شهادة فريديوف نانسن (2)

وفي حزيران 1915 بدأت الأهوال التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ، فقد سيق جميع الأرمن من كيليكيا والأناضول وبلاد ما بين النهرين إلى مسيرة الموت، وتم تنفيذ العمل بشكل منظم، وجرى الإخلاء تدريجياً منطقة إثر منطقة، سواء في المناطق القريبة من ساحات القتال، أم التي تبعد مئات الكيلو مترات عنها، وجرت عمليات إخلاء تامة للأرمن، ونظراً لأن معظم الرجال، كانوا قد سيقوا للقيام بأعمال السخرة في الحرب، فكان الأمر يتعلق بصورة رئيسية بطرد النساء والأطفال والمسنين العاجزين من بيوتهم. وقد تمَّ منحهم مهلة تراوحت بين بضع ساعات وبضعة أيام. وقد أرغموا على ترك جميع ممتلكاتهم: منازلهم، حقولهم، محاصيلهم، قطعانهم، أثاثهم، معداتهم، وأدواتهم، وقد صادرت السلطات التركية كل شيء، أما الأشياء التي يمكن حملها كالنقود والمجوهرات والأشياء الثمينة الأخرى، والثياب، فقد سلبهم إياها رجال الدرك، وإذا سمح لأحدهم بأخذ عربته وحيوانات الجر التي يملكها، فكان الدرك يصادرونها على الطريق، وتمَّ جمع هؤلاء المساكين من قرى مختلفة، وساروا في طوابير طويلة عبر الجبال حتى سهوب الصحراء العربية، ولم تقدم لتلك الأرواح التعيسة التي كانت تتضور جوعاً أي طعام، كما لم يبذل أي جهد لإبقائهم على قيد الحياة أثناء رحلة المسير هذه، وكان رأي الحكام الأتراك أن الذين لم يموتوا، أو يقتلوا، فسيلاقون حتفهم تضوراً من الجوع أثناء الطريق.

وما إن بدأت الطوابير بالانطلاق، حتى انقلبت لا مبالاة الحراس إلى شراسة، فقد أخذوا يجمعون الصبية جانباً ثم يقتلونهم، وساقوا النساء والأطفال والمسنين، وهم يكابدون الآلام والمعاناة من الجوع والعطش، وكان الطعام إن وجد قليلاً ونتناً، أما الذين لم يتمكنوا من اللحاق بالطوابير فكان الدرك يضربونهم بالسياط ضرباً مبرحاً حتى درجة الانهيار أو الموت، وأخذ عدد أفراد الطوابير يقل شيئاً فشيئاً نتيجة الموت جوعاً وعطشاً، ومن الإصابة بالمرض والقتل.

أما النساء والفتيات فقد تعرضن للاغتصاب، أو كنَّ يُبعنَ في المزاد. وكانت الفتاة العذراء تباع بعشرين قرشاً، والثيب أو الأرملة بخمسة قروش، وفي معظم الأحيان، كانت عصابات قطاع الطرق الجتا تنقض على الطوابير، فتسرقها، وتعاملها بوحشية، وتقتلها، وتغتصب نساءها.

وقال أحد شهود عيان الأجانب: “إن هذه الطوابير ما هي إلا نموذج راقٍ للقتل” إلا أنها في الحقيقة، كانت أسوأ وأقل رحمةً من القتل، فبدل الموت الفوري، أرغمت تلك الضحايا على تكبد جميع أنواع المعاناة البشرية، على حين تم وضع هذا المخطط الهمجي لتحافظ الحكومة على ماء وجهها بأنه “إجراء عسكري ضروري” ومن حزيران حتى آب 1915، وهي أكثر فترات السنة قيظاً وجفافاً، انطلقت مواكب الموت هذه إلى رحلة اللانهاية من جميع الأقاليم والمدن التي فيها الأرمن متجهة إلى الجنوب صوب الصحراء. ومن الغريب أن القسطنطينية وإزمير وحلب استثنيت من هذه المجازر- ويعود ذلك بلا ريب إلى وجود أعداد كبيرة من الأوروبيين الذين يمكن أن ينقلوا حقيقة مايجري، بالإضافة إلى أن الإجراءات في أزمير، توقفت نتيجة تدخل الضباط الألمان.

وكمثال على ما يمكن أن تعنيه مواكب الموت هذه، يمكنني أن أنقل مارواه شاهد عيان ألماني، فقد ذكر أنه من أصل 18,000 أرمني تم ترحيلهم من خربوط وسيواس، وصل منهم إلى حلب 350 شخصاً فقط، وأنه من أصل 19,000 أرمني من أرضروم بقي 11 شخصاً على قيد الحياة.

