مذبحة دياربكر ومايجاورها

لو شئنا أن نحصي الفظائع التي جرت في دياربكرالسوداء ونستقصي الجرائم التي اقترفها محادو الانسانية لطال بنا الشرح وشردنا عن القصد. وحسبنا أن نقول أن دياربكر السوداء امست جرثومة النوازل ومغرس الغوائل ولقد صدق من سماها قلعة الدماء. على أن الاتحاديين نصبوا رشيداً العاتية والياً عليها وخولوه امتيازات سامية وسلطة واسعة مطلقة وزودوه شرذمة من القتلة العفاريت المشهورين بفظ الطباع وقساوة القلب كأحمد بك السرزي ورشدي بك وخليل بك وممدوح الذائع الصيت وغيرهم.

بناء عليه اذاع رشيد الخبيث في خامس نيسان 1915 ا ستة ضباط انهزموا من العاصمة ووافو الى دياربكر ليضرموا فيها جذوات الشحناء والقتال واستدراكاً لذلك اوفد يفتش عنهم في الكنائس ودور الوجهاء للقبض عليهم. وكان اولئك الستة الملاعين جواسيس شياطين اصطفاهم رشيد عينه ووسوس لهم ان يقصدوا كنيسة الأرمن الغريغوريين متظاهرين بالنصرانية بغية الاطلاع على النيات و السرائر. وما مضى القليل على ذلك حتى تحفز رشيد ذاته ورشدي بك القومندان وجمعا اليهما اطرافهما كالقومسير والضباط ونشموا يجولون في الدور ولما وصلوا الى كنيسة الأرمن وصادفوا الجواسيس نادوا بالويل والثبور وركبهم ابليس ابو الشرور فأمروا بنبش الكنيسة ودار المطرنة لاستخراج القنابل والمدافع وثابروا على ذلك مدة خمسة ايام.

وفي تلك الغضون وصل الى دياربكر السوداء 840 من العملة الأرمن كانوا يشتغلون مجاناً منذ ايلول 1914 في طرق ارضوم وطرابزون وارزنجان وما كادوا يطأون ارض الولاية حتى ارسل رشيد اللئيم تابوراً من العسكر لاستقبالهم فحملوا عليهم حملة شنعاء وذبحوهم قاطبة وانقلبوا راجعين باسلابهم الى الولاية يبشرون الوالي القبيح الذكر.

ويوم الاثنين 12 نيسان القي القبض على كرابيد طوربنجي إمام الأرمن وعلى معلمي مدرستهم وعلى مرديك ويكانيان وزجوهم في اعماق السجن. ويوم الثلاثاء 13 نيسان قبضوا على نيف وسبعين من وجهاء حي فاتح باشا وساروا بهم الى محل المسافرين (المسافر خانة).

وعند المساء اطلقوا من اولئك المسجونين ثمانية توطيناً للنصارى. ويوم الاربعاء 14 نيسان كبسوا المحلة عينها وقبضوا على ثلاثمائة و اربعة عشر رجلاً من اغنياء الأرمن الذين دفعوا البدل العسكري واستاقوهم الى السجن. وصباح الغد اكبوا على حي الحصولي وتمحلوا مائتي أرمني وساروا بهم الى الموضع المرقوم. واوفد الوالي من فوره الكتائب الى قرى النصارى المجاورة فاغاروا عليهم وقتلوهم واحرقوا دورهم.

ولما غص السجن بالمسيحيين انطبق عليهم اعداء البشرية وعلقوا يعملون فيهم انواع العذابات ولم يكونوا يفترون من التنكيل بهم حتى تنهمر دماؤهم على الحضيض فيقصدون غيرهم. اما الوجهاء فجلفوا اظافرهم وبقروا بطونهم وثقبوا يديهم ورجليهم وقلعوا اسنانهم حتى قضى عدد غفير منهم داخل السجن فجروهم في شوارع البلد وألقوهم خارجاً.

