العلاقات الأرمنية ـ العربية عبر العصور (2)

 

إن الموقع الجغرافي لأرمينيا وبلاد العرب، بدون شك، لعب دوراً أساسياً في العلاقات العربية الأرمنية والتبادل الثقافي والتجاري بين الشعبين. وانضمام أرمينيا إلى الخلافة العربية ساعد حقاً على التعارف المتبادل والتمازج الفكري والحضاري. وكما أورد المؤرخون والجغرافيون العرب والأرمن على حد سواء، قلما عرف التاريخ فتحاً مماثلاً للفتح العربي من حيث التسامح والوئام، فكانت الصلات التاريخية والسياسية، فضلاً عن الفكرية والحضارية بين الشعبين وثيقة جداً. وساهم في ذلك أن الأرمن والعرب كانوا متحدين في كيان دولة واحدة. إن الاختلاف اللغوي والديني بين الشعبين لم يشكل عائقاً أمام توطيد العلاقات الأرمنية-العربية على مرّ التاريخ. ودخلت هذه العلاقات مرحلة جديدة، كما ذكرنا، خاصة منذ عام 885 م، عندما منحت الخلافة العربية أرمينيا حكماً ذاتياً واعترف بها الخليفة المعتمد كدولة مستقلة ووافق على تتويج ملكها آشوط الأول البقرادوني. وتطورت بذلك بين الدولتين علاقات حسن الجوار والروابط الاقتصادية والتجارية والثقافية.

إن دراسة النصوص التاريخية بصفة عامة وتاريخ الشرق الأوسط بصفة خاصة، تقود إلى استنتاج مفاده أن الحكم العربي اتسم بالنسبة للأرمن بالعدل والتسامح والتحرر من اضطهاد الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية، وباستجابة الخلفاء العرب لأول بادرة سلام بينهم وبين الأرمن. والشاهد على ذلك، كما ذكرنا، كتب الأمان من قبل الفاتحين العرب وعدد من الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين التي أوصت بالأمان للأرمن على أنفسهم ودينهم وأموالهم. ويقول المؤرخ الفرنسي بهذا الصدد ” أن الحكم العربي في أرمينيا لم يؤد إلى انعزالها، بل على العكس من ذلك، فقد كان فترة تبادل واسع لمختلف الحضارات والثقافات “. وحقاً ساهمت السلطة العربية على احتفاظ أرمينيا بحضاراتها المتميزة وموقعها الثقافي في مفترق الطرق بين الشرق والغرب.

تبلور الحكم الإسلامي في مناطق التخوم وفي أرمينيا بوجود سلطتين قائمتين وهما سلطة الوالي أو العامل العربي وسلطة “البطريق” (الأمير) الأرمني.  وحفظ التاريخ أسماء الولاة العرب في أرمينيا وأسماء الأسر الأرمنية الحاكمة. وكان الوالي العربي والبطريق الأرمني يقومان بدورهما المتمثل في تنفيذ الواجبات الإدارية.

لعبت أرمينيا باعتبارها جزءاً من الخلافة العربية وبفضل مكانتها الإستراتيجية المتميّزة كخط دفاعي فاصل ونقطة دفاع ومقاومة ضد أعداء الخلافة. وأصبحت بذلك حاجزاً رادعاً بين الدولة الإسلامية وشعوب القوقاس، خاصة الخزر، خلال مرحلة السلطة الأموية. وقد زحفت هذه الشعوب إلى شمال أرمينيا بدعم من الإمبراطورية البيزنطية بهدف إضعاف الحكم الإسلامي. هذا ومن الناحية العسكرية والدفاعية زادت أهمية أرمينيا في العصر العباسي، واستعان الخلفاء العباسيين أحيانا بالأرمن ضد الروم وضد الولاة العرب المتمردين في مناطق الخلافة الشرقية.

ساهم الفتح العربي لأرمينيا في زيادة هجرة القبائل العربية إليها. ومن هذه القبائل نذكر القبائل اليمانية وهي أول من دخلت أرمينيا مع الفاتحين وقبائل النزارية، وأفواج المهاجرين من ربيعية وتغلب ووائل وشيبان وغيرها التي استوطنت في المناطق المتاخمة لحدود أرمينيا الجنوبية – الغربية القريبة من موطنها الأصلي – ديار بكر. وليس من الصدفة انتساب عدة مفكرين عرب في القرن الوسيط إلى مناطق أرمينيا، نذكر منهم الشاعرعبد الرحمن بن يحيى الدبيلي، حداد بن عاصم النشوي، الفرح بن أبى عبيد الله النشوي، ابن الأزرق الفارقي، الفقيه الصالح أبو الحسن علي بن محمد بن منصور الأرجيشي، الوزير أبو نصر المنازي وأبو علي القالي الأديب المعروف صاحب الآمالي وغيرهم.

