معاملة الأرمن في الإمبراطورية العثمانية في عامي 1915-1916 (1)

من الملخص التاريخي “معاملة الأرمن في الإمبراطورية العثمانية في عامي 1915-1916”.

الشعب الأرمني والحكومة العثمانية

عندما دخلت الحكومة العثمانية الحرب العالمية عام 1914م، كان قد مضى على حكمها لأرمينيا أربعة قرون، وكان من بين رعاياها أغلبية عظمى من الأرمن. وسيجد الباحث في العلاقة بين الحاكم والمحكوم خلال هذه الفترة من تاريخ الشرق الأدنى، أكثر الآراء تضارباً، فمن ناحية سيعلم أن الأتراك يصنفون الأرمن، شأنهم شأن بقية المسيحيين في تركيا، في فئة الريا– (الماشية)[1] وتلخص هذه الكلمة موقفهم الذي لا سبيل إلى إصلاحه، إذ إنهم لم يكونوا يعاملونهم كمواطنين أو حتى كبشر. ومن الناحية الأخرى كان يسمع أن الإمبراطورية العثمانية، كانت تعامل رعاياها من الأقوام الأخرى بتسامح وحرية أكثر مما كانت تفعل كثير من دول أوروبا الغربية، وكان الأرمن يتمتعون بحرية تامة، ويعيشون كما يحلو لهم في ظل الحكومة التركية، والخلاف الناجم بين الحكومة ورعاياها يعود إلى سوء طبع الأرمن وعدم استقرار شخصيتهم، بل الأنكى من ذلك، فإن الخلاف بينهم كان نتيجة بذور الشقاق التي بثها عدوّ مشترك خارجي بينهم. إن هذين الرأيين المتطرفين يشوّهان وجه الحقيقة، مع أن كلاً منهما يحمل شيئاً منها.

ومما لا شك فيه (ولنأخذ وجهة النظر التركية أولاً)، أن الأرمن كانوا قد جنوا فوائد معينة وهم في ظل الحكم العثماني، وأن التفريق بين مسلم وغير مسلم (ريا- رعايا) مثلاً يمكن أن يصم الدولة العثمانية بالتخلف، ويجعلها تنتمي إلى العصور الوسطى، ويثبت أنها غير قادرة على التقدم. غير أن هذا الأمر ألحق بالدولة بشكل عام ضرراً أفدح من العقاب الذي كانت تهدف إليه، لأن التطرف في العقاب سلاح ذو حدين. وقد أبعدت الحكومة المسيحيين بشكل تام عن بقية مواطني الدولة المسلمين الذين يشكلون السواد الأعظم من الإمبراطورية، بل حتى حثتهم على تشكيل مجتمعات خاصة بهم، وقد تحولت الريا إلى ملل[2] (جمع ملة)، وبذلك لم تعد ثيراناً مكبلة، بل قطعان محررة من الأغلال.

وقد أنشأ السلطان محمد الثاني نظام الملل المسيحية بعد فتحه القسطنطينية عام 1453م، وأخذ يعمل على إعادة تنظيم الدولة العثمانية كوريثة للإمبراطورية الرومانية الشرقية، وهذه الملل عبارة عن مؤسسات وطنية ذات مواثيق مكتوبة بإسهاب في أغلب الأحيان، ويرأس كل ملّة بطريرك تقوم الطائفة بانتخابه، وتوافق عليه الحكومة، ويكون الوسيط المعتمد بين الطرفين، ويكون في الوقت نفسه رئيس هيئة الرعايا الطوعية والمسؤول أمام الحكومة العثمانية.