وثالث احد بعد الفصح 25 نيسان اوثقوا ثمانمائة وسبعة رجال بالاغلال والحبال واستاقوهم عند الفجر من باب ماردين باللطم والصفع والشتم والتشنيع وكان في جملتهم الموسيو كزابيان ترجمان القنصل الفرنساوي فوصلوا الى دجلة واعدوا لهم سبعة عشر كلكاً او طوفاً وسار معهم رشدي بك القومندان والف من الضباط والجنود والجراكسة وما قطعوا من دجلة إلا القليل حتى امروهم بكتابة الرسائل الى ذويهم فامضوها وختموها وكان فحواها انهم قاصدون الموصل وارادوا بذلك ان يموهوا الحقيقة على اصحابهم لئلا يثبطوا الحكومة بهيجانهم عن مواصلة شغلها ويمطلوا تدابيرها فلا يتيسر لها ان تدمرهم بلفيفهم. وبعد هذا انطبقوا عليهم وعروهم وقتلوهم في مضيق عشيرة الرما واحتووا على اموالهم وامتعتهم. والقوا على قسم منهم خشب الإكلاك واحرقوهم وانقلبوا الى الولاية مسرعين يوم الثلاثاء 27 نيسان ليواصلوا العمل قبل فوات الفرصة.

وافضى بهم الخبث واللؤم فقبضوا على مطران الأرمن الغريغوريين ومضوا به الى باب ماردين واجلسوه على كرسي ليرى شعبه عند مرورهم فيزداد الماً وتوجعاً ثم رجعوا به توّاً الى السجن وجعلوا يقبضون على كل من يصادفونه داخل البلدة وخارجها ويسوقونه الى جامع فاتح باشا فيعذبونه او يقطعونه عضواً عضواً او يقلبون عليه زيت البترول ويحرقونه وكانوا يشيرون على ذويهم ليحملوا لهم الاطعمة وعند وصولهم الى السجن كانوا يوثقونهم ويضيفونهم الى اصحابهم.

ثم استدعوا قساوسة الأرمن الاربعة ونفثوا فيهم وفي مطرانهم حمة سخطهم وغضبهم واخرجوهم الى الساحة وركبوهم كالدواب وساقوهم وصفعوهم ثم امروهم ان يكنسوا دار الحكومة وهم راكبون فوقهم كما جرى الامر بماردين للقس يوسف رباني السرياني معلم المدرسة. وظلوا يعذبونهم مدة ثلاثة ايام ليل نهار واخيراً فوضوا الى الملاوية (المؤذنين) أن يعذبوهم كما يلهمهم الخناس فقاموا بتلك الخدمة طول الليل بالمناوبة ووضعوا جرناً ثقيلاً على هامة المطران واضطروه ان يقفز ويرقص ثم سلقوا بيضتين ووضعوا في كل يد بيضة وارادوه على طبقها حتى تهرت اللحمان ثم استحضروا مسماراً ضخماً ضربوه في ام راسه حتى نفذ من عنقه واذاعوا انه خولط في عقله واخيراً مضوا به الى ساحة دار الحكومة وقلبوا عليه زيت البترول واحرقوه وجروه الى المزبلة والقوه فوقها. اما القسان الاربعة فاخذوا بمخنقهم حتى صاروا يلعبون كالسمكة في الماء فتراهن الجنود على قلنسوتهم فمن اصابها صفقوا له استحسانا وما زالوا يعذبونهم هكذا حتى فاظوا.

وبعد ان استاقوا الرجال وذبحوهم طففوا يجمعون النساء فاخرجوا طائفة من باب الروم واخرى من باب ماردين واختطفوا الاطفال من احضانهن. وذكر لنا جرجس مرجان القصوراني انه لما كان يجول في البرية بزيّ عربي رأى في شيركه قافلة سيدات قادمات من دياربكر راكبات العجلات وما بلغن الى تلك القرية حتى امروهن بالنزول ونشموا ينتقون اربعاً فاربعاً الى بئر قريبة فعروهن وقتلوهن على فم البئر وجرجس يلحظهم. وشاهد قافلة ثانية من شيوخ دياربكر ونسائهم واطفالهم في تعليكه ولوذي ذبحهم الاعداء قاطبة على فم الابار. فقصد جرجس عند الصباح احداها ودلى الحبل فنشل اثني عشر شخصاً من جملتهم داود بن رزق الله وزير وخاتون بنت يوسف طوراني. وشاهد قافلة ثالثة في عاليه غربي تعليكه ذبحهم الخصوم عن اخرهم وألقوهم في البئر فسار عبد القادر بك في اصحابه ونشل منهم زهاء خمسين ولداً أغلبهم جرحى فعني بامرهم وعالجهم ولكنهم ماتوا كلهم

