الأرمن خلال الحرب العظمى شهادة فريديوف نانسن (1)

 

عند اندلاع الحرب العظمى، عقد الأرمن في أواخر تموز 1914 مؤتمراً في أرضروم، بحثوا فيه موقفهم في حال نشوب الحرب، نظراً لأن بلادهم منقسمة إلى شطرين، ثم جاء أعضاء من جمعية الاتحاد والترقي إلى المؤتمر، وأعلنوا أن حكومتهم تزمع الاشتراك في الحرب ضد روسيا، وقدموا عهوداً براقة بمنح الأرمن استقلالهم الذاتي في المستقبل، إذا ما ثاروا ضد الروس. إلا أن الأرمن رفضوا هذا الطلب، وعبروا عن معارضتهم دخول تركيا في الحرب، على الرغم من أنهم وعدوا، بأنهم سيؤدون واجبهم في حال نشوب الحرب.

وثارت ثائرة الزعماء الاتحاديين، ووضعوا خططاً لإبادة الأرمن شيئاً فشيئاً، وفي رسالة مؤرخة في 18 شباط 1915 بعث بها أحد أعضاء اللجنة المركزية لجمعية الاتحاد والترقي إلى جمال بك (جمال باشا بعد ذلك) في أضنة (كيليكيا)- الذي كان طاغية في سورية أثناء الحرب- تمت كتابتها “بأمر من سلطات مسؤولة “تعلن” أن اللجنة المركزية، قد قررت تحرير أرض الآباء والأجداد من طغيان هذا الشعب اللعين، وأن تحمل على عاتقها الوطني العار الذي ستجلبه هذه الخطوة على تاريخ العثمانيين.. فإن الجمعية قررت إبادة جميع الأرمن القاطنين في تركيا من دون استثناء، لذلك فقد منحت الحكومة من أجل تنفيذ ذلك سلطات مطلقة، وستصدر الحكومة تعليماتها للولاة وقادة الجيش بشأن الترتيبات المزمع اتخاذها”.

واتخذت إجراءات محكمة لتطبيق هذه الخطة، فقد أرسلت قوة من رجال الدرك التي تعرف بكراهيتها الشديدة للمسيحيين، إلى منطقة شرق الأناضول لتفتيش بيوتهم، وتم إلقاء القبض على عدد من وجهاء الأرمن واستجوابهم تحت التعذيب لإرغامهم على البوح عن أماكن مخابىء الأسلحة وأعمال التجسس، كما تم تجنيد عصابات من المجرمين وقطاع الطرق الذين أطلقوا من السجون ومن أماكن أخرى، وجرى تنظيمهم تحت قيادة الاتحاديين، أما الأتراك الذين لم يتم استدعاؤهم للخدمة العسكرية، فقد تم تنظيمهم في صفوف الميليشيا ووزعت عليهم الأسلحة- باستثناء المسيحيين، أما الأكراد الذين شعروا بالضيق نتيجة جهود الاتحاديين في تطبيق النظام والقانون، الأمر الذي حدَّ كثيراً من أعمال السلب التي كانوا يقومون بها، فقد هدَأت الحكومة من روعهم بنشرها أفكاراً مفادها أن السلطان الجديد لن يدافع عن الكفار.

وفي 21 تشرين الثاني 1914، أعلن الاتحاديون الذين لايمتون إلى الدين بصلة “الجهاد المقدس” الذي يحتم على كل مؤمن قتل الكفار الذين كانوا يرفضون اعتناق الإسلام، ويبدو أن هذه الخطوة كانت قد اتخذت بطلب من ألمانيا التي كانت تأمل إثارة مسلمي الهند وإفريقيا ضد حكامهم المسيحيين، إلا أن ذلك ساعد في اضطرام حقد الأتراك على المسيحيين في الأناضول، وتم استدعاء جميع الرجال المسيحيين الذين تتراوح أعمارهم بين العشرين والثالثة والأربعين، ومن ثم بين الثامنة عشرة والثامنة والأربعين إلى الخدمة العسكرية، رغم أن سن الاستدعاء، كان تحت السابعة والعشرين، وأرغم القادرون على العمل كحيوانات، ويقال إنه مات بين موش وأرضروم وحدهما ما يقارب من ثلاثة آلاف شخص وهم ينؤون تحت أثقالهم.