وتأسست في مختلف مناطق أرمينيا عدة سلالات عربية. وبذا بدأت مرحلة جديدة للاحتكاك بين الأرمن والعرب في أرمينيا طوال الخلافة العربية في مختلف المراحل التاريخية.

ولأسباب سياسية، دينية، واجتماعية واقتصادية بدأت هجرات الكثير من الأرمن إلى البلدان المجاورة واستقروا بها واتخذوا منها أوطانا لهم. إن دراسة التاريخ تشهد على أن هجرة الأرمن بدأت في القرون ما قبل التاريخ وخاصة في القرن الأول خلال فتوحات الإمبراطور الأرمني ديكران العظيم (84-64 ق.م)، والذي امتدت إمبراطوريته إلى حدود فلسطين، شاملة مناطق واسعة بين بحر قزوين والبحر الأسود شمالاً ومن حدود فارس إلى البحر الأبيض المتوسط جنوباً، فتحوّلت عاصمته ديكراناكيرط (ميافارقين، سيلافانا الحالية في تركيا) إلى محور اتصال مع البلدان المجاورة.

وشجع الملك الأرمني ديكران هجرات الأرمن من الوطن الأم إلى البلدان المحتلة لغايات سياسية وتجارية واقتصادية.  فهاجر بعض الأرمن إلى فلسطين في تلك المرحلة واستقروا في مختلف مناطقها. وقام الملك ديكران بتهجير آلاف الفلسطينيين وأسكنهم في أرمينيا. ووفق المصادر التاريخية فإن أولى الكنائس الأرمنية شيدت في فلسطين في القرن الرابع بعد اعتناق الأرمن الديانة المسيحية رسميا في 301 م. ويدل هذا على وجود الأرمن في فلسطين خاصة في مدينة القدس[1] ابتداءً من القرن الرابع الميلادي. وفي القرن الخامس الميلادي بدأ الحجاج الأرمن من أرمينيا بالذهاب إلى الأراضي المقدسة ومن بينهم مخترع الأبجدية الأرمنية ميسروب ماشطوتس وبعض المترجمين الأوائل. وأسس الرهبان الأرمن في القدس رهبانية أرمنية مستقلة وبطريركية، أصبح مركزها دير القديس يعقوب الذي لا يزال قائماً حتى الآن. ويدل ما ذكر على الصبغة الدينية للوجود الأرمني في فلسطين.

الجدير بالذكر أن الجالية الأرمنية في فلسطين تتميز عن بقية الجاليات الأرمنية بدورها الثقافي في حياة البلاد، إذ تمت في البطريركية الأرمنية أعمال ثقافية عظيمة، وخاصة في مجال الترجمة من اللغات اللاتينية والعربية والجورجية والأثيوبية إلى اللغة الأرمنية وبالعكس. وفي نفس الوقت لعبت الجالية دوراً بارزاً في مجال التجارة والحرف لأن مدينة القدس كانت تقع على طريق تجاري عالمي.  وبعد فتح القدس من قبل العرب أعطى عمر بن الخطاب كتاب أمان إلى جميع سكان المدينة ومن بينهم الأرمن. واستمر هذا العهد من قبل الحكام العرب إلى أيام الامبراطورية العثمانية التي لم تلتزم به.

تتابعت هجرة الأرمن من أرمينيا إلى الأقطار المجاورة بعد انهيار مملكة ديكران العظيم أيضاً. وعلى سبيل المثال يجب القول إن مدن سوريا وبلاد ما بين الرافدين كانت مناطق مهمة ومزدهرة للتجارة العالمية ما قبل التاريخ وخلال الحكم البيزنطي والعربي. وكانت هذه المناطق مرتبطة مع أرمينيا ومدنها بطرق تجارية عديدة.  فكان الأرمن على اتصال مباشر مع المناطق المجاورة، فتأسست لهم مراكز دينية وثقافية فيها. ويدل على ذلك كثرة الأرمن في سوريا ومصر.