إن العمل الموكل إلى البطاركة يعطي الملل – كهيئة – صفة كنيسة، غير أن الكنيسة في الشرق الأدنى، لا تتعدى كونها مظهراً قومياً، كما أن سلطة البطاركة، كانت تمتد لتشمل المدارس، بل حتى فروعاً من المحاكم المدنية، إن الملل هي في الواقع هيئات مستقلة عملياً في كل ما يتعلق بشؤون الدين والثقافة والحياة الاجتماعية، إلا أنه استقلال مبتور وناقص، لأنها محرومة من أي تعبير سياسي. إن إقامة نظام الملل هو اعتراف وتبرير جزئي للوضع الشاذ والمريض السائد في الشرق الأدنى – التفكك السياسي لشعوب الشرق الأدنى، والتشبث على الرغم من كل ذلك، بحياتهم الروحية.

ولم يكن تنظيم الملل مكسباً لجميع الشعوب المسيحية التي كانت خاضعة للحكم العثماني، إذ فقد بعض السكان الأرثوذكس مثل البلغار والصرب استقلالهم الكنسي الذي كانوا يتمتعون به من قبل، وتم دمجهم مع ملة اليونان تحت سلطة بطريرك الأرثوذكس في القسطنطينية. ومن ناحية أخرى فقد تحسن موقف الأرمن. أما الذين كانوا يسمّون “المنشقين” فقد كانوا يعيشون تحت ظل كنيستين، واحدة أرثوذكسية، والأخرى كاثوليكية، إلا أن العثمانيين كانوا ينظرون إلى جميع المسيحيين على اختلاف طوائفهم من دون تمييز، وكان السلطان محمد الثاني قد استدعى المطران الأرمني لمدينة بروصة أو بورصة (Broussa) وقلده مرتبة بطريرك الأرمن في القسطنطينية.

وبهذا العمل منح العثمانيون الأرمن استقلالاً دينياً ذاتياً، ووضعوهم على قدم المساواة مع جيرانهم من الطائفة الأرثوذكسية من الناحية القانونية ومع مرور الوقت، مُنح الأرمن المزايا نفسها التي تتمتع بها الكنائس الأخرى، وقد أنشئت الملة الغريغورية عام 1462م، وملة الأرمن الكاثوليك عام 1830م، وملة الأرمن البروتستانت في الأربعينيات من القرن التاسع عشر نتيجة لتأسيس الإرساليات التبشيرية الأمريكية.

وبذلك استفاد الأرمن المشتتون كثيراً من الحكم العثماني، وحتى في أرمينيا، فإن الوضع بشكل عام كان لمصلحة الحكومة العثمانية، وفي أغلب الأحيان كان اللوم يوجه إلى العثمانيين لإعطائهم موطئ قدم للأكراد في هذه المنطقة، وذلك كتحرك في صراعهم مع بلاد فارس. غير أن الأكراد لم يشكلوا خطورة على الأرمن كالسلاجقة والمغول وعشائر الكاراكويونلو الذين كانوا يغيرون المنطقة، ويعملون فيها يد السلب والنهب، أو حتى كالفرس أنفسهم الذين طردهم العثمانيون والأكراد من البلاد. وقد وقع الإقطاع الكردي خلال قرون ثلاثة تحت سيادة العثمانيين. كان ذلك بعد حملة السلطان سليم عام 1514م، إذ تعتبر تلك الفترة أقل تعاسة بالنسبة للأرمن من القرون الثلاثة ونيّف التي سبقتها والتي تميزت بالفوضى العارمة.

