في النزهة أو قدوم قافلات الأرمن من أرضوم وغيرها 4-6 تموز

كأَني بك ايها القارئ النجيب سئمت مطالعة ما اقص عليك من الحوادث المحزنة والاخبار المزعجة مما يزيدك كدراً وغمّاً ويبرد منك الهمم ويضعف فيك النشاط فتود اذن لو اخبرك بما يسر قلبك ويكشف عنك ضيمك. بناء على طلبك وافيت ادعوك اليوم الى نزهة في غربي البلد الى باب المشكية لنسرّح الطرف في الاراضي المخضوضرة المعتلجة التي استأسد نباتها والتفت اشجارها وكثرت ثمارها وعذبت بقولها. وبما اننا في شهر تموز فالنزهة صباحاً اولى واوفق لئلا يتعذر علينا اذا اشتد لافح الحر ان نرجع الى دارنا دون تكلف ومشقة.

هلمّ بنا اذاً الى كرم الدير المفردس نتشرق هنيهة في ذلك القهقور ومتى ذرّ قرن الغزالة تفيأنا تحت العرزال واستنشقنا نسيم الصبا الطيب. اليك ايها العزيز اهالي القرى والبساتين موافين بضروب البقول والثمار من الحدائق الغناء كالمشمش والكرز والتفاح والخوخ والاجاص والخيار والكرفس الى غير ذلك من الثمار والبقول اليانعة اللذيذة. تراهم جذلين محبورين فرحين فخورين بما تدفق عليهم من الخيرات وما حصلوا عليه من الاموال وقد خيمت فوقهم الطمأنينة وساد فيهم الأمان. وامتلات اكياسهم من الفضة والاصفر الرنان. يودون لو تطول هذه المدة وتطمئن لديهم الأرض.. ما اعذب الهواء الذي نستنشقه . وما اطيب الروائح المنبعثة من النباتات الحافلة بانواع الزهور و الوان الورود مما ينعش الطبيعة بعد خمودها ويبعث فيها روحاً جديدة بعد همودها. تفرس في تلك الروابي المكللة بالاشجار وقد فرشت عليها شمس الضحى ارجوانها القانىء. ما اجمل هذا المنظر!

ولكن يا لله ماذا ارى عند عين عمر آغا. ارى قافلة كبيرة تسرح كانها قطيع غنم أو بقر. هلم المنظار لنتحققها.. جيش عرمرم يناهز عشرة آلاف نسمة. ارى اغلبهم نساءً واطفالاً صغاراً وبينهم بعض الشيوخ والعجائز. ارى جنوداً محتفين بهم يوسعونهم ضرباً ورفساً يحملون عليهم فينجفلون بين يديهم. اليك دواخن البواريد متلبدة فوقهم. تطرق اذني اصوات كالمدافع. أُفرزت منهم شرذمة اكتنفها بعض الجنود. اراهم يدعونهم دعاً عنيفاً ويتسلقون بهم مصاعد تلك القلعة. يا لله! الى اين. الى البئر كالامس وما قبل استعرضوهم للتعرّي واحدّوا عليهم السكاكين واعملوا فيهم الخناجر وفصلوهم وزجوهم على حاق راسهم وعادوا ادراجهم. تبّاً للفظاظة والخشونة.

ها هي مئاتٌ منهم انعرجوا عن الجادة ونزلوا بهم في منعطف الوادي الجنوبي هو ذا سكان قرية الموسكية قد بادروا اليهم كالكلاب الكلبة يعرّونهم ويحاولون ان يرتكبوا المنكرات ويقضوا الاوطار يقسرونهم ليكفروا بدينهم. يسدحونهم فيختلعونهم فيذبحونهم ويعودون فيقولون مع عنترة:

لنا النفوس وللطير اللحوم ولل                                     وحش العظام وللخيالة السلب

اليك البقية قادمين افواجاً افواجاً كالجراد يبلغون ثمانية الاف عدّاً. عجبي قبل هنيهة كانوا زهاء عشرة الاف. فاين الالفان. فاذا كان الخصوم الطغاة قد فتكوا بارواح الفي نسمة في مدة ثلاث ساعات. فكم كان عددهم ياترى حين نُفوا من اوطانهم؟ لا شك انهم كانوا اكثر جدّاً من هذا العدد. وقد سمعت منذ ايام انهم يبلغون خمسين الفاً. وهم قادمون من ارضوم ولجه وخربوط وما والاها من بلاد الأرمن. ها قد وصلوا الى الصهريج وقد تاجج صدرهم عطشاً فلا يدعهم الجند ان يبردوا اكبادهم بل يلجئونهم ان يسيروا السير العنيف. وها هم يتوكأون على بعضهم والنساء حاملات الاطفال على الأكتاف.

