؤسسة بقدر ما كانوا يمقتون دكتاتورية عبد الحميد، وأصدروا قانون التتريك ضد مبدأ الملل، فقد كانت سياستهم تهدف إلى التغلغل في الفئات غير التركية، لكي تصبح وحدة متكاملة ومتجانسة، وقد أخذ هذا البرنامج في البرلمان أشكالاً مختلفة مثل قانون اعتبار اللغة التركية لغة رسمية، وفرض التعليم باللغة التركية في المدارس الثانوية[7]. وعارض النواب الأرمن هذا القانون تمشياً مع معارضة حزب الأحرار، الذي كان يضم الكتلة العربية، وطالبوا باحترام مشاعر الجنسيات الأخرى. وفي واقع الأمر، فقد تشرب الاتحاديون التيارات الجديدة والسيئة في السياسة الحديثة لأوروبا الغربية – بمبادئها الديمقراطية وتعصبها القومي.

إن معظم أصحاب النظريات السياسية الذين لم يدخلوا المعترك السياسي العملي، يعزون هذا الولاء المشوش وغير المستقر إلى المثاليات متضاربة وغير متوافقة، وعندما يتسلمون زمام السلطة، ترغمهم الظروف على اختيار سيد ما لكي يقوموا بخدمته. ففي عام 1908 لم يكن اختيار الاتحاديين مقرراً، ومن الجائز أن تكون “جمعية الاتحاد والترقي” كانت قد حددت أهدافها المنقسمة، إلا أن تحررها من الوهم سرعان ما حدد مسارها، وتلاشى الفجر السحري العجيب للحرية، وسقط عبء الحكومة العثمانية البائد والمهشم على أكتاف أشخاص تعوزهم الخبرة، مثل عبد الحميد في تحديد موازين القوى، إذ إن خرق البلغار والنمساويين لمعاهدة برلين وماتبع ذلك من فقدهم بعض المناطق في حرب البلقان، أدى إلى زعزعة مكانة جمعية الاتحاد والترقي، وإلى تفاقم صعوبة مشاكلهم، الأمر الذي أوغر صدرهم، وأخذ تيار التعصب القومي (الشوفينية) يزداد بشكل مطّرد، وأثبت تدخلهم في الحرب الكبرى هيمنة هذا التعصب عليهم بشكل كامل، لأن حساباتهم في التدخل كانت ذات طابع بروسي بحت، وكان النصر العسكري يهدف إلى استعادة نفوذهم واستعادة أراضي الإمبراطورية القديمة في مصر والقوقاز والمقاطعة الفارسية التي طالما تاقوا إلى ضمها وهي أذربيجان، وكانت تهدف إلى التخلص من السيطرة الدولية وحل المشاكل الداخلية عن طريق إيجاد خلاص سهل من مشكلتها المستعصية، إلا أن آمال تحقيق النصر واستعادة أراضيهم سرعان ما تلاشت نتيجة المعارك الحربية الاستراتيجية الفاشلة في شتاء 1914 – 1915 والتي كانت مخزية، شأنها شأن حروب 1912 الفاشلة، وبعدها أخذ الاتحاديون يركزون بوحشية على سياسة التتريك داخل تركيا.

وقد أصبح التتريك هاجس الاتحاديين، فقد كان أول عمل قاموا به بعد إعلان الحرب، هو إلغاء الامتيازات الأجنبية، وتمثلت ضربتهم الأخيرة في إعلان اللغة التركية اللغة الرسمية الوحيدة في أنحاء الإمبراطورية، وجاء ذلك متأخراً سنة واحدة – وهي خطوة أحدثت ذعراً في صفوف حلفائهم الألمان، وبهذا المزاج التفتوا إلى المسألة الأرمنية التي نشأت في ذلك الوقت لتصل إلى مرحلة مهمة.

وفي 1912-1913 اجتمع الدبلوماسيون الأوروبيون مرة أخرى للتشاور في وضع الامبراطورية العثمانية، وعرض الأرمن على المؤتمر الذي عقد في لندن، كما فعلوا منذ خمسة وثلاثين عاماً في برلين[8]، وعندما تبين لهم أن المؤتمر لن يطّلع على العريضة المقدمة، قاموا بتوزيعها على كل حكومات الدول الكبرى، وأخذت الحكومة الروسية المبادرة وقدمت مشروع خطة جديدة لموقعي معاهدة برلين، وعارضت الحكومة الألمانية المشروع، غير أن الدبلوماسية الروسية تمكنت من التغلب على المعارضة مستعينة بالتوضيحات التي قدمها أعضاء الوفد الأرمني الذين توجهوا مراراً إلى برلين، وعندما سحبت برلين معارضتها، أجرى سفراء الدول الكبرى في القسطنطينية تعديلاً على المشروع الروسي، وقبلته حكومة الاتحاديين مع إدخال بعض التعديلات، ونشر بتاريخ 8 شباط 1914.