ويمكن اعتبار تلك الفترة فترة سبات قبل الصحوة، ومرة أخرى يمكن القول: إن الحكومة التركية هي التي كانت سبب تلك الصحوة نتيجة تغيير سياستها إزاء الأرمن، ففي بدايات القرن التاسع عشر، شنّ السلطان محمود حملة مكثفة وقوية ضد الإقطاع، (وهو مصلح اشتهر بإخفاقه في حل مشاكل اليونانيين والصرب)، غير أنه حقق نجاحاً ملموساً في الشرق، ففي 1834م حوّل السلطان محمود اهتمامه إلى زعماء القبائل الكردية، وفي نحو منتصف القرن، تمكن من كسر شوكتهم، وأحلّ محل الإقطاعيات الصغيرة (بيروقراطيات) تمركزت في القسطنطينية، ولم تكن طبقة الموظفين الجديدة مثالية، بل كان لها مثالبها وآثامها، غير أنها بالمقارنة مع السابق، لم تكن متحيزة نحو أي عرق من العرقين اللذين كانت تحكمهما، لأن تعصب المسلمين الطبقي إزاء الملل التي تسلك سلوكاً جيداً، كان يعتمد على سخط الولاة الأكراد، وعلى أي حال، فإن إعادة تشكيل الدولة العثمانية في العقود الأولى من القرن التاسع عشر آذن بحلول عصر جديد في تاريخ الأرمن، وقد تزامن ذلك مع تأسيس الإرساليات التبشيرية الأمريكية، والسماح بإنشاء الملتين الكاثوليكية والبروتستانتية، إذ أتاح ذلك فرصة جيدة للأرمن استفادوا منها إلى أبعد درجة، فقد بدأ عصر نهضة ثقافية واقتصادية في الحياة الأرمنية، مماثلاً في أوجه عديدة لعصر النهضة اليوناني الذي حدث قبل قرن من الزمان.

تعيدنا هذه المقارنة إلى طرح السؤال التالي: – هل كانت نهضة الأرمن في القرن التاسع عشر تشكل تهديداً حقيقياً لسيادة ووحدة الدولة العثمانية؟ وهل كان الشقاق المشؤوم بين الأرمن والأتراك هو نتيجة طموحات الأرمن الذين كانوا يتشبثون برأيهم الخاطىء؟ هذا هو رأي الأتراك الذين يحاجّون به، غير أن وجهة النظر التركية في طرح الموضوع تتوقف هنا، وننتقل بالتالي إلى عرض الحقيقة كما يراها الطرف الأرمني.

إن وضع النهضة الأرمنية في موازاة النهضة اليونانية لهو أمر مضلل، إذ ينطوي على موازاتها بالثورة اليونانية، وقد نشأت الحركة اليونانية من أجل تحقيق انفصالها السياسي – بشكل ما- نتيجة التحرك الروحي العام الذي سبق تلك الثورة، غير أننا لانستطيع القول: إنها أحرزت نتائج مهمة، ومن المؤكد أنها لم تكن محظوظة، إذ تمكنت حرب الاستقلال اليونانية من تحرير جزء من الشعب اليوناني، ولكن على حساب القضاء على معظم اليونانيين الآخرين، كما ضحت بالوضع الجيد الذي كان يتمتع به اليونانيون في أرجاء الإمبراطورية العثمانية، ولم تكن تلك سابقة مشجعة بالنسبة للأرمن، وكانت الاعتراضات من أجل تطبيقها في حالتهم تجابه بطرق قمعية أكثر شدة، وكما رأينا سابقاً، فإن الأرمن لم يكونوا يعيشون في منطقة واحدة من الإمبراطورية العثمانية، بل لم يكونوا يشكلون أغلبية مطلقة، إذا استثنينا بقاعاً محددةً من إقليم وان (VAN)، لذا لم يكن لديهم نقطة رئيسة ينطلقون منها للقيام بثورة وطنية، كما كان شأن اليونانيين في جزرهم وفي منطقة موريا، بل كانوا مشتتين في أرجاء الإمبراطورية العثمانية، التي كانت بالنسبة لهم إرثاً يوجب عليهم مشاركة الأتراك فيه بالرغم من أنهم – الأتراك – كانوا يشكلون أغلبية عظمى من حيث العدد، فضلاً عن تقلدهم السلطة السياسية.

