العلاقات الأرمنية ـ العربية عبر العصور (1)

تعود العلاقات التاريخية والثقافية بين العرب والأرمن الى عهود سابقة. وظهر الأرمن وفق المعلومات التاريخية في فلسطين والمناطق المجاورة خاصة سوريا وساحل البحر الأبيض المتوسط الشرقي أيام فتوحات الامبراطور الأرمني ديكران العظيم في القرن الأول ما قبل الميلاد. ومنذ تلك الفترة بدأ انتشار الأرمن في البلاد العربية الحالية. الا أن النطاق الأشمل للتعارف المتبادل – كما هو معلوم – بين الشعبين بدأ منذ أربعينيات القرن السابع الميلادي اثر الفتوحات العربية التي شملت أيضاً بلاد أرمينيا. ثم تطورت هذه العلاقات وغدت متميزة أيام الحكم العربي على أرمينيا، كما قيل، حوالي قرنين ونصف من الزمن (640-885 م) واستمرت لاحقاً في مختلف حقب تاريخ الشعبين خاصة في عصر الإمبراطورية العثمانية زهاء أربع قرون من الزمن. وكانت أرمينيا على اتصال دائم مع البلاد الواقعة في شرق حوض  البحر  الأبيض المتوسط  والمناطق المجاورة له. ويروي التاريخ عن هذه العلاقات التي شملت مختلف النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية حوادث كثيرة. فقد ذكر المؤرخون والرحالة والجغرافيون العرب معلومات قيمة عن أرمينيا والأرمن وعلاقاتها مع البلدان المجاورة والتي حظيت باهتمام المفكرين الأرمن والمهتمين بالشؤون اللأرمنية.

احتوت المدونات الجغرافية والتاريخية العربية التي وضعت في القرون الوسطى منذ البدء على العديد من الصفحات التي تطرقت إلى التاريخ السياسي والإداري لأرمينيا وقدمت وصفاً لبلاد الأرمن إلى جانب استعراضها لموضوعات أخرى متنوعة. وتعد هذه المعلومات القيمة استكمالاً هاماً لما دونه المؤرخون الأرمن الذين، بسبب تركيزهم على الشؤون الداخلية وعلى الموضوعات ذات الطابع السياسي، فاتهم أن يرصدوا العلاقات العربية- الأرمنية والعلاقات الثنائية بين الأسر الحاكمة والإمارات الإسلامية وأرمينيا وموضوعات أخرى هامة. وليس من قبيل المصادفة أنه منذ القرن الثامن عشر والتاسع عشر استحوذت المصادر العربية على اهتمام المتخصصين في الشؤون الأرمنية ليس فقط في أرمينيا وإنما أيضا في الخارج. وبعبارة أخرى يمكن التأكيد بأن دراسة المصادر الأولية العربية والاستفادة منها في مجال الدراسات الأرمنية عملية مستمرة منذ زمن طويل، لم تتوقف أبداً حتى يومنا هذا، رغم الصعوبة والتعقيد الذي تكتنفه مثل هذه الدراسات.

تمثل مؤلفات الجغرافيين والمؤرخين العرب- باعتبارها جزءاً مهماً من التراث العربي الشامل- مصدراً جديراً بالاهتمام بغرض دراسة تاريخ أرمينيا والشعب الأرمني في القرون الوسطى. وهذه المؤلفات لا تتعامل فقط مع موضوعات متعلقة بالشرق الإسلامي وإنما تتعرض لكل البلدان التي كانت معروفة من قبل العرب من أوروبا غرباً حتى الصين شرقاً. وانطلاقاً من اعتبارات سياسية واقتصادية فقد حظي علم الجغرافيا والتاريخ باهتمام ملحوظ على المستوى الرسمي في الخلافة الإسلامية وحصل على الدعم اللازم من قبل أوساط الحكام وذلك بسبب ضرورات التوسع في الشبكة التجارية وجباية الضرائب والرسوم وتنظيم الصرف المالي، وهي أمور كانت تتطلب وصفاً دقيقاً للمناطق الإدارية وتفاصيل وافية عن السكان والإنتاج الزراعي والحيواني والواقع المهني وكذلك وصف للثروات الباطنية التي عدّت ملكاً للخلافة. رغم أن أرمينيا كانت منذ نهايات القرن التاسع الميلادي، كما ذكرنا، قد أصبحت في واقع الأمر منفصلة عن الخلافة إلا أن المفكرين العرب استمروا في الإشارة إليها باعتبارها جزءاً من العالم الإسلامي، فأقبلوا في أعمالهم على ذكر مصطلح  “أرمينيا” وتحدثوا عن جغرافيتها وسردوا وقائع مختلفة عن تاريخها.

