أردوغان والأزمة الكردية في العراق

 

واخيرا اتضحت جميع  المواقف تجاه استفتاء الاستقلال الذي تم في أقليم كردستان العراق والذي اجري في 25  ايلول 2017، ويبدوا ان رئيس الاقليم السيد مسعود البارزاني قد غامر بكل مكتسبات وانجازات شعبه ورصيده السياسي . تاريخياً، تم تحديد منطقة ذات حكم ذاتي للاكراد بموجب معاهدة سيفر بعد نهاية الحرب العالمية الاولى وكانت تشمل مناطق تواجد الاكراد في جنوب شرق تركيا حسب الخارطة التي رسمها الرئيس الامريكي ودرو ولسن، ولاحقا الغت معاهدة لوزان ما قبلها واخضع كمال اتاتورك مدن شرق تركيا الحالية لسلطته. ويعتقد الاكراد ان  معاهدة سيفر هي التي مزقت كردستان حيث توزعت بين تركيا وايران والعراق وسوريا.

رسم  الاكراد خارطة وطنهم الكبير حسب طموحاتهم وقناعاتهم دون التقيد بما اراد لهم الاخرون، فالمنطقة الشمالية من العراق والتي تسمى كردستان العراق وتشمل مدن ( اربيل والسليمانية ودهوك) وبعض المناطق المتنازع عليها تمثل جزءا من كردستان الكبيرة التي يحلم بها الاكراد والذي يقع الجزء الاكبر منها في تركيا حيث يعيش فيها ما بين 16-20 مليون كردي أطلق عليهم كمال اتاتورك تسمية (اتراك الجبل) ومناطقهم معروفة بشرق تركيا ولا ذكر لكردستان تركيا،  اما تسمية كردستان ايران فهي تظهر بين حين واخر وتشمل المنطقة الشمالية الغربية من البلاد ولم يتم تداول تسمية كردستان  سوريا.

لا يختلف احد على مظلومية الاكراد عبر التاريخ وحرمانهم من حقوقهم القومية في البلدان التي يعيشون فيها وخصوصا في تركيا حيث يتم قمع اية حركة تحررية كردية بوحشية. اما في سوريا فلقد كانوا دائما  مهمشين وفي ايران سيطرة الحكومة سيطرة تامه عليهم ولم ينسى الايرانيون تاسيس جمهورية مهاباد الكردية عام 1946 في شمال البلاد.اما في العراق فطالما تدخلت القوى الخارجية لاشعال نار الفتنة لضمان مصالحها، وعملت على الغاء اي اتفاق يتم التوصل اليه بين الحكومة المركزية والاكراد ، حيث كان يتم خرق اية  اتفاقية سلام من قبل الطرفين لعدة اسباب  ومنها انعدام الثقة بين الطرفين. وبعد عقود من الصراع الداخلي والتضحيات الكبيرة ونزيف الدم وتوقف النمو الاقتصادي في البلد حصل الاكراد على امتيازات كثيرة لا مثيل لاقرانهم في دول الجوار. فبعد انسحاب العراق من الكويت تمتع اكراد العراق بحماية دولية بقيادة امريكا وانكترا وجعل خط العرض 36 فاصلا بين المنطقة الكردية وبقية البلاد وتمتع الاكراد بالحكم الذاتي. ولكن بدلا من تطوير مناطقهم ودفع عجلة التنمية والازدهار والنهوض بواقع الخدمات والتعليم والصحة والاعمار وتهيئة جيل جديد من المثقفين الاكراد، وقع الاكراد في فخ الاستقطاب الاقليمي ومال مسعود البارزاني الى تركيا وجلال الطالباني الى ايران ليتعمق الانقسام بين الجناحين المتنافسين وينتهي الامر الى الاقتتال بين الاخوة لعدة سنين حيث استعان البارزاني اخيرا بعدوه صدام حسين لطرد جماعة الطالباني من اربيل ولاحقا وقع الجانبان الكرديان على اتفاقية لانهاء الاقتتال بينهما بمباركة امريكية .

بعد احتلال العراق من قبل الامريكان عام 2003م وإسقاط نظام صدام حسين ، تم صياغة دستور جديد للعراق بمشاركة الاكراد وبموجبه حصل الاكراد على امتيازات كثيرة، حيث شهدوا ولادة إقليم كردستان العراق بقوات مسلحة (قوامها عشرات الالاف من البيشمركة) وشرطة وبعلم ودستور ونشيد قومي وحكومة وبرلمان مستقل عن الحكومة المركزية. كما انتخب السيد مسعود البارزاني رئيسا للإقليم عام 2005م واصبح السيد جلال الطالباني اول رئيس كردي لجمهورية العراق مع اشغال الاكراد للعديد من الوزارات ومنها سيادية وكذلك العشرات من مقاعد البرلمان العراقي واصبح للاقليم حصته من ميزانية الدولة المركزية بالاضافة الى الكمارك وواردات النفط المكتشف في الاقليم. ولكن ظلت مشكلة كركوك والمناطق المتنازع عليها عالقة حبث تم الاتفاق على اجراء استفتاء حسب المادة 140 من الدستور، وبدأ الإقليم في تصدير النفط الخام بمعدل 90 إلى 100 ألف برميل يوميا من المناطق المكتشفة حديثا فيه وعندما اجتاح تنظيم “داعش” شمالي وغربي العراق عام 2014م فرضت القوات الكردية سيطرتها على مدينة كركوك الغنية بالنفط وحولت مسار الأنابيب النفطية إلى داخل إقليم كردستان وباشرت بالتصدير بدون موافقة بغداد ليصل إلى 500-600 ألف برميل يوميا ، وسبب هذا خلافات حادة مع الحكومة المركزية.