اليك كبار البلد وقد وخطهم الشيب مستوين على صهوات الخيل يتبعهم الاولاد والنساء راكضين مبادرين في هرج ومرج وقد انجلقت افواههم مفرطين في الضحك تلعب في عقولهم هواجس الطمع والخلاعة يستركضون الخيل للبلوغ الى العين. يسبق بعضهم بعضاً على الاختلاس والخطف. حذار أن يلمحونا. هلم نختف عن عيونهم تحت هذه الشجرة لئلا يصيبنا ما لا تحمد عواقبه.

هو ذا فيئة اخرى من المسلمين الصعافيق متأبطين اوعية ملأى بالمآكل حاملين اطباق الفواكه والثمار كأنهم خارجون الى نزهة او فرجة. ولكنهم مشاوؤن الى السلب والنهب والخطف. الله وحده يعلم سرهم ونجواهم. قد دنوا من القافلة واكتنفوها واخترق قوم منهم الصفوف للتفتيش والبحث.

انظر النصارى الأرمن في حال يرثى لها مفترشين الارض ليستريحوا من تعب الطريق. قد اجهدهم الجوع وجد بهم العطش يتألمون ويتلعلعون يطلبون البلوغ الى الماء ليرووا ظمأهم فلا يؤذن لهم الا بعد قبض شيء من الدراهم. لا يكاد يصل الواحد منهم الى النبع ويتقدم ليجرع جرعة يقبص فتاتيه الضربة فاللطمة فالرفسة فالموتة. يلتمس نفر كسرة خبز فلا يذوقها الا ممزوجة بالزقوم.

وصل اليهم اصحاب الخير والمرؤة ليبيعوهم شيئاً مما استحضروا.

– قواكم الله يا نصارى. الحمدلله على السلامة يا أرمن

– مرحبا بكم يا إسلام. ما عندكم من القوت والثمار

– الرغيف بمجيدي ابيض –  حفنة الزبيب بعشرة قروش –  التفاحة بغرش – الاجاصة بغرش – سعر محدود – لايقبل اعتراضاً – الاسعار متهاودة – جرعة الماء بخمسة غروش – كلوا واشربوا هنيئاً مريّاً. انما جئنا اليكم مشفقين عليكم لنسد جوعكم ونسليكم – وإن شئتم استصحبنا الى بيوتنا جماعة منكم.

الاحظ وجهاء المسلمين ونساءهم متغلغلين وسط النصارى الفائضة عيونهم بالدموع والمحشوة قلوبهم من الاكدار. ينتقون منهم من ارادوا دون مانع. يتخيرون من استحسنوا من الاطفال والاولاد والنساء ولا سيما الفتيات. يضطرونهم ان يجحدوا دينهم فلا ينجحون يعدونهم بالنجاة من القتل ان وافقوهم فلا يفلحون. فالنصارى على شدة عناهم وشقاهم يظهرون بسالة غريبة ونبالة عجيبة ويقولون لهم ما نحن بتاركي الاهنا وجاحدي ايماننا. اختلسوا واسلبوا واخطفوا واقتلوا. طوحونا في الصحارى. القونا في الآبار. فانا لائذون بالصبر الجميل حتى يحكم الله لنا وهو خير الحاكمين.

اليك نبلاء البلد قد اختطفوا عدداً صالحاً من الفتيان والفتيات من دون ان يعارضهم احد الجنود الحراس او ان شئت فقل الجنود الداعين الى الاختلاس. اراهم راجعين يتجلقون. فقوم مردفون فتياناً على خيلهم وقوم مختطفون بنات قنعوا وجههن كي لا يراهن اصحابهم الانذال فيتقاتلون عليهن. هذه حاملة على ذراعيها فتى جميل المنظر تريد ان تتبناه لانها عاقر. وتلك قابضة بيدها على ابنة تريد أن تستخدمها. هذا ملا جيبه من الذهب والفضة وعاد مسروراً يضحك بملء شدقيه وذاك حمل ما طاب له من المتاع ورجع يقرقر ويكركر. نزل هذا من دابته وحملها ما شاء وترجل. وذاك ينهب الطريق ليصل الى داره قبل ان يشعر احد. هؤلاء يتخاطبون في الطريق مبتهجين لا يملكون نفوسهم من الطرب لما نالوا من الغنائم في اوجز مدة جاهلين أن ما جاؤا به هو سحتٌ حرام. وان الخائن كبر مقتاً عند الله.