ولأسباب سياسية واقتصادية خاصة بعد سقوط حكم الباقرادونيين في ارمينيا في أربعينيات القرن الحادي (1045م) وانتشار العنصر التركي في منطقة الشرق الأوسط وحدوث الغزوات المغولية التترية (1220-1468 م)، بدأت مرحلة جديدة لهجرة الأرمن إلى البلدان العربية اتصفت هذه المرة بهجرة العائلات النبيلة وأتباعها، هاربة من الظلم والاضطهاد الأجنبي. وقد ألحقت غزوات الأجانب أضراراً بالغة في أرمينيا والجاليات الأرمنية المتواجدة في البلدان المجاورة. في عهد الامبراطورية العثمانية تعرضت الجاليات الأرمنية إلى خسائر جديدة. وهاجر بعض الأرمن  من الأقطار العربية إلى الهند وإيران والبلاد الأوروبية وغيرها ثم عبروا حدود مصر واستقروا في أفريقيا الشمالية وفي دول المغرب العربي والسودان وغيرها. ووقعت الهجرات الأرمنية بشكل جماعي إلى البلدان العربية عقب الاضطهاد العثماني بصفة عامة وبعد جريمة الإبادة الأرمنية الكبرى في 1915 م.

حاز الأرمن في مصر على مكانة مرموقة، وقد استقرّوا فيها منذ العصور القديمة، وخاصة في القرن الأول ما قبل الميلاد. وكان للأرمن علاقات تجارية متطورة مع الإسكندرية التي كانت تعتبر من أهم المراكز التجارية والثقافية حينذاك. وتعلم الكثير من الطلبة الأرمن في هذه المدينة. وأثناء حكم الإمبراطورية البيزنطية على أفريقيا خلال قرنين (395-640م) قطنت في مصر جالية أرمنية مزدهرة، برزت منها شخصيات أسندت إليها مناصب رفيعة.

وفي عام 640م ضمت مصر إلى الخلافة العربية من قبل القائد العربي عمرو بن العاص، الذي بني في عام 642م مدينة الفسطاط.  وقام أحد أصحاب القائد العربي ببناء سوق فيها سمي باسمه هو سوق ” واردان الأرمني “، والذي عين في منصب والي خراج مصر من قبل معاوية بعد وفاة عمرو بن العاص. وكان واردان مساعد ورفيق القائد العربي في السلاح.

تمتع الأرمن في مصر أثناء الحكم العربي بحرية العبادة الدينية، ولعبوا دوراً سياسياً واقتصادياً وعمرانياً وثقافياً عظيماً خاصة في عهد الخلافة الفاطمية. وسمى بعض المستشرقين النصف الثاني من القرن الحادي عشر الميلادي بالعهد الأرمني، إذ بلغ عددهم حينذاك في مصر حوالي ثلاثين ألف شخص.  ونزح إلي مصر عدد كبير من أبناء أرمينيا عن طريق القدس بعد غزوات الأتراك السلاجقة وانهيار دولة البقرادونيين. وفي هذه الفترة تقلد الأرمن خلال فترة استمرّت حوالي مئة عام مناصب الوزارة في الخلافة الفاطمية ولعبوا، كما ذكر، دوراً سياسياً واقتصادياً وثقافياً هاماً في تاريخ البلاد.

ويعد بدر الدين الجمالي مؤسس سلالة الوزراء الأرمن في عصر الفاطميين، وقد جاء الجمالي إلى مصر من عكا على رأس الجيوش الأرمنية في عام 1073 م. بدعوة من الخليفة المستنصر كما يقول المؤرخ ابن القلانسي ” لإصلاح الأحوال في البلاد “. وليس من المستغرب أن الشخصيات الأرمنية التي تقلدت أرفع المناصب في الوطن العربي حملت أسماء عربية رغم بقاء ارتباطها بأصولها الأرمنية.

كان بدر الدين الجمالي في البدء مملوكاً لوالي دمشق جمال الدولة بن عمار، وقد عينه الخليفة المستنصر فيما بعد والياً على دمشق. وسرعان ما عيّن والياً على عكا، وتشهد المعلومات التاريخية على تحقيق ازدهار خلال ولايته. ويكتب المؤرخ المقريزي في حديثه عن بدر الدين الجمالي ويقول: ” كان مملوكاً أرمنياً لجمال الدولة بن عمار فلذلك عرف بالجمالي ومازال يأخذ بالجد من زمن سبيه فيما يباشره ويوطن نفسه على قوة العزم ويتنقل في الخدم حتى ولي إمارة دمشق من قبل المستنصر… وتقلد نيابة عكا فلما كانت الشدة بمصر من شدة الغلاء وكثرة الفتن والأحوال بالحضرة قد فسدت والأمور تغيرت وطوائف العسكر قد شغبت والوزراء يقنعون بالاسم دون نفاذ الأمر والنهي والرخاء قد أيس منه والصلاح لا مطمع فيه ولو أنه قد ملكت الريف والصعيد بأيدي العبيد والطرقات قد انقطعت براً وبحراً الا بالخفارة الثقيلة فلما قتل بلنكوش حسين بن حمدان كتب المستنصر إليه يستدعيه ليكون المتولي لتدبير دولته فاشترط أن يحضر معه من يختاره من العساكر.  وأقام له جنداً وعسكراً من الأرمن فصار من حينئذ معظم الجيش من الأرمن…”.  ووصل بدر الدين الجمالي مصر، كما قيل،على رأس جيوشه الأرمنية وفق شروط خاصة اتفق عليها مع الخليفة المستنصر. وسرعان ما تخلص، بإذن الخليفة، من أمراء الدولة والجيش من الأتراك بحيلة غريبة، وأعلن الحرب على جميع المخالفين في مصر.