واستناداً إلى تقديرات الدكتور ليبسيوس، فقد هلك أكثر من ثلثي المهجرين في تلك المواكب المنكودة الحظ، واختفوا في الطريق. وكان الناجون، قد تحولوا إلى هياكل عظمية متحركة، وتمكنوا من الوصول إلى سورية وبلاد ما بين النهرين، وأرغم معظمهم على الخروج إلى الصحراء، ليلاقوا حتفهم هناك، وسارت الطوابير شهوراً عديدة، بل عندما كانت تصل إلى المكان المقصود، كانوا يرغمون على السير بشكل دائري أسابيع عديدة. وكانت معسكرات الاعتقال تمتلئ بهم، ليتم تفريغها ثانية ولتمتلئ مرة أخرى، بينما كان المخططون يتركون ضحاياهم البائسة تموت جوعاً، أو نتيجة المرض، أو كانوا يقتلونهم بالآلاف، وانتشر مرض التيفوئيد بينهم بصورة كبيرة، وأدت الجثث المتناثرة على جانبي الطريق إلى تلويث الجو برائحتها.

وفي أماكن عديدة، وجد الولاة والسلطات التركية أنه ليس ثمة ضرورة للجوء إلى ذريعة الترحيل، بل عمدوا إلى قتل الأرمن دونما ضجة، كما حدث في نصيبين (1 تموز) وبيتليس (1 تموز) وموش (10 تموز) وملاطية (15 تموز) وأورفة (19 آب و 16 تشرين الأول) والجزيرة (2 أيلول) وديار بكر وميدياط الخ.. وكان القتل أكثر رحمة من الآلام التي يعجز اللسان عن وصفها، والتي كابدها المنفيون. وفي 10 حزيران 1915 أرسل القنصل الألماني في الموصل برقية مفادها: أنه تم ترحيل 614 رجلاً وامرأة وطفلاً أرمنياً على طوافة فوق نهر دجلة من ديار بكر، وتم قتلهم جميعاً، ولم تصل إلى الموصل سوى طوافات فارغة، وامتلأ النهر بالجثث والأطراف البشرية، وأن عمليات مماثلة كانت في طريق الإعداد. وفي 18 حزيران نقل القنصل الألماني في أرضروم أنباء تفيد بحدوث مجازر قرب مدينة أرزنجان. وقامت قوات حكومية من فرقة الخيالة 86 بمساعدة عدد من ضباطها بقتل ما بين 20,000 و 25,000 امرأة وطفل، وهم يمرون في ممر جبلي في كيماخ. وفي بيتليس قتل معظم الأهالي الأرمن، فقد تم إغراق 900 امرأة وطفل في نهر دجلة، وهكذا تتابعت قصص لا تنتهي من الوحشية الشنيعة، وفي حالات عديدة، أحرق الأرمن، وهم في بيوتهم، كما تمَّ تجريد الجنود الأرمن الذين قاتلوا ببسالة في الجيش التركي من سلاحهم، وقد أثنى أنور باشا بنفسه على شجاعتهم وإخلاصهم، وتم تكليفهم بِأعمال السخرة وراء خطوط الجبهة، ثم أطلقوا على رفاقهم النار بأوامر من رؤسائهم.

وحالما أظهرت تقارير القناصل الألمان حقيقة “أعمال الترحيل” سلَم السفراء الألمان سلسلة من مذكرات الاحتجاج الشديدة اللهجة إلى الباب العالي، ولكن كان كل ذلك من دون جدوى. وأنكر القادة الأتراك الحقائق جزئياً، وقالوا: إن حلفاءهم ليسوا أهلاً، لأن يلقنوهم دروساً في الإنسانية، فقد قال طلعت بك بصورة ساخرة للكونت مترنيخ، السفير الألماني في 18 كانون الأول 1915، إنه يثق بأن الألمان، كانوا سيفعلون الشيء ذاته، إذا ما تعرضوا لمثل هذه الظروف، أما بالنسبة لما تبقى فقد استنكر الباب العالي التدخل الألماني في شؤونهم الداخلية. ولم تثمر جهود الحكومة الألمانية في وقف الأعمال الوحشية، ولكن على الرغم أنه لم يكن بوسع السفراء والقناصل الألمان عمل أي شيء بهذا الصدد، فإن تقاريرهم، تكشف بوضوح أفعال حلفائهم المشينة. فالقائمة الطويلة من الوثائق المثيرة للفزع، والأعمال الوحشية اللاإنسانية التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ، توضح أن كل شيء، قد تم نتيجة مخططات وضعها القادة الأتراك الاتحاديون وجمعيتهم، والطريقة التي تتسم بالجبن، وهي إنكار الأترك وجود مثل هذه الأعمال الوحشية، ولكون كل شيء قد تم وفق خطة مرسومة، لا تجعل موقفهم أفضل.

وقد كتب السفير الألماني البارون فانغنهايم إلى برلين بتاريخ 17 حزيران 1915 قائلاً: “إنَّ طلعت بك.. أعلن صراحة: أن الباب العالي أراد أن ينتهز فرصة الحرب لتطهير أعداء تركيا من الداخل من دون إزعاج من التدخل الدبلوماسي الخارجي”، وفي 7 تموز 1915 كتب ثانية: “إن أعمال الترحيل تتم في أقاليم لا تقع ضمن المناطق المعرضة لخطر العدوان، وإن الطريقة التي تتم بها تظهر أن الحكومة تنوي حقاً إبادة الشعب الأرمني في الإمبراطورية العثمانية”.