قد انكفتوا راجعين الى منازلهم يكادون يخرجون من جلدهم فرحاً وقد امتلا كيسهم وانجلى بؤسهم. تركوا من بقي من الأرمن تتقطع احشاؤهم لهفاً وتتساقط نفوسهم غمّاً واسفاً وانثنوا عائدين يتدفق السرور من وجوههم – صبّر يارفاق النفس لننظر ما يصير ونقف على النتيجة.

اليك الجنود القساة وقد شدوا وطأتهم على الأرمن ونهضوا يضربونهم ويصفعونهم. قبضوا عنهم جناح الرحمة والجأوهم ان يمشوا وقت الهاجرة لتطبخهم الشمس بحرارتها الوهاجة وتنهك مابقي فيهم من القوى. ها هم قد ساقوا قسماً كبيراً منهم وطروحوهم في مهاوي التركمان – اسمع اطلاق القنابل عليهم وانظر عجاجهم وعجيجهم. صبوا عليهم سياط الآلام وتركوهم جزر الحيوانات وعادوا. ها هوذا يسوقون البقية الى البلد. الى اين ياترى؟ الى الدير على ما اسمع. اذاً فلنبادر الرحيل ولنعد الى منزلنا. كفانا ما رأينا. لعمري لقد تمزق قلبنا واقشعر جسمنا وشملنا من الحزن والكآبة اضعاف اضعاف ما شملنا من المسرة في اول وصولنا الى هذا المحل المشؤوم – لا يغرب عن فكركم ايها المنافقون والمنافقات أن الله العادل قد وعدكم بنار جهنم خالدين فيها هي حسبكم ولعنكم الله ولكم عذاب مقيم (سورة التوبة 196) طالع ماسنكتبه عن دير مار افرام في الاعتكاف (ج3 : ف30).

ويوم الاحد  في 4 تموز وافت قافلة جرارة من بلاد ارمينية كان عددها فيما قيل خمسين الفاً ولم يبق منهم مذ وطئوا ارض دياربكر السوداء حتى وصلوا الى ماردين سوى عشرة آلاف (هنا ص 266) فقتل من قتل وسبي من سبي وبقي من بقي. وكان اغلبهم نساءً واطفالاً وشيوخاً. ولما وصلوا الى باب البلد الغربي احاط بهم الضباط وتابور من العسكر مبرطمين ساخطين وتهارشوا عليهم ككلاب على الفرائس وانتقوا من بينهم من حسن بعينهم الشريرة واستاقوا البقية الى الدير فكردسوهم كتيبة كتيبة كالدواب وكوموهم كومة كومة في ساحتي الدير البرانية والجوانية. وحرجوا على الرهبان المحادثة معهم ثم اقبل جماعة من العسكر الخمسيني يجولون بينهم ويتكولون عليهم ويلكزونهم باعواد الحطب ويصدغونهم بالحجار ويصقرونهم بالعصي ويلمقونهم بالاكف ويخطفون من بينهم من استحسنوا من البنات والبنين وكان ضجيجهم وعجيجهم يفتت الأكباد.

اما مسيحيو البلد فما سمعوا بقدومهم حتى فاضت احشاؤهم تعطفاً فاحضروا الوان الماكل وانواع الحلواء فاقتسموها بينهم شاكرين لاصحاب الخير والمعروف. وقد أُحصي ما اتى به المسيحيون من المخاضب والاطباق المملوءَة من ضروب اطعمة البلد “كالكتل والكبّة واليبرق والرز والبرغل والمشوي وما يتبعها من الخبز والجبن والزيتون والزبيب والبصل والتوابل” فبلغ مجموعها نيفاً ومائة وعشرين مخضباً وطبقاً. ذلك دليل على حب المسيحيين لبعضهم وتفانيهم على عمل الخير واصطناع المعروف. اذ كانوا يؤملون البقاء في بيوتهم. وفاتهم انهم بعد ايام قلائل سيعاملون كهؤلاء المنكودي الحظ ويعذبون ويقتلون نظيرهم.