تقلد بدر الدين الجمالي منصب الوزير زهاء 20 سنة (1073-1094 م) واشتهر في التاريخ بلقب “أمير الجيوش” و “وزير السيف والقلم وكافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين”.  وتطورت مصر أثناء ولايته تطوراً كبيراً. ويذكر المقريزي أنه «عمّر البلاد وأصلحها بعد فسادها وخرابها بإتلاف المفسدين من أهلها…  وكانت له محاسن منها أنه أباح الأرض للمزارعين 3 سنين حتى ترفهت أحوال الفلاحين واستغنوا في أيامه ومنها حضور التجار إلى مصر لكثرة عدله بعد انتزاحهم منها في أيام الشدة ومنها كثرة كرمه… وهو أول وزراء السيوف الذين حجرا على الخلفاء بمصر ومن آثاره الباقية بالقاهرة باب زويلة وباب الفتوح وباب النصر…» وكانت من منجزاته أيضا عمارة سور القاهرة و”دار الوزارة” و”دار الضيافة” و”سوق حارة برجوان” وغيرها.

وتشير النصوص التاريخية بأن بناء باب زويلة وباب النصر وباب الفتوح تم من قبل 3 أخوة بنائين أرمن، قدموا إلى مصر بهذه المهمة من أرمينيا. ولذا ذكر عن أوجه تشابه بين أسوار القاهرة وأبوابها وبين أسوار مدينة آني – عاصمة الباقرادونيين في أرمينيا. وبذا لعب بدر الدين الجمالي دوراً عمرانياً وسياسياً وإدارياً وحربياً في تاريخ الخلافة الفاطمية وإصلاح الوضع بكل معنى الكلمة في الدولة.

وتشهد المصادر والمراجع التاريخية بأن عدد الأرمن في مصر بدأ بالإزدياد في عهد بدر الجمالي وخلفائه حيث وصل البلاد عدد كبير من العسكريين والمدنيين الأرمن وزاد نفوذهم في الدولة فمنحوا الأراضي والضياع والإقطاعات للاستقرار فيها. وحضر مع الجمالي إلى مصر أهله وذويه ومنهم أولاده: الأوحد والأفضل وجعفر المكني بأبي محمد الملقب بالمظفر، والكثير من أمراء الأرمن من غلمانه مثل ناصر الدولة أفتكين، ولاوون والأمير فخر الملك سعد الدولة أبي منصور الجيوشي والأمير أبو منصور صافي الأفضل وغيرهم. فاقتطعت لهم الناحية المعروفة بشترا من أعمال البهنسا والتي بلغت مساحتها 4575 فداناً. وعدا ذلك اهتم بدر الدين الجمالي بالمسيحيين الأرمن وبتنظيم أحوالهم الدينية وفي نفس الوقت نجح في توطيد العلاقات بين البطريركية الأرمنية والكنيسة المرقسية حيث أعلنا في بيان لهما اتفاق القبط والأرمن والأحباش والنوبيين فيما يتعلق بالعقيدة الأرثوذكسية. وتميز بتسامحه إزاء رؤساء طوائف أهل الذمة.

بعد وفاة بدر الدين الجمالي تدرج في منصب الوزير في الخلافة الفاطمية الأفضل شاهنشاه بن بدر الدين الجمالي، أحمد بن الأفضل، السعيد أبو الفتح يانس الأرمني، بهرام الأرمني، طلائع بن رزيك، رزيك بن طلائع وغيرهم. وكان رزيك بن طلائع آخر وزير أرمني في الحكومة الفاطمية وقد حكم من عام 1161م إلى 1163م وكان يلقب بالعادل.

