مذبحة الأرمن في رأس العين

رأس العين بلدة قديمة شهيرة على ضفاف الخابور كانت في حوزة ملوك الروم ثم ملكها عرب ربيعة سكانها النمر بن قاسط وفي اواسط القرن السابع دخلها المسلمون وامتلكوها وكانت اسواق النصرانية رائجة فيها واشتهر فيها من السريان عدة مطارين اما في أيامنا فتغلب عليها الجركس ولم يكن بها من النصارى في هذه الأثناء سوى جماعة معدودة.

على أن البارون مكس ابناهيم الالماني قصدها قبل الحرب واكتشف فيها على عتائق شتى من حجار ودمى. وكان البارون المشار اليه يوم اعلان الحرب الطاحنة ضيفاً لدى السيد اغناطيوس مالويان فأَعزه جداً واطلعه على فوائد كثيرة منوطة بأخبار ما بين النهرين واليك ما جرى في تلك الناحية اثناء النازلة الجائحة.

عرفت ايها العزيز مما قدمنا أن حكومة ماردين ودياربكر ساقت النساء الى رأس العين فحلب فبلاد سوريا ولبث من المسيحيين في تلك البلدة زهاء مائة من الرجال والنساء والاولاد وكان القائم مقام طيب الاخلاق مفطوراً على الرقة واللطف والرفق فأحسن معاملتهم والقى القبض على ثلاثة من الجراكسة الظلمة وبالغ في ضربهم حتى فزّت الدماء من يديهم وقدميهم واخيراً سرحهم وحرج عليهم التعدي على المسيحيين.

ولما كان ايلول 1915 بدأت تتوارد القوافل من سيواس وغيرها فوصل اولاً الى رأس العين في سلخ ايلول زهاء الف وخمسمائة من الأرمن عراة حفاة وكانوا لمزيد سغبهم ولغبهم يصرخون الماء لا غير. ولما بلغوا الى النهر لائبين شربوا بغزارة فمات منهم نحو مائتي نسمة. وفي الغد استلمهم عسكر دير الزور واستاقوهم في شتم وقدح وضرب ولطم فقتلوهم باجمعهم واستولوا على ما عندهم.

ومذ ذاك كان النصارى يتوافدون قوافل قوافل في القطار الحديدي من ازمير وقونيه وانقره ودرتيول ومرعش وعينتاب ومرسين والزيتونه وغيرها  وبلغ مجموعهم نيفاً وسبعين ألف نسمة في قسانهم واولادهم ونسائهم ومتاعهم ونصبوا لهم خيماً في ضواحي رأس العين كانهم يتوطنون بها. وما مضى عليهم اسبوعان حتى ساقوا منهم اربع قوافل كبيرة اثنتين الى نواحي دير الزور واثنتين الى نواحي الموصل فوصلوا الى المحلين سالمين واوفدوا رسائل الاطمئنان الى ذويهم المتبقين برأس العين.

وفي أواخر كانون الثاني 1916 عزل هذا القائم مقام الطيب الذكر ونصب بدله متصرف وقائم مقام اسمه رفيع بك وكانا كلاهما جركسيين فاستقبلهما جراكسة رأس العين احسن استقبال وقدموا لهما الاكرام وخلعوا عليهما الخلع. ولم يمرّ شهر حتى اصدار الاوامر في سوق جميع الأرمن من دون كسوة ولا قوت دع الاثقال والامتعة فقصدهما وجهاء الأرمن واستوضحوهما عن السبب فقال لهم القائم مقام. إنّي ما حضرت الى رأس العين إلا لكي اشخصكم الى اوطانكم. فاستعدوا للرحيل فاطمأنت افكار الأرمن وانقلبوا يهيئون اللوازم للسفر.

وفي أوائل اذار 1916 استدعى القائم مقام ثلاثين من الجراكسة الاشرار القساة يرأسهم حسين بك وسار بهم الى منازل الأرمن فاحاطوا بخمسين خيمة وامروا سكانها بالتأهب للرحيل من دون شيء فنهضوا من فورهم صاغرين فاستاقوهم الى الخابور وجعلوا يضربونهم بالعصي ويكفخونهم ويلطمونهم حتى وصلوا بهم الى الجرجب وهناك ذبحوهم عن اخرهم واحتووا على ذهبهم وثيابهم وانقلبوا راجعين الى تلك الخيم فجمعوا الاسلاب وساروا بها إلى السفح واذاعوا الى مسامع النصارى المتبقين انهم يوصلونها الى اصحابها.

وبعد خمسة أيام افرزوا من الأرمن خمسين خيمة اخرى واستاقوا كل من كان فيها الى الجرجب وافتعلوا بهم ما افتعلوا بالسابقين. وواصلوا ذلك العمل اسبوعاً فاسبوعاً حتى قتلوهم عن بكرة أبيهم وأخذوا جميع نقودهم وذهبهم وامتعتهم وحمّلوها الى السفح وجعلوها كلها في غرفة احكموا اغلاقها وانقلبوا.