اما السيد اندراوس جلبيان مطران الأرمن الكاثليك فلسبب طمع رشيد في الاستيلاء على ثروته ابقى عليه ردحاً من الزمان. ولما باشر الخصوم يسوقون النساء ساقوه مع ذويه وثلاث راهبات على طريق حلب فوصلوا به الى خان حبش واضطروه أن ينتصب في طرف الجادة واخذوا الحجار ورجموه كاسطفانس رأس الشهدا حتى تكومت الحجار عليه ووارت قامته الا رأسه وكتفه الواحدة فامسكوه حطبة وتركوه هكذا يتعذب حتى فاضت روحه الطاهرة بيد خالقها وكان كلما مر المسيحيون بتلك الطريق. قال لهم الجنود “حيدوا زوروا مطرانكم” اما شماسه وكان من اسرة طازباز الماردينية فهجموا عليه وخنقوه داخل الكنيسة والقوه في بئرها وبقي الاب اوسيب منزوياً في دار المسافرين اثنين وخمسين يوماً فاسنى للوالي مائة ليرة ذهباً ونجا من القتل.

واعلم ان الخصوم بدياربكر على شديد حنقهم وكيدهم ابقوا على الف ومائتي أرمني بدياربكر جاهروا بالاسلامية. اما الأرمن الكاثليك فظل منهم اربعون شخصاً لم يسلموا. واستاقت الحكومة من جماعة الكلدان اربعة وثمانين بيتاً ومن اليعاقبة ستة وعشرون بيتاً واسلم منهم ثمانون رجلاً. واسلم من السريان الكاثليك اسرة شكال واسرة بالي سوى يوسف وامه واخوته. اما دور النصارى وكنائسهم واموالهم فحدث لها مثلما حدث في ماردين فان رجال الحكومة ضبطوها وحشدوا اموال الأرمن فيها وتبايعوا عليها.

وإليك نتفاً من الوان العذابات التي انزلها بالنصارى اعداؤهم على أن كاهن قرية علي بوار الأرمني الذي كان عمره خمسة وثلاثين ربيعاً استاقوه الى السجن واستاقوا امراته معه فعروها امامه وركبوا منها الفاحشة مراراً ثم صعدوا به الى السطح ودعوه الى اسفل وقطعوه اما امرأته المسكينة فاغمي عليها وفاظت. ثم انهم نعلوا قدمي بوزو النعلبند وثندوتيه بنعال ضخمة حتى قضى اجله. وجلفوا اظفار ذكران حلوجي عن اصابع يديه ورجليه وضربوه بقضبان رمان طريئة حتى اماتوه ونكلوا نظيره بباهو (ابراهيم) القصاب وتكاولوا عليه بالعصي حتى قضى. وعلقوا جاقوجي بكلابة القصاب وسلخوا جلده وقطعوه ارباً ارباً وافتعلوا كذلك بمهران بسطجي. وقس على ما صار في دياربكر مذابح النصارى في الابشيرية والجاروخية وسائر القرى وفي سويرك ايضاً فان الاتراك لم يبقوا على نصراني واحد فيها والخلاصة أن النيران اثناء المذبحة كانت تلتهم جثث المسيحيين داخل ولاية الدماء وخارجها.

 

المصدر: من فصل (القصارى في نكبات النصارى، للعلامة الأب اسحق أرملة السرياني، الطبعة الأولى- 1919) الجزء الثالث، الفصل الثالث (8).

مقتطف من كتاب “شهود عيان عن الإبادة الأرمنية في الإمبراطورية العثمانية (مجموعة وثائق تاريخية)، إعداد وإشراف ودراسة: البروفيسور الدكتور آرشاك بولاديان، دمشق-2014، حيث ينفرد موقع “أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر مقتطفات منه.

 

Share This