ولم يكن البديل للدولة العثمانية يكمن في إقامة دولة أرمنية، بل إن تقسيماً في القوى، كان من شأنه أن يضع حداً لطموحات الأتراك والأرمن على السواء. وكانت القوى المعنية مستعدة لإحداث التقسيم، فيما لو قبلت تقسيم الغنائم، فقد كان هذا الإرث بين الأرمن والأتراك أحد أغنى بقاع العالم القديم، وواحداً من البلدان القليلة التي استطاعت أن تحقق تطوراً اقتصادياً، أما سكان البلاد الأصليون، الذين كانوا قليلي العدد ومتخلفين ومنقسمين على أنفسهم، فلم يكونوا قادرين على الدفاع عن أملاكهم ضد الغزاة الخارجين، بل تمكنوا من الحفاظ عليها مصادفة بسبب اتفاق الدول العظمى الذي يمكن أن يتغير في أي لحظة، ولم تكن مشكلة الأرمن تكمن في الإحاطة بالإمبراطورية العثمانية، بل بكيفية الحفاظ عليها، كما أن اهتمامهم في الحفاظ عليها كان أكبر بكثير من اهتمام جيرانهم الأتراك ومشاركيهم في الإرث.

وقد أظهر المسح الجغرافي الذي أجريناه، أن موهبة الأرمن الخاصة جعلت معظم الصناعات والأعمال التجارية والمالية وجميع المهن التي تحتاج إلى مهارة وذكاء في تركيا، تقع في أيديهم، ومن الجائز أن اليونانيين كانوا منافسيهم في منطقة بحر إيجه، واليهود السفارديم في البلقان، إلا أنهم كانوا يتفردون في جميع المناطق الداخلية من الإمبراطورية من دون أن يخشوا منافسة الأتراك المزارعين والأكراد الرعاة، ولو تم الحفاظ على الإمبراطورية بإدخال الإصلاحات الداخلية، فإن وضع الأرمن سيكون مريحاً، لأنهم كانوا العنصر المحلي الذي بوسعه رفع مستوى الإمبراطورية من الناحية الاقتصادية والفكرية والأخلاقية، لكي ترتقي وتصبح على مستوى أوروبا، ولم يكن ثمة طريقة للحفاظ على وجودها إلا بهذه الطريقة. فهم الذين بذلوا الجهد الرئيس، وهم الذين كانوا سيجنون النفع والفائدة.

وهكذا، فقد كان الوفاق الوطني مع الأتراك، من وجهة نظر الأرمن، أمراً ذا أهمية حيوية يجب السعي لتحقيق نتائجه المطلقة غلى الرغم من الصعوبات والعوائق التي تكتنفه حالياً، وفي نحو منتصف القرن التاسع عشر لاحت في الأفق بوادر توحي باحتمال تحقيقه، إذ ساهمت جهود السلطان محمود وتأثير بريطانيا العظمى وفرنسا في تغلغل الأفكار التحررية إلى الطبقة الحاكمة التركية، فقد تم إعلان “قانون الجنسيات”، كما كان ثمة مشروع لوضع دستور برلماني، وبدا للمتفائلين أن التقسيمات الطبقية التي تعود إلى القرون الوسطى بين المسلمين والمسيحيين ستتلاشى. وأنه أصبح أمام الأرمن والأتراك والأكراد، إمكانية إيجاد علاقة صحيحة بينهم – لا كطوائف وعروق، لا يمكن الوفاق بينها، بل كعناصر اجتماعية مختلفة يضمها مجتمع واحد، تتمثل مصالحها المشتركة في التعاون فيما بينها من أجل تحقيق الهدف المشترك.

لقد كانت هذه هي السياسة المنطقية التي اتبعها الأرمن في الإمبراطورية العثمانية، وكان المنطق الذي تنطوي عليه هذه الفكرة واضحاً، فقد تمسكوا به، بالرغم من الصعوبات والمعوقات التي كانت تكفي لنبذ هذا المنطق برمته، تلك “الصعوبات” التي أحدثت إفلاساً في المعنى السياسي عند حكومة الإمبراطورية بالنسبة لهذا المنطق. وتمثلت “المعوقات” في ارتكاب مجازر رسمية ضد السكان الأرمن، وثمة سببان يكمنان وراء هذا التحول المشؤوم في مجرى الأحداث وهما: – الأزمة الخارجية التي عصفت بالإمبراطورية خلال السنوات 1875-1878م، والانطباع الذي أحدثته هذه الأزمة على السلطان عبد الحميد الذي تبوّأ العرش عام 1876م والإمبراطورية تدخل في أكثر مراحلها خطورة.