ولم يبق من أولئك السبعين الفاً سوى اشخاص مشردين فرّوا من أنياب الجراكسة. فأمر القائم مقام أن ينادي المنادي. أن من اسلم سلم ومن لم يسلم قتل ولم تكن حضرته الشريفة تأذن في ذلك إلا لنفر فنفر حتى اذا حذق اصول المذهب الاسلامي وبرع فيه اسلم غيره نظيره.

وكان متصرف دير الزور قد ارسل في تلك الاثناء زهاء مائة بيت الى رأس العين وفوض اليهم أن يشيدوا بيوتاً يئوونها. ولما اقبلوا باشروا في البناء واكملوه حتى السقف وامسوا ينتظرون الخشب لانجاز العمل. فهؤلاء لما سمعوا المنادي يعرض عليهم الاسلامية كتبوا الى القائم مقام واعلنوا انهم يريدون الانضمام الى ذلك المذهب فقال لهم: إني عارف انكم مسلمون نظيرنا فلا حاجة الى عرض حال ولا استدعاء. وها إني باعث في استحضار احمد افندي كاتب النفوس ليحرر اسماءكم. فمن كان في السن الجندية اضيف الى رفقته. اما الباقون فيسرّحون ليفلحوا ويواصلوا شغلهم بحريتهم.

غير انه صباح عيد القيامة 1916 وثب بهم الجنود والجراكسة معاً واوثقوهم بالحبال واستاقوهم الى الجرجب الصغير فافرزوا الرجال من النساء والفتيان وجعلوا يأخذون خمسة فخمسة يفتشونهم ثم يسلمونهم الى العرب المنتظرين بالوادي القريب فيستلبون ما بقى ويقتلونهم. ولما انهوا قتل الرجال نشموا في تعرية النساء والاطفال وتفتيشهم ثم دفعوهم الى العرب فذبحوهم واستبقوا غير واحدة من الحسان. ولم ينج من اولئك المظلومين إلا ابن بنت يعقوب كشيش الهاجني. هذا انهزم الى الجرجب الكبير واخبر عما جرى لاصحابه واستتلى يقول: إن الجراكسة احتووا على ذهب كثير وامتعة وافرة ثمينة. وفي الحق اليقين أن القائم مقام وحده بلغت حصته اكثر من اربعين الف ليرة. على أن الخواتم والسلاسل الفضية والذهبية وما شاكلها من الحلي وزعت بينه وبين الجراكسة بالطسات وبما أن التوزيع كان يصير غالباً تحت الليل كان الجراكسة الختارون لشديد صلابة قلبهم وتوحشهم ينتقون فتى سميناً ويمضون به الى مخزن الذهب والامتعة فيحرقونه بدل المصباح ويقتسمون على ضوّه بالغنائم تفادياً من الكلفة والمصرف. افتح ياصاح افتح اذنيك واصغ ثم قل لعنة الله على كل كفور يطغو.

ولم يبق في رأس العين سوى عشرين بيتاً من الأرمن من ارباب الصنائع. وأفلت من القتل واصف افندي الأرمني مأمور التبغ فإنه استحصل وثيقه بأسم سرياني يعقوبي فابقى رجال الحكومة عليه وعلى عياله حتى تشرين 1918 فسافر الى بغداد.

وفي اول ايار 1916 وفدت الاوامر من العاصمة في سوق الأرمن المتبقين وقتلهم فالقوا عليهم القبض واوثقوهم واوثقوا معهم عبد الجليل برغوث المارديني وحشروهم في الدور التي شادوها ثلاثة ايام فاستفرص عبد الجليل الفرصة وفرّ منهزماً فتتبعه قوم من الجنود والجركس والعرب واطلقوا عليه البنادق ولما ادركوه انزلوا به وجيع الضرب حتى أُغمي عليه ثم حملوه الى المحل السابق واضافوه الى اصحابه واقاموا لحراسته جندياً خصوصياً. غير أن رشيد الديري اقبل عند الغروب واستدعاه وقال له اذهب في سبيلك فشكر له عبد الجليل وعاد الى بيته. وسحر الغد استاقوا اولئك الأرمن برمتهم وعروهم وقتلوهم واستولوا على ماكان عندهم واستراحوا.

 

المصدر: من فصل (القصارى في نكبات النصارى، للعلامة الأب اسحق أرملة السرياني، الطبعة الأولى- 1919) الجزء الثالث، الفصل السادس (9).

مقتطف من كتاب “شهود عيان عن الإبادة الأرمنية في الإمبراطورية العثمانية (مجموعة وثائق تاريخية)، إعداد وإشراف ودراسة: البروفيسور الدكتور آرشاك بولاديان، دمشق-2014، حيث ينفرد موقع “أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر مقتطفات منه.

Share This