ولقد وردت روايات عديدة عن أعمال اضطهاد الأتراك للأرمن وإبادتهم في كل من آسيا الصغرى وسورية وبلاد ما بين النهرين، خلال الحرب العظمى من عدد من شهود عيان– من أعضاء من الإرساليات التبشيرية الأمريكية والألمانية والسويسرية والدنماركية، ومن منظمات وهيئات أخرى في تلك المنطقة، وأهم من ذلك من قناصل وضباط ألمان في آسيا الصغرى والسفراء الألمان، وقد جمع هذه الروايات والوثائق صديق الأرمن المعروف د. يوهانس ليبسيوس ونشرها في بوتسدام في كتابه بعنوان: “ألمانيا وأرمينيا 1914-1918”.

والرواية التالية تعتمد اعتماداً كبيراً على هذه الوثائق التي يمكن اعتبارها موثوقة تماماً، إذ لم يشأ المسؤولون الألمان تلطيخ صفحة حلفائهم الأتراك، وليس ثمة مبرر يدعوهم إلى تصوير الأرمن بأنهم أفضل مما هم عليه.

لقد تركزت أعمال اضطهاد الشعب الأرمني في البداية في منطقة زيتون في كيليكيا التي بقيت محافظة على استقلالها النسبي، ولم تتعرض لمجازر عبد الحميد، وتحت ذريعة إلقاء القبض على عصابة من اللصوص في المنطقة المجاورة التي انضم إليها عدد من الفارين من الجيش، أرسلت الحكومة قوة عسكرية إلى زيتون في آذار 1915، قوامها أربعة آلاف عسكري، وجرى ترحيل جميع السكان الأرمن الذين يتراوح عددهم بين عشرة وعشرين ألف نسمة إلى منطقة المستنقعات في إقليم قونية، وإلى الصحراء العربية في منطقة دير الزور قرب نهر الفرات. كما تمَّ ترحيل الرجال من قرية دورت يول على ساحل كيليكيا- الذين تمكنوا بنجاح الدفاع عن أنفسهم خلال مجازر 1909، إلى حلب للقيام بأعمال السخرة على الطرق، بذريعة وجود أعمال تجسس في المدينة التي كانت في جميع الأحوال ذات أهمية ضئيلة، وكان على سكان قرية السويدية كذلك، الذين تمكنوا أيضا من النجاة من مجازر 1909، أن يلاقوا المصير نفسه. إلا أنهم هربوا إلى منطقة صخرية على الشاطئ، حيث تمكنوا من الدفاع عن أنفسهم لعدة أسابيع مستخدمين أسلحة قديمة (بل كانوا يستخدمون بنادق الزناد التي تعمل بحجر القداح) ضد قوة كبيرة من الأتراك تفوقهم عدة وعدداً، حتى تمكنت سفينة فرنسية من إنقاذهم، ويقدر عددهم بـ /4058/ رجلاً وامرأة وطفلاً. وفي شرق الأناضول، عومل الأرمن معاملة فظة، وطردوا، وكان معظمهم من النساء والأطفال، لأن الرجال كانوا قد استدعوا إلى الخدمة العسكرية- وكان البؤس الذي أصاب هؤلاء الناس المشردين رهيباً.

ثم جاء ما يدعى بثورة “وان” التي حاول الأتراك استغلالها كإثبات قاطع على خيانة الأرمن، وقد تمكن المبشرون الأمريكيون والألمان الذين شهدوها من إرسال روايات صحيحة عما حدث في حقيقة الأمر، ففي شباط 1915 أعلن جودت بك، صهر أنور الذي كان والياً على وان في أحد اجتماعات الأتراك: “لقد طهرنا أذربيجان من الأرمن والسريان، ويجب علينا أن نطهر الآن وان من الأرمن”. وتحت ذريعة تقديم المؤن للجيش، تم نهب الأرمن بشكل فاضح جداً، فقد سرق الأكراد ورجال الدرك الفلاحين مستخدمين العنف والبطش، وبعد حدوث بعض القلاقل التي اشترك فيها بعض رجال الدرك في قرية تدعى شاطاخ في 14 نيسان، طلب جودت بك من أحد زعماء الأرمن مع ثلاثة آخرين تحت ستار الصداقة، الذهاب إلى تلك القرية لتهدئة سكانها، إلا أنهم قتلوا بينما كانوا نائمين، وفي الوقت نفسه (16 نيسان) دعا زعيماً آخر من زعماء الأرمن للحضور إليه، وعندما مثل أمامه زجه في السجن ثم أطلق سراحه وقتله على الطريق، وفي اليوم التالي بدأ يتخذ استعداداته لمهاجمة أحياء مدينة، وان في وقت تزامن مع بدء المجازر في أرجيش والقرى الواقعة في سهل هايوتس تسور (وادي الأرمن)، ومن أجل حماية نسائهم وأطفالهم، حصن الأرمن أنفسهم في أحياء مدينة وان، وأصدر الوالي أمراً يقضي بتسليم هؤلاء الرجال، لذا رفضوا الامتثال لهذا الأمر، وعرضوا تقديم أربعمئة رجل فقط، وإعفاء الباقي لقاء دفع بدل إعفاء، إلا أن الوالي رفض الموافقة على هذا الطلب.