اتهم البارزاني مع عائلته من قبل الجماعات الكردية الاخرى بالسيطرة على كل المشاريع والمنشأت وجمع ثروات هائلة، وعندما بدا التقشف والمماطلة بدفع الرواتب بدا ابناء كردستان بالسؤال عن واردات النفط والموازنه السنويه والكشوفات والسجلات الخاصه ببيع النفط حيث فقدت الجماهير ثقتها بقيادنها، وفي خضم هذه الفوضى دعا مسعود البارزاني الى الاستفتاء على استقلال كردستان بعد ان اعلن عنه عام 2014م وتاجل بسبب داعش. وجاءت دعوته ببرلمان معطل ودون ان يحصل الموافقة من مراكزالقوة وخصوصا من حليفه أردوغان وحليف الطالبانيين ملالي ايران وقبل ان يوحد الصف  الكردي، وكان جلال الطالباني قد علق في احدى لقائاته السابقة على موضوع الانفصال قائلا لدينا كل ما تملكه اية دولة مستقلة فلماذا الاصرار على الانفصال في هذه الظروف ؟ ولكنة قبل بالاستفتاء قبل وفاتة بمدة قصيرة ولعلة لم يود ان يكون عائقا امام الحلم الكردي.

 بعد الاستفتاء مباشرة قررت الحكومة المركزية استعادة كركوك، وسيطرة عليها بدون مقاومة بعد ان اعطيت الاوامر للبيشمركة من قادتهم بالانسحاب وصرح قياديون شباب في الاتحاد الوطني بانهم ليسوا مستعدين للتضحية بالاف الارواح من البيشمركة من اجل ديمومة مسعود البارزاني الذي اتهموه بالاستحواذ على اموال النفط، ولاحقا انسحبت قوات البيشمركة من مناطق سيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني الباقية ورجع الاكراد الى حدودهم القديمة واتهم كل جانب الاخر بالخيانة وضاع حلم الاكراد على الاقل في الوقت الحالي.

صرحت آلاء الطالباني رئيسة كتلة الاتحاد الوطني الكردستاني في مجلس النواب العراقي ، بان الراحل جلال الطالباني كان يؤكد مرارا في دوائره الخاصة بان المصالح الشخصية قبل كل شيء كانت محل اهتمام مسعود البارزاني ولم يكن لكردستان ومصالح الأمة الكردية مكان في تفكيره، وان البارزاني يستخدم الشعب الكردي لخدمة مصالحه. وحسب تصريح لزوجة الطالباني، فان مام جلال كان يشعر بالقلق من أن يعرض البارزاني الشعب الكردي لخسائر فادحة.

وقف العدو والصديق ضد موضوع الاستفتاء ما عدا بعض الاسثناءات المكشوفة والمستورة، ولكن موقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان الابرز من بين الجماعة المعارضة للاستفتاء. فلماذا هذا الموقف العدائي من عراب كاكا مسعود ضد حليف الامس؟ الم يكن أردوغان هو من شجع الاكراد لبناء كيان مستقل عن المركز وساعدهم على تطوير وتقوية كيانهم ضد الحكومة المركزية؟ الم ينقل النفط عبر اراضيه بالرغم من علمه اليقين بعدم شرعية ذلك من دون موافقة بغداد؟ الم تغزوا شركاته الاقليم وتستحوذ على مشاريع البناء والمشاريع الخدمية وتسيطر على تجارة المنطقة ؟ فحسب المصادر التركية كانت صادرات تركيا عبر معبر (ابراهيم الخليل) اكثر من 10 مليارات دولار في كانون الثاني 2014م.  الم ياتي بقواته الى بعشيقة في العراق بطلب من كاكا مسعود تحت ذريعة التدريب ويتمركز هناك رافضا الانسحاب، فلماذا هذا الاتقلاب؟