وما مكث سبايا الأرمن في الدير يومين حتى وافت شرذمة من الجند والعسكر الخمسيني متنغرين والقوا فيهم صيحة مرعبة ارتجت لها افئدتهم وانخلعت قوتهم فاستعجلوهم على الرحيل. وكان بينهم شيخ هرم قطعت عضده فحاول الفرار فلم يقدر فضربوه فخر قتيلاً وعلت اذ ذاك اصوات البكاء والنحيب وقامت القيامة وتغلل الجنود ما بينهم يعملون فيهم اوجع الضرب حتى اذا بلغوا الى الباب الخارجي استخاروا من اشتهوا. ولم يبق سوى عشرة من فتيان وفتيات مكنعين يابسي القوائم فصفقوهم وصدغوهم كانهم يودعونهم وتركوهم على اخر رمق وانقلعوا. ومضوا  بتلك القافلة في الهاجرة الى الغرس فتكولوا عليهم وقتلوهم عن بكرة ابيهم واحتووا على ما بقي عندهم من الثياب والمتاع والمال وانقلبوا راجعين الى البلد مسرورين “فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاءً بما كانوا يكسبون” (سورة التوبة).

وكان المسيحيون في قلق متواصل ينذرون النذور ويقدمون الهدايا للكنائس ويلقون فيها التقادم وينصرفون. وفي 14 تموز انجلت الدسائس وأُعلنت المضمرات فاصدر بدري المتصرف الاوامر بسوق النساء الأرمنيات واستاقوا معهن من السريان ايضاً اسرتين شريفتين. ونادى المنادي يحرّج على بقية المسيحين أن يصونوا لديهم شيئاً من اموال اقاربهم وانسابهم.

غير أن النساء اللاءي كن يختلفن الى الدير التمسن بلجاجة من الرئيس أن يتنازل ويقبل منهن الهدايا فرفض الطلب. فبالغن في الالحاح فراح بعض الرهبان نظراً لرقة قلبهم وتعطفهم يتوسلون الى رئيسهم ليقبل شيئاً من تلك التقادم والحلي فلم يصعد بيده الا قبول الطلب. فتأتي من ذلك أن جملة من السريان والأرمن وضعوا عنده امانات وودائع من حلي وذهب وفضة من جملتها اربعمائة ليرة ذهبية وحليّ لاسرة قاووغ السريانية.

واتفق أن ممدوحاً الداهية شعر بذلك. ولما كان صباح الاثنين 2 آب والكنيسة غاصة بجماهير المؤمنين احاط بالدير شرذمة من الجنود يتقدمهم ممدوح وهرون فانبثوا في الاروقة وعلوا الاساطيح وتفرقوا في ساحة الدير ينتظرون خروج الرهبان من الكنيسة. فاستحوذت عليهم الرعبة وشملتهم الحيرة. وانهى ممدوح امر الى جميع الذين في الكنيسة ان يلزموها. ثم استدعى الرئيس وقال له: بلغني أن عندك مالاً وذهباً كثيراً للأرمن فادفعه اليّ وإلا عاقبتك وعاقبت رهبانك. فانكر الرئيس ذلك بتاتاً. فقال له ممدوح لا مندوحة لك من الاقرار بما عندك وتسليمه الي والا قتلتك. فانكر الرئيس تكراراً.  فارسل ممدوح في طلب السيد جبرائيل لعله يتلافى الامر فيغمض عن إلحاق السوء بالرئيس ورهبانه. واغتنم الفرصة حين ذاك فاستدعى الرهبان الى غرفة الدرس ودوّن اسماءهم فكانوا سبعة كهنة واربعة عشر راهباً. ولما وافى المطران جبرائيل انفرد بالرئيس واستفسره عما لديه من الودائع واشار عليه ان يدفع مبلغاً لممدوح (على السكت) فيغمض وينكفت راجعاً. بيد أن الرئيس اصر على رأيه وانكر مدّعى ممدوح على الاطلاق متوهماً انه يستحق كلامه ويصدقه. بل رفض ايضاً مشورة الراعي الفطن ولم يعبأ بها. والحاصل انه بعد اخذ ورد كثير عاد المطران الجليل الى الكنيسة. فامر ممدوح للحال أن يتهيأ الرهبان جميعاً فاصطفوا اثنين اثنين واكتنفهم العسكر واستاقوهم الى السجن.

 

المصدر: من فصل (القصارى في نكبات النصارى، للعلامة الأب اسحق أرملة السرياني، الطبعة الأولى- 1919) ، الجزء الثالث، الفصل الثالث والعشرون، ص 261-267، (9).

مقتطف من كتاب “شهود عيان عن الإبادة الأرمنية في الإمبراطورية العثمانية (مجموعة وثائق تاريخية)، إعداد وإشراف ودراسة: البروفيسور الدكتور آرشاك بولاديان، دمشق-2014، حيث ينفرد موقع “أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر مقتطفات منه.

 

Share This