وفي صبيحة 20 نيسان، حاول عدد من الجنود الأتراك اغتصاب امرأة أرمنية، وعندما قام عدد من الجنود الأرمن بإنقاذها من بين أيديهم أطلق الأتراك الرصاص عليهم وقتلوهم، وكان المبشَر السويسري الهير سبوري (HERR Sporri) وهو عضو ضمن لجنة المبشرين الألمان شاهد عيان على هذه الحادثة، ونتيجة لذلك بدأ إطلاق النار، وبدأ الأتراك بقصف الجزء الأرمني من المدينة، واكتسحوها بنيران البنادق، ودافع الأرمن عن أنفسهم، إذ كان لديهم بعض البنادق ولكن لم يكن بحوزتهم كثير من الذخيرة، لذا كان عليهم استخدامها بحرص شديد، على حين شجعوا الأتراك على إطلاق نيرانهم بغزارة، وقد تمكنوا من صنع ثلاثة آلاف خرطوشة في اليوم، بالإضافة إلى صناعة البارود ومدفعي هاون، وفي غضون ذلك، اقتحم الجنود الأتراك والأكراد المناطق الريفية المجاورة، وقتلوا الرجال والنساء، ومثلوا بهم، وأحرقوا منازلهم، ولم تكن بعض القرى مستعدة، على حين تمكن بعضها الآخر من الدفاع عن نفسها. وقد اندفع اللاجئون والجرحى إلى مراكز الإرساليات التبشيرية في وان، حتى غصَّت بهم.

واستمر الحصار والقصف أربعة أسابيع حتى 16 أيار، ثم توقف فجأة، وانسحب جودت بك مع قواته، وتبين فيما بعد أن الجيش الروسي، كان يزحف نحو المدينة، من دون علم الأرمن، ووصلت جحافل في 18 أيار، من دون أن يعرفوا ما كان يحدث، كما لم يكن الأرمن على اتصال بهم.

واستناداً إلى حسابات الأرمن، فقد قصف الأتراك المدينة باثنتي عشرة ألف قذيفة، إلا أنها لم تلحق أضراراً كبيرة، وقتل ثمانية عشر أرمنياً، وجرح عدد كبير منهم، وكان عدد قتلى الأتراك مماثلاً لذلك، وعندما انسحب الجيش الروسي بعد فترة وجيزة (31 تموز) باتجاه الشمال، لاذ جميع السكان الأرمن بالفرار من مقاطعة وان البالغ عددهم 200,000 نسمة تقريباً إلى أرمينيا الروسية.

وتم عرض محاولة الأرمن هذه للدفاع عن أنفسهم في وان ضد الهجوم التركي بصورة مغايرة للواقع، عندما بعث أنور باشا والحكومة التركية إلى برلين بياناً، انتشر منها إلى بقية العالم، حيث صورت فيه: أن عصابات المتمردين الأرمن، انقضوا على السكان الأتراك في مؤخرة الجيش التركي. وأنه من بين 180,000 مسلم، يعيشون في مقاطعة وان، تمكن 30,000 فقط من الهرب، وفي تقرير صدر لاحقاً عن السفارة التركية في برلين بتاريخ 1 تشرين الأول 1915، تم تشويه الحقيقة وتزييفها بشكل أكبر إذ ذكر “أنه قتل ما لا يقل عن 180,000 تركي مسلم”، وليس من المستغرب أن يقوم الأتراك بالانتقام، فقد أصبح الثمانية عشر قتيلاً تركياً مئة وثمانين ألف قتيل، ولهذه الكذبة الخسيسة شيء من الأساس، إذ إنه وفق الإحصائيات، يجب أن يكون هناك 180,000 مسلم من بينهم 30,000 تركي و150,000 كردي في إقليم وان، وقد هرب الأتراك باتجاه الغرب، عندما تقدم الجيش الروسي، على حين بقي الـ 150,000 كردي في أرضهم، ولم يمسهم الروس والأرمن بسوء.