وكان المشروع لا يزال يجسد في شكله النهائي النقاط الرئيسة للإصلاحات التي اعتبرت رئيسة عام 1878، إذ نص على أن يضم الدرك كلاً من الأتراك والأرمن تحت قيادة أوروبية، واستثنى من ذلك الأكراد، وعلى أن يكون المسلمون والمسيحيون على قدم المساواة أمام القانون، وأن تكون اللغة الأرمنية معتمدة في المحاكم والدوائر الحكومية (وهي فقرة قاسية بالنسبة للوطنيين الاتحاديين)، وعدم تقييد فتح مزيد من المدارس الأرمنية، وأخيراً نصت على تقسيم الأقاليم التي كانت تدخل في نطاق المشروع[9] إلى مجموعتين بحيث توضع كل مجموعة تحت إشراف مشرف أوروبي، يكون من صلاحياته تعيين وطرد جميع الموظفين الحكوميين باستثناء المسؤولين الذين يشغلون مناصب عالية، وتقوم الحكومة التركية بتعيين هذين المشرفين بتوصية من الدول الكبرى لمدة عشر سنوات، ولا يسمح خلال هذه الفترة بعزلهما من منصبهما، وقد شرعت الحكومة باختيار هذين المرشحين، ووقع اختيارها على مشرف هولندي وآخر نرويجي، إلا أن معاملتها لهذين المشرفين، سرعان ما أظهرت أن الاتحاديين كانوا يسيرون على خطا عبد الحميد فيما يتعلق بالأمور الدبلوماسية، وقد أدرجت فقرة في عقد توظيف المشرفين تعطي الحكومة صلاحية إلغائه في أي لحظة لقاء دفعها لهما تعويضاً يعادل راتب سنة واحدة – وهو خرق صريح لفترة السنوات العشر المنصوص عنها في تعيين الموظفين وعدم إمكانية قائمة “كبار المسؤولين” تتضخم حتى إن صلاحيتهما في تعيين الموظفين وعدم إمكانية عزلهما – وهما شيئان يدخلان في صميم صلاحيتهما – أصبحا محض وهم، ولم تتح للمرشحين السيِّئي الحظ مهلة ممارسة سلطتهما المبتورة، فما كادا يصلان إلى مقاطعتيهما حتى اندلعت الحرب العالمية، وألغت الحكومة على الفور عقديهما، وعلقت مشروع الإصلاحات كخطوة أولى نحو تدخلها في الصراع.

وهكذا، ومع اقتراب نهاية عام 1914، وجد الأرمن أنفسهم في الوضع نفسه الذي كانوا عليه عام 1883، فقد أخفقت جميع الإجراءات التي اتخذت لضمان سلامتهم، ولم تخلف لهم سوى الكراهية التي بقوا تحت رحمتها، لقد نجمت عمليات الترحيل 1915 بصورة حتمية عن حرب البلقان ومشروع 1914. مثلما نجمت مجازر 1894-1896 عن الحرب الروسية ومشروع عام 1878، وكشف الاتحاديون فقط عند تنفيذهم هذا الانتقام السمات الشريرة التي تميزهم عن عبد الحميد. فبقدر اختلاف السلطان عبد الحميد عن النموذج المألوف للطاغية الشرقي، فقد كان انتهازياً على طريقة مترنيخ، كما كان سياسياً محنكاً يتمتع بخبرة ناضجة، ولم يثقله أي برنامج يؤدي إلى إفساد براعته في معالجة الأمور، إذ قمع الأرمن بدقة متناهية بعد أن أعدَّ لذلك ثمانية عشر عاماً، أما الاتحاديون فقد كانوا مغامرين، ورفعوا شعارات جيل غير جيلهم، وأفكار مدرسة لا ينتمون إليها – فكانوا مقلدين تقليداً أعمى، ويؤمنون بنظريات يرغبون في تطبيقها من دون اعتبار للظروف الواقعية المحيطة بهم، فقد استبدلوا فكرة هيمنة المسلمين على المسيحيين التي تتنافى مع ظروفهم، والتي كرّس عبد الحميد كل قدراته من أجل الحفاظ عليها، فأظهروا تعصباً لعقيدة خرقاء، ووضعوا خطة كانوا يرغبون في المضي بها حتى النهاية، ولم يرضوا بأنصاف الحلول، كما لم تردعهم أي دوافع من الحكمة أو الإنسانية من أجل تحقيق كل ما يبغون إليه، إن هذه العوائق جعلتهم ساخطين إلى حدٍّ بعيد، كما حجبهم التركيز الأعمى على برنامجهم عن الشكوك في عدم صلاحية مبادئهم للتطبيق، ويذكر أن طلعت بك، كان قد قال في المقابلة الآنفة الذكر: “إن العمل الذي قمنا به أملته علينا الضرورة الوطنية والتاريخية، إن فكرة ضمان وجود تركيا يجب أن يفوق أي اعتبار آخر”.