لا شك في ان  أردوغان خائف من اية تطورات سياسية في المنطقة واي تغيير لخارطتها، فالرجل يعيش حالة خوف من المؤامرات الخارجية التي يعتقد بانها تحاك ضد بلده وضده شخصيا ولقد سارع الى شجب استفتاء الانفصال الذي أجري في إقليم كردستان العراق بقوة، واصفا إياه بأنه عمل من أعمال الخيانة. وقال إن الدفع إلى استفتاء الانفصال فيه مخاطرة بجر المنطقة إلى الحرب، وهدد باتخاذ إجراءات عقابية ضد حليف الامس. فاردوغان خائف من ظهور دولة كردية مستقلة على حىودة لانها ستشجع اتراك تركيا لاتخاذ نفس الخطوة وهو الذي يحاربهم ويدمر قراهم وبلداتهم كل يوم، وكان ولا يزال خائفا من التواصل بين اكراد سوريا والعراق معتقدا بان الغرب وخصوصا امريكا تريد خلق كيان كردي على طول حدود تركيا الجنوبية ومن هنا الحالة الهستيرية التي يعيشها. ولقد اتهم أردوغان حليفه السابق مسعود البارزاني بالخيانة لمضيه قدما في إجراء الاستفتاء على الانفصالواعلن بانه باطل وهدد بإغلاق انبوب النفط  وايقاف التجارة مع الاقليم، علما بان تركيا لم توقف ضخ النفط وكذلك عبور البضائع التركية الى الاقليم يوما واحدا، فتصدير النفط عبر تركيا يدر اموال طائلة على البلد، ويعتمد اقتصادها في المنطقة الشرقية على صادراتها الى كردستان. وفي كلمته في حفل تخرج دفعة جديدة من أكاديمية الشرطة في أنقرة، أعتبر اردوغان ان “إدارة منطقة كردستان العراق ألقت نفسها في النار من خلال خطوة الاستفتاء”، مشددا على أن بلاده لن تقف مكتوفة الأيدي، واضاف “سنوقف الفتنة في العراق كما أوقفناها في سوريا”.وشدد على أن انفصال المنطقة “مغامرة ولابد أن تنتهي بخيبة أمل”. فالرجل في حالة شك وخوف وحذرمن المؤامرات الدولية . وفي تحول دراماتيكي استقبل أردوغان رئيس الوزراء العراقي الدكتور حيدر العبادي والذي قال عنة قبل مدة بانة ليس يمستواه  ليرد على تصريحاته بشان معسكر بعشيقة، وتم الاتفاق على الدعم الكامل لبغداد على حساب حلفاء الامس. مع العلم ان أردوغان، الحليف الجديد لحكومة بغداد لا زال يحتفظ بقواته في بعشيقة ويعتبرنفسه  حامي الاقلية التركمانية في العراق ولم يخفي يوما طموحاته في الموصل؟

بعد ان ضمنت بغداد التاييد الكامل لموقفها او بالاحرى التقت مصالحها مع الاخرين وخصوصا تركيا في موضوع الاستفتاء بدات ترفع سقف مطالبها من كردستان، فبالاضافة الى العودة الى خطوط ما قبل 2003 طالبت بغداد بتسليم المنافذ الحدودية والمطارات والسيطرة التامة على انتاج النفط وتصديره وجباية الكمارك وارتباط البيشمركة بالحكومة المركزية والغاء الاستفتاء وليس تجميده وفرض هيبة الدولة بالاضافة الى شروط اخرى اتت في سياق تصريحات المسؤولين العراقيين. مثل اقالة مسعود البارزاني والغاء المادة 140 . وازاء هذا الموقف لم يبقى امام كاكا مسعود الا الاستقالة.

ويبقى هنا سؤال افتراضي (هل سيقبل الاتراك بدولة كردية مستقلة على حدودهم ان اتت عبر الاتفاق السلمي مع  الحكومة المركزية في بغداد وبموافقتها ورضاها)؟

ان المتابع لتاريخ الاتراك يدرك الجواب جيدا، فالى متى ستبقى شعوب المنطقة تصدق بالكلام المعسول لال عثمان؟ الم يحتل العثمانيون البلاد العربية لعدة قرون ويغرقوها في الظلام ويحاولون الان بناء امجادهم على حساب البلاد العربية؟ وهل نسي الاكراد كيف الغى كمال اتاتورك هويتهم القومية وقضى بوحشية على حركاتهم التحررية؟ وهل يمكن للاكراد ان ينسوا ماذا فعل ويفعل أردوغان من قتل وتدمير في قراهم ومدنهم في شرق تركيا؟

ان الحل لا يكمن عند أردوغان، وانما كما صرح به السياسي والقيادي الكردي اللامع الدكتور برهم صالح  “يكمن بالتفاهم بين الاخوة ابناء البلد الواحد وفي بغداد بالذات وليس في طهران او انقرة او واشنطن”.

المهندس هامبرسوم أغباشيان

لوس انجلوس- كاليفورنياتشرين الاول 2017

خاص لأزتاك العربي للشؤون الأرمنية

Share This