قسمت أرمينيا لدى الجغرافيين العرب في بعض الأحيان إلى 3 أقسام (أرمينيا الأولى، أرمينيا الثانية وأرمينيا الثالثة ) ولكن في أغلب الأحيان قسمت إلى 4 أقسام ( أرمينيا الأولى، أرمينيا الثانية، أرمينيا الثالثة وأرمينيا الرابعة )  وهذا التقسيم الأخير مستوحى من الفترة التي سبقت الوجود العربي.

بدءاً من القرن العاشر الميلادي يلاحظ لدى الجغرافيين العرب بروز مفهوم جديد يتعلق بمصطلح ” أرمينيا التاريخية”، إذ أصبحت أرمينيا تذكر مع أذربيجان والران (ليس لهاتين المقاطعتين صلة مع جمهورية آذربيجان الحالية ومع العنصر التركي إطلاقاً رغم الجهود الذي يبذلونها الأذريين نهاراً وجهاراً لتقديمها كمهد للأمة الأذرية) تحت تسمية واحدة تشتمل على الأسماء الثلاثة معا وهي مستمدة من الفترة الساسانية أي من القرن السادس الميلادي عندما كانت مناطق هايك وفيرك وأغوانك (الران) وأدرباداكان (أذربيجان الإيرانية) إضافةإلى عدة مناطق صغيرة متاخمة لبحر قزوين تؤلف وحدة إدارية واحدة تدعى ” كوسدي كابكوه”.

إن المؤلف الجغرافي العربي الأول الذي وصل إلينا يدعى “كتاب المسالك” من القرن التاسع الميلادي لصاحبه ابن خرداذبة، الذي استعان في وضع مؤلفه بالعديد من الوثائق الرسمية والمعلومات المدونة والشفهية المحكمة وقد ظهرت هذه المواد فيما بعد في مؤلفات الجغرافيين الآخرين. يشمل عمل ابن خرداذبة على معلومات هامة عن أرمينيا، وهو يعد من المؤلفين الأوائل الذين ذكروا التقسيم الإداري لأرمينيا. ويتكرر هذا التقسيم ذاته بالشكل الذي اعتمده ابن خرداذبة في أعمال الجغرافيين الآخرين في عصور لاحقة رغم وجود بعض الاختلاف أحياناً، كأن تلحق منطقة أو مدينة ما إلى قسم من أقسام أرمينيا ثم تلحق إلى قسم آخر وهكذا. ويلاحظ هذا بالمناسبة في مؤلف “فتوح البلدان” لصاحبه البلاذري الذي عاصر ابن خرداذبة في القرن التاسع الميلادي.

يعمد ابن خرداذبة في “كتاب المسالك” إلى ذكر المسافات بين مدن وأرياف أرمينيا ولا ينسى في خضم ذلك أن يورد معلومات تاريخية مقتضبة عنها. فعلى سبيل المثال ولدى الحديث عن العهد الساساني يذكر أسماء ألقاب العديد من ملوك البلاد المرتبطة بإيران ومن ضمن ذلك يذكر لقب “بوزورك أرمانيان شاه” (أي ملك أرمينيا الكبير) وهو لقب للأسرة الأرشاكونية الحاكمة في أرمينيا (52-428م). ومن الأمور الأخرى التي نعلم بها عند قراءة مؤلفه أن الضريبة التي كانت تجبى من أرمينيا في القرن التاسع الميلادي كانت بحدود 4 ملايين درهماً. هذه الشهادة يؤكدها أيضاً ابن قدامة في “كتاب الخراج”.