إن أول المشاعر التي عبّرت عنها صفوة الأفكار الإيديولوجية التي كانت سائدة في القرن الثامن عشر، ويغلف الثانية غش وخداع بروسي، لايزال يحمل أثراً من الأزمنة الحديثة، فقد كانت تمثل صوت أكثر الحركات الوطنية الشابة في أوروبا فظاظة وبطشاً. والأعمال التي اعتذرت عنها، كانت تكريساً بربرياً للشرق الأدنى في أوروربا.

المصدر مختارات من بعض الكتابات التاريخية حول إبادة الأرمن عام 1915، ترجمة: خالد الجبيلي، اللاذقية – 1995)- شهادة أرنولد ج. توينبي). مقتطف من كتاب (شهادات غربية عن الإبادة الارمنية في الإمبراطورية العثمانية)، إعداد ومراجعة ودراسة: البروفيسور-الدكتور آرشاك بولاديان، دمشق – 2016.

20-  في كتب مثل Verite sur le movement revolutiomaire Aremenien et les mesures gouvermentalez 1916 القسطنطينية أو Die Armenishe Frage, von C.A.Bretter. (Berlin, Concordia Deut-Sche Verlags-Anstalt, 1915)

1-  في الكراس السابق وثيقة بعنوان “الحقيقة حول الحركة الثورية الأرمنية والإجراءات التي اتخذتها الحكومة ضدها” ترد الفقرة التالية: “أحجمت حكومة الإمبراطورية العثمانية عن فرض أي ضغط أو اتخاذ أي إجراء قمعي ضد الأرمن حتى يوم اندلاع الثورة في وان، حوالي منتصف نيسان 1915” (الصفحة 10).

“-لم تتخذ حكومة الإمبراطورية أي إجراءات قمعية ضد الأرمن حتى بدء اندلاع ثورتهم المسلحة في وان، وفي المناطق العسكرية الأخرى خلال شهر حزيران من عام 1915، وحتى تحالفهم مع قوات الأعداء” (الصفحة 15).

إن هذه الروايات كاذبة تماماً مثل الفقرة التي وردت في الصفحة (12) بأنه “بعد احتلال الروس والأرمن مدينة وان، ارتكبت مجازر وحشية ضد السكان المسلمين في تلك المدينة”، ويوجد بحوزتنا شهادة غير منحازة وموثوقة حول هاتين النقطتين، تدحض الروايات التركية، ومع ذلك فإن هذه الروايات الكاذبة هي محور الدفاع في هذا الكرّاس.

2- استناداً إلى إحصاء رسمي صدر في ألكسندروبول بتفويض من كاثوليكوس ايتشميادزين، بعث السيد هـ.ن. موسديتشيان مقتطفات منه إلى المحرر، فقد كان عدد السكان الأرمن في روسيا حتى تاريخه /1636486/ في القوقاز، ومليوني نسمة في الإمبراطورية ككل، أما بالنسبة للامبراطورية العثمانيةـ فإن الإحصاءات التي أجرتها بطريركية القسطنطينية عام 1912، تقدر عدد سكان الأرمن بـ /2100000/ نسمة، أما الإحصاءات التركية الرسمية من الناحية الأخرى، فلا تعرف بوجود أكثر من /1100000/ نسمة والتي تعطي الأغلبية لروسيا.

3-   لا يدخل المتمردون الـ 25 في زيتون في هذه القضية، لأن سكان زيتون كانوا معفيين من الخدمة العسكرية وفق اتفاق خاص، لذا كانت محاولة تجنيدهم تعتبر خرقاً للقانون العثماني من قبل الحكومة.

4- Die Armenische Frage, von C.A.Bratter, Berlin, Concordia Deutsche Verlags-Anstalt 1915

الإشارة إلى الصفحتين 9 و10.

5-  أعيد نشرها في صحيفة لاماتان (Le Matin) الباريسية بتاريخ 6 أيار 1916 بموجب رسالة خاصة بتاريخ زيوريخ 5 أيار.

6-  كانت الأغلبية العظمى من المدارس الثانوية في الإمبراطورية بطبيعة الحال أمريكية وأرمنية ويونانية، ولم تكن ثمة مدارس تركية من الناحية العملية.

7- رشح أعضاء وفد 1912 من قداسة كاثوليكوس ايتشميادزين ورأسه سعادة بوغوص نوبار باشا.

8- أضافت الحكومة العثمانية، لأسباب إحصائية، إقليم طرابزون إلى الأقاليم الستة الأخرى بسبب وجود أغلبية مسلمة لكي تحدث توازناً مع الأغلبية الأرمنية في باقي الأقاليم.

Share This