ومنح الأرمن في الفترة المذكورة وما بعدها في مصر العديد من السلطات التشريعية والتنفيذية في مختلف مجالات الدولة. ومن الوظائف التي كان الأرمن يتولونها وظيفة “صاحب الدار” التي كانت تعتبر أعظم رتب الأمراء، ومن يتولاها يرشح للوزارة، ومن الوظائف الأخرى “الإشراف على الكسوة” ومنصب “نائب الوزير” وغيرها. وكتب المقريزي بهذا الصدد بأن العديد من المناصب في الدولة قد أسندت إلى الأرمن، وهذه المناصب لا تسند إلا إلى أرباب الشجاعة والنجدة. فكان للأرمن محل ثقة وحازوا على رضا الخلفاء ونالوا محبتهم وعطفهم.

وشارك الأرمن في إدارة البلاد التي قسمت تقسيماً إدارياً جديداً في عهد وزارة بدر الدين الجمالي، كما شاركوا في المجالات الحربية والعسكرية. وكانوا يمثلون عنصراً فاعلاً من عناصر الجيش، ولعبوا دوراً بارزاً في الدفاع عن مصر وصد المعتدين عنها. وكان الأمراء والقادة وطوائف الجند من الأرمن. وتولى الوزراء الأرمن قيادة الجيش في العصر الفاطمي. واحتفظ صلاح الدين الأيوبي ببعض القواد الأرمن البحريين واستعان بهم في حروبه ضد الروم والصليبيين، وأعرب عن ثقتهم الكبيرة بهم، ومنحهم الامتيازات والأمن والأمان.

وعني الأرمن في مصر بالحياة العلمية والأدبية والعمرانية عناية فائقة. وأضحى اهتمامهم بهذه المجالات عاملاً أساسياً من عوامل قيام النهضة العلمية والعمرانية والأدبية المشهودة في مصر في العصر الفاطمي.

ووصل الأرمن في مصر إلى مراكز مرموقة في ظل الدولة الأيوبية والمماليك والإمبراطورية العثمانية، وقدموا خدمات جليلة للبلاد. وازدهرت الجالية الأرمنية خاصة في عصر محمد علي عقب فشل حملة نابليون على مصر. وبرز في مطلع القرن التاسع عشر عدة شخصيات أرمنية، كان لهم دوراً كبيراً في حياة البلاد السياسية والاقتصادية والثقافية الخ، وقدموا بذلك خدمات عظيمة للبلاد. وتقلد هؤلاء المناصب الرفيعة في الحكومة المصرية وخاصة في مجالات الاقتصاد والبنوك والتعليم والثقافة والفنون الخ. وعلى سبيل المثال نذكر نوبار باشا نوباريان (1824-1899) الذي تلقد مناصب وزير الإسكان والعدل وأصبح وزيراً للخارجية أربع مرات، ووزيراً للتجارة، فضلا عن رئاسة الوزراء لثلاث فترات أخرى.

خدمت شخصية نوبار باشا جميع حكام مصر في القرن التاسع عشر بدءاً من محمد علي حتى عباس حلمي الثاني. وكانت شخصيته قوية، تمتلك طاقة لامحدودة ساعدته في ذلك دخوله المبكر إلى الأوساط السياسية في مصر. واختياره العمل في مصر يعود إلى موقعها الجغرافي الفريد بالنسبة للباب العالي من ناحية وللقوى الاستعمارية الأوروبية من ناحية أخرى. وخلال وجوده في الحكومة المصرية انتهج نوبار باشا دائماً سياسة مستقلة مدافعاً عن مصر أمام التدخلات الأوروبية وحامياً المصريين من ظلم حكامهم.

المصدر: كتاب “أرمينيا ماضياً وحاضراً – (بمناسبة مرور 25 عام على الاستقلال)”، بقلم: أرشاك بولاديان، الدكتور – البروفيسور في العلوم التاريخية، سفير جمهورية أرمينيا لدى الجمهورية العربية السورية، دمشق، 2016.

[1] تضم مدينة القدس داخل سورها العتيق خمسة أحياء قديمة متجاورة هي: الحي المسيحي، الحي الأرمني؛ الحي الإسلامي؛ منطقة الحرم الشريف؛ الحي اليهودي. يقع الحي الأرمني جنوب غربي القدس القديمة، وهو يشغل خمس مساحة المدينة القديمة الواقعة داخل الأسوار. استقرت فيه جماعة من الرهبان الأرمن بالقرب من موقع لتجمع المسيحيين الأوائل يدعى “الغرفة العليّة”، ومن المعتقد أن كاتدرائية سانت جيمس للأرمن الأرثوذكس بنيت في هذا الموقع.

Share This