وإجمالا يمكن القول بأنه اعتمادا على المؤلفات المدونة في القرن التاسع والعاشر الميلادي والمعلومات المسجلة في دواوين جباية الضرائب في دمشق، بغداد والمدن الإسلامية الأخرى فإن علم الجغرافيا العربي قد تخطى في القرن العاشر مرحلة نوعية جديدة أدى إلى بروز عدد من الجغرافيين الأكفاء الذين وضعوا أسس المدرسة الجغرافية العربية التقليدية- الكلاسيكية ومن أبرزهم ابن الفقيه، المقدسي، ابن حوقل، الأصطخري، ابن رستة والمفكر العربي المشهور المسعودي وآخرين. وبفضل هؤلاء اعتبر القرن العاشر بحق العصر الذهبي لعلم الجغرافيا العربي.

إلى جانب وصف الحياة اليومية لمدن أرمينيا وطرق التجارة العامة والثروات الباطنية تعتبر شهادات الجغرافيين والمؤرخين العرب أمثال البلاذري والواقدي وابن خياط واليعقوبي والطبري وابن مسكوية وأبو شجاع الروزراوري وابن الأزرق وأبو الفداء وابن خلدون والقلانسي والمقريزي وغيرهم عن العلاقات العربية- الأرمنية خلال الحكم العربي ونشاطات رجال الإدارة العربية ومسائل أخرى كثيرة جديرة بالاهتمام.

نستطيع أن نجمل القول بأن مؤلفات المفكرين العرب في القرون الوسطى  تشتمل على مواد توثيقية غنية عن أرمينيا والشعب الأرمني وهي تستكمل ما وصل إلينا من إفادات المصادر الأولية الأرمنية وغيرها وتخلق لدينا ظروف مواتية من أجل دراسة تاريخ أرمينيا ومدنها والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية التي كانت سائدة فيها وتاريخ الثقافة الأرمنية عامة. ورغم أن هذه الموضوعات قد عولجت جزئياً وأصبحت قيد التداول العلمي إلا أن الباحثين الأرمن والأجانب لا زالوا يترقبون بشغف صدور الترجمات الوافية الكاملة لمستخلصات هذه الأعمال.

فتحت أكثرية مناطق أرمينيا من قبل العرب في أربعينيات القرن السابع الميلادي. ويشهد على ذلك عهود الصلح وكتب الأمان المحرّرة من قبل الخلفاء العرب حول حق الأرمن في ممارسة شعائرهم الدينية ومحافظة تقاليدهم بكل حرية[1]. وأدى هذا إلى خلق جو ملائم لنشاط الأرمن في الخلافة العربية وأفسح المجال أمام مشاركتهم في الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية للدولة. وسجل التاريخ صفحات مشرفة من النضال المشترك لامراء الأرمن والعرب ضد الدولة  البيزنطية والغزاة الأجانب. وليس من الصدفة أن أمهات عدد من الخلفاء العرب كنّ أرمنيات المولد. ومن النساء الأرمنيات اللواتي دخلن التاريخ العربي نذكر بدر الدجى أو قطر الندى، والدة الخليفة القائم بالله (1031-1075م) وزوجة الخليفة القادر (991-1031م). وقرة العين، أو  أرجوان،أم  الخليفة  العباسي  المقتدى (1075-1094م)،وزوجة الخليفة الفاطمي المستعلي (1094-1102م) وزوجة الخليفة الفاطمي العاضد (01160-1171م).

واستوطنت بعض الأسر العربية أرمينيا واستقرت هناك إلى جانب الأرمن واختلطت بهم إلى حد الزواج، وظهر منهم كذلك أسر حاكمة توارثت الحكم في بعض المناطق برضا الوالي العربي.