إن القصة بكاملها تعطي مثالاً نموذجياً عن الطريقة التي عامل فيها الأتراك الأرمن، وحاولوا الادعاء، بأن الأرمن كانوا متمردين وخونة، وقد قدمت حكومة الاتحاديين إثباتات أخرى لتبرير هجومها تحمل الطابع ذاته. إذ تظهر تقارير القناصل الألمان في آسيا الصغرى والسفراء في القسطنطينية بجلاء تام أنه لا يوجد أي دليل يثبت خيانة الأرمن، وأنه لم تكن لديهم أي خطط للعصيان أو الثورة. والعصيان أمر خارج عن نطاق البحث، لأنه لم يكن لديهم سلاح، بالإضافة إلى أن معظم الرجال، كانوا قد استدعوا للخدمة العسكرية.

وبعد بضعة أيام من المحاولة الجريئة التي قام بها أرمن وان بالدفاع عن أنفسهم ضد مجازر الأتراك، أصدر طلعت بك وزير الداخلية فجأة أمراً بإلقاء القبض على جميع زعماء الأرمن في القسطنطينية في عشية 25 نيسان، واعتُقل النواب والأساتذة والكتاب والأطباء والمحامون ومحررو الصحف ورجال الدين. وفي الليلة التالية جرت عمليات اعتقال أخرى، وتم ترحيل ما يقارب من 600 شخص إلى آسيا الصغرى من دون محاكمة أو تحقيق، وأعلن طلعت أن هذا إجراء احترازي مؤقت- إذ يمكن أن يشكل بعضهم خطراً على الحكومة- ووعد بإطلاق سراح معظمهم بسرعة، وعاد ثمانية منهم فقط، بعد أن كابدوا مشقات شديدة، على حين اختفى الباقون، وبهذه الطريقة استبعد جميع القادرين على الدفاع عن قضية الأرمن.

ثم أخذ الأتراك ينفذون خطتهم في الإبادة الجماعية التي اعتبروها فكرة رائعة “إجراء عسكري ضروري”، كما رحَلوا جميع العناصرغير الموثوق بها من منطقة الجبهة المجاورة، على غرار عمليات الترحيل التي أجراها الألمان في بلجيكا وفرنسا، وقد شرح أنور باشا إلى البارون فانغنهايم سفير ألمانيا في القسطنطينية خطته التي تدعو إلى تهجير “جميع العائلات غير الموثوق بها من مراكز انتفاضات الأرمن”، وأرسل السفير برقية في 31 أيار 1915 إلى برلين عرض فيها الخطة حيث قال: “يطلب منا أنور بشدة ألا نمنعه من القيام بذلك.. إذ سيترتب على هذه الإجراءات مشاق جسيمة على الشعب الأرمني، وإني أرى أن نهدّئ من حدة ممارستها مع أننا لا نستطيع منعها من حيث المبدأ…”.

وكان لا يزال يصدق المزاعم التركية بوجود اضطرابات خيانية للأرمن، تدعمها روسيا والتي “تهدَد” وجود تركيا بالذات، ولم يكتشف أن هذه الإدانات، ليس لها أساس من الصحة، إلاَ بعد مرور فترة من الزمن.

*شهادة فريديوف نانسن، من كتابه أرمينيا والشرق الأدنى .

المصدر:  مختارات من بعض الكتابات التاريخية حول إبادة الأرمن عام 1915، ترجمة: خالد الجبيلي، اللاذقية – 1995. مقتطف من كتاب (شهادات غربية عن الإبادة الارمنية في الإمبراطورية العثمانية)، إعداد ومراجعة ودراسة: البروفيسور-الدكتور آرشاك بولاديان، دمشق – 2016 ( (2)

Share This