ففي هذه السنوات وصلت الإمبراطورية إلى حافة الهاوية، إذ قامت مجموعة من الرعايا المسيحيين بثورة للانفصال عن الإمبراطورية، وهم من الصرب و البوسنة، والذين امتدت ثورتهم لتشمل بعض الشعوب الأخرى في مقاطعات البلقان، وفي فترة الهدنة الدبلوماسية المؤقتة بين الدول الأوروبية، تمكنت روسيا من وضع قوتها العسكرية لمصلحة الثوار في البلقان، وتم إيقاف هذا التدهور بسرعة، وأصلح من شأنه جزئياً عندما ركعت تركيا عند أقدام روسيا، وأعيد التأكيد على ميزان القوى الذي حرم روسيا من معظم مغانمها، كما حرم نصف المسيحيين في البلقان من حريتهم التي اكتسبوها حديثاً، وكان عبد الحميد على درجة من الذكاء لكي يستفيد من هذه التجارب، ولكنه للأسف الشديد لم يستفد منها كما يجب، بل كرّس كل حذاقته لاتباع سياسة خاطئة أصابت الإمبراطورية بأضرار كبيرة، وجرّت عليها كثيراً من المشاكل التي كانت بغنى عنها. وبعد الحرب مع روسيا، خلص إلى أنه لم يكن لدى تركيا، ولن يكون لها القوة الكافية التي تمكنها من الصمود أمام أي قوة كبرى، ولم تكن قوتها الداخلية هي التي أنقذتها، بل الذي أنقذها هو إعادة ترتيب القوى الخارجية، لذا فإن أي محاولة لتعزيز قوة الإمبراطورية من الداخل بالتوفيق بين عناصرها العرقية وتطوير مواردها الطبيعية كان أمراً مثالياً، ولا يمت بصلة للمشكلة نفسها، وكان الهدف الوحيد المهم أمامها، هو ضمان عدم قيام أي دولة كبرى بمهاجمتها، وذلك عن طريق إبقاء جميع الدول الكبرى في حالة توازن حذر. وكان سبب تحطم هذا التوازن عام 1877م، والذي كان بمنزلة كارثة بالنسبة لتركيا، حدوث خلل سابق في التوازن داخل الإمبراطورية نفسها، إذ حاولت إحدى القوميات المسيحية الانفصال عن الكيان السياسي العثماني باستخدام العنف، وهنا يكمن لبُّ المشكلة كلها. وتجلّى هدف سياسة عبد الحميد الرئيس في الحيلولة من دون وقوع مثل هذا الشيء مرة أخرى. فالقوميات الأخرى من رعايا الإمبراطورية، لم تكن تشكل مصدر قوة بالنسبة له، بل مصدر تدمير محتمل للدولة، حتى إنه اعتبرها أكثر خطورة من القوى الخارجية، وإنه يجب تدمير إمكانياتها، وكانت أفضل وسيلة لتنفيذ ذلك تكمن في بث بذور الشقق والعداوة بينهم وبين الدول الكبرى.