المصدر: كتاب “أرمينيا ماضياً وحاضراً – (بمناسبة مرور 25 عام على الاستقلال)”، بقلم: أرشاك بولاديان، الدكتور – البروفيسور في العلوم التاريخية، سفير جمهورية أرمينيا لدى الجمهورية العربية السورية، دمشق، 2016.

1- استمر الخلفاء الراشدون والأمويون و العباسيون على هذا العهد إلى أن جاء العثمانيون، وتجدر الإشارة إلى أن صلاح الدين الأيوبي عندما استرجع القدس من الصليبيين سنة 1187م، أصدر مرسوما رسمياً اعترف بموجبه بحقوق المسيحيين والأرمن.

أرسل معاوية بن أبي سفيان كتاب الأمان إلى أهالي مدينة دبيل (دفين) الأرمنية وذلك بيد القائد العربي حبيب بن مسلمة. ويشهد المؤرخ الأرمني سيبيوس أنه اثـناء الصراع العربي- البيزنطي وقف القائد الأرمني ثيودور رشدوني إلى جانب العرب، ووقع معهم سنة 652م معاهدة صلح مشهورة، حصلت أرمينيا بموجبها على استقلال ذاتي مؤقت. وتمكن القائد الأرمني بمساعدة الجيوش العربية من قهر الامبراطور البيزنطي هرقل، وعندما زار دمشق بدعوة من القائد معاوية استقبل بحفاوة كبيرة.

وكانت العلاقات العربية- الأرمنية أيام الخلافة الأموية عامة (661-750م)،وحكم الخليفة معاوية بن أبي سفيان خاصة (661-681م) وثيقة. وقد تواردت الأخبار عن زيارة قام بها إلى دمشق حاكم أرمينيا كريكور ماميكونيان (661-685م) الذي كان يتقن اللغة العربية، يرافقه الأمير الأرمني سمباط، واستقبلهما الخليفة معاوية بالترحيب، وعين الأول حاكماً رسمياً على أرمينيا.

ويذكر المؤرخون الأرمن أن الخليفة عمر بن عبد العزيز (717-720م)، وجه دعوة للكاثوليكوس الأرمني هوفهانيس الثالث أوتسنتسي (717-728م) لزيارة دمشق. فاستقبل استقبال الملوك وقيل: إن دمشق لم تشهد مثيلا لهذا الاستقبال الحافل. و قد كان بين الخليفة والكاثوليكوس لقاءات عدة ،وافق الخليفة أثناءها على طلبات الكاثوليكوس، ألا وهي إعفاء رجال الدين الأرمن من دفع الضريبة، ومنح حرية العبادة الدينية للأرمن في البلاد التي يحكمها العرب، فاكتسب الأرمن بذلك حق إقامة أديرة ورهبانيات وكنائس.

وفي عهد الخليفة هشام بن عبدالملك (724-743م)، قام الجيشان الأرمني والعربي معاً بصد هجوم قبائل الخزر. ويذكر المؤرخ الأرمني غيفوند أن الخليفة أكرم ملك أرمينيا آشوط الثالث الباقرادوني (732-748م) أثناء زيارته لدمشق، وأمر بدفع رواتب وزراء الأرمن وفرسانهم المتوقفة قبل قدوم الملك آشوط بثلاث سنوات وقدرها مائة ألف درهم عن كل سنة، ثم تابعت دمشق دفع هذا المبلغ بانتظام لفترة من الزمن.

تمتع الأرمن في عهد الخليفة المتوكل(847-861 م) بمكانة مرموقة. فقد كان في الجيش المشترك الذي يدعم عرش الخلافة عدد كبير من الفرسان والمقاتلين الأرمن الأشداء، وكان الأمير الأرمني آشوط الخامس الباقرادوني من أقرب المقربين إلى الخليفة فقدم للعرب خدمات جليلة. وكان الأمير الأرمني أبو الحسن علي بن يحيى الأرمني يتولى مركزاً قيادياً في الخلافة  العباسية  أيام  الخلفاء  المعتصم  (833-842 م) والواثق (842-847 م) والمتوكل (847-861 م).

Share This