وباختصار، كانت سياسة عبد الحميد على نقيض تام مع سياسة الأرمن الغريزية التي أشرنا إليها سابقاً، إذ لم تكن تهدف إلى تقوية دعائم الإمبراطورية عن طريق لمّ شمل القوميات المختلفة وتوحيدها، بل كانت تهدف إلى إضعاف القوميات بأي ثمن، وذلك ببث الاقتتال والمذابح بين بعضها بعضاً، وقد طبّق عبد الحميد هذه السياسة مدة أربعين عاماً، وكان من أبرز ضحاياها الأرمن والمقدونيون، والذي يعنينا هنا هو الأرمن فقط. إذ كان من المحتم أن يختار عبد الحميد الأرمن ليقمعهم، فعندما سعت تركيا لعقد السلام في عام 1878م، كانت القوات الروسية تحتل الجزء الأكبر من الأراضي الأرمنية، وأدخل الدبلوماسيون الروس بنداً جديداً (المادة 16) في معاهدة سان ستيفانو، إذ جعلوا الجلاء عن هذه المقاطعات مشروطاً بإدخال الحكومة العثمانية الإصلاحات السابقة في إدارتها، وقد قام وفد من السكان الأرمن بصياغة خطة متكاملة لإعادة تنظيم الأقاليم الستة وهي: (أرضروم، وان، بيتليس، ديار بكر، معمورة العزيز، سيواس)، وقد اشترطوا تعيين حاكم أرمني عام، يكون من صلاحياته تعيين وإقالة العاملين التابعين له، وأن يكون الدرك من الأرمن والعناصر المقيمة من المسلمين، ويستثنى من ذلك البدو والأكراد، وتشكيل مجلس نيابي عام يضم عدداً متساوياً من النواب المسلمين والمسيحيين، وأن تتمتع جميع الديانات بالحقوق ذاتها. كما وافقت الحكومة العثمانية على مشروع حصول الأقاليم على الحكم الذاتي، وشجعت ذلك عندما خشيت أن يكون بديل ذلك يكمن في التخلي عن هذه الأقاليم لروسيا، وما إنْ تأكدت الإمبراطورية من جلاء الروس عنها، حتى انقلبت موافقتها السابقة إلى تجاهل المشروع بشكل عام، وعندما اجتمع المجلس الأوروبي في برلين لتعديل معاهدة سان ستيفانو بذل الوفد التركي جهوداً كبيرة من أجل تعطيل المشروع برمته، وقد حقق نجاحاً كبيراً، لأن المعاهدة التي صاغها المجلس في برلين ألزمت الحكومة العثمانية بـ (المادة 61) بإدخال “إصلاحات” في “الأقاليم التي يسكنها الأرمن”، من دون أن تطلب منها أي ضمانات[3].

وبعد أن انسحبت القوات الروسية، وأصبح موضوع إدخال التحسينات أمراً مهملاً، أرسلت الدول الكبرى الست في عام 1880م مذكرة جماعية تذكّر فيها الحكومة العثمانية بهذه الإصلاحات، ولكن الحكومة العثمانية لم ترد عليها، وبعد أن استمرت المساعي الدبلوماسية مدة عامين، أهملت المسألة نتيجة اقتراح بسمارك، لأن أي دولة، لم تشأ أن تمارس عليها ضغطاً باستثناء بريطانيا العظمى.

المصدر مختارات من بعض الكتابات التاريخية حول إبادة الأرمن عام 1915، ترجمة: خالد الجبيلي، اللاذقية – 1995)- شهادة أرنولد ج. توينبي). مقتطف من كتاب (شهادات غربية عن الإبادة الارمنية في الإمبراطورية العثمانية)، إعداد ومراجعة ودراسة: البروفيسور-الدكتور آرشاك بولاديان، دمشق – 2016.

14- لا نعرف بالتأكيد فيما إذا كان هذا هو المعنى الحرفي للكلمة، بيد أن مغزاها الحالي سياسي محض.

15- كلمة ملة تعني في العربية طائفة دينية وقد استعارها الأتراك لتدل على الشعوب الأخرى غير التركية التي كانت خاضعة لهم.

16-  وردت كذلك فقرة مبهمة وبنفس المعنى في “اتفاقية قبرص” المبرمة بين تركيا وبريطانيا العظمى، ولكن في كلتا الاتفاقيتين لم يكن ثمة ضمان يلزم التقيد بها، وقد نصت معاهدة برلين فقط على أنه يجب على الحكومة العثمانية أن تحيط الدول الكبرى علماً عن إجراءاتها الإصلاحية، ولكن بما أنها لم تطبق أبداً فلم يرد ذكرها على الإطلاق.

Share This