وفي 10 تموز 1916، بعث الكونت ميترنيخ ببرقية إلى بيتمان هوفيج– المستشار الامبراطوري– بأن” الحكومة التركية رفضت تدخل الممثلين الألمان لمنعهم من المضي في برنامجهم الهادف إلى حل القضية الأرمنية بإبادة الشعب الأرمني”.

وفيما يلي نص برقية بالشيفرة أرسلت بتاريخ 15 أيلول 1915: إلى مكتب الشرطة في حلب :

“لقد أفيد أن الحكومة قد وطدت عزمها بأمر من جمعية “الاتحاد والترقي” على إبادة الأرمن الذين يعيشون في تركيا، وأن الذين يرفضون تنفيذ هذا الأمر لا يمكن أن يعتبروا أصدقاء للحكومة، وباستثناء النساء والأطفال أو العاجزين، يجب وضع حدٍّ لوجودهم، مهما كانت الطرائق والوسائل المتبعة في إبادتهم سيئة، من دون اعتبار لوازع من ضمير”.

                                                                                     توقيع    وزير الداخلية طلعت

كما أمر الوزير نفسه استثناء الأطفال دون الخامسة من المجازر نظراً لأنه يمكن تنشئتهم كأتراك صالحين.

وفي 31 آب 1915، أعلن طلعت بك للسفير الألماني أنه “لم يعد ثمة وجود للقضية الأرمنية” وكان تصريحه صادقاً نوعاً ما، إذ إن معظم أعمال الترحيل قد تمت، ولم يبق سوى إبادة الناجين منهم. وكما رأينا لم تبذل أي محاولة في تقديم الطعام لهم، إذ تم تجميعهم في معسكرات الاعتقال على أطراف الجزيرة العربية من دون طعام، أو منحهم فرصة لكسب قوتهم.

وفي كانون الثاني 1916، تم إرسال ما بين خمسة وستة آلاف أرمني من عنتاب إلى البوادي. وفي نيسان قتل 14,000 منفي في معسكر رأس العين. وبأمر من القائم مقام كانت العصابات تقود مجموعة ما بين 300–500 شخص إلى النهر على بعد عشرة كيلومترات، حيث تم قتلهم هناك، وألقيت جثثهم في النهر.

وفي أحد أكبر معسكرات الاعتقال في مسكنة التي تقع على نهر الفرات شرق مدينة حلب، مات 55,000 أرمني تضوراً من الجوع، وذلك وفق الإحصائيات التركية، ويقدر أنه أرسل خلال 1915 60,000 منفي إلى دير الزور على نهر الفرات، واختفى معظمهم من الوجود. وفي 15 نيسان 1916 أرسل 19,000 أرمني على أربع دفعات إلى الموصل التي تبعد 300 كم في الصحراء، وصل منهم 2500 فقط بتاريخ 22 أيار، وقد بيعت النساء والفتيات إلى البدو أثناء الرحلة، ومات ما تبقى من الجوع والعطش. وفي تموز 1916، تم ترحيل 20,000 أرمني إلى دير الزور، وبعد ثمانية أسابيع، استناداً إلى شهادة ضابط ألماني، ترك عدد من الصناع المهرة على قيد الحياة، بينما أفني الباقون، وكانوا يرسلون على دفعات، تتألف من مئتين أو ثلاثمئة شخص لتقوم العصابات بقتلهم، إلا أن الموت جوعاً، كان أسوأ أشكال الموت، وذكر شاهد عيان أن 1029 أرمنياً ماتوا جوعاً خلال يومين ونصف اليوم، قضوها في منطقة الباب.

وقد روى شهود عيان صوراً حية عن هؤلاء الناس الذين كانوا يتضورون جوعاً، والتي تملأ القلوب بالحزن والأهوال، وكأنها كوابيس مزعجة. إذ كانت هذه الأشباح المتحركة، التي كانت تسمى من قبل كائنات بشرية، ومعظمهم من الرجال والنساء الذين يتمتعون بدرجة عالية من الثقافة، تأكل أي شيء يقع بين أيديها، بينما كان رجال الدرك يجلسون، ويراقبونهم، وهم يعانون أشد المعاناة، حتى يسقطوا هالكين، وقد بذلت الحكومة التركية كل ما بوسعها لمنع وصول إغاثات، أو معونات حتى من ألمانيا إلى هذه المخلوقات التعيسة. وعندما تقدم الدكتور ليبسيوس بطلب إلى أنور باشا في القسطنطينية في أوائل آب 1915 للسماح له بجلب معونات لإغاثة المنفيين المعذبين، أجاب الأخير بأن الأتراك هم الذين سيقدمون لهم تلك المعونات، وإذا رغب الألمان في تقديم المساعدة، فما عليهم إلا أن يرسلوا الهدايا والأموال إلى الحكومة التركية التي ستعمل إلى إيصالها إلى مكانها الصحيح، ويصعب تخمين أين ذلك المكان الصحيح. أما بالنسبة للمعونة التي قدمها الأمريكيون، فقد رفض الأتراك السماح لها بالوصول.

يجادل أعداء الأرمن “أنه كيف يمكن لشعب بهذا العدد أن يستسلم من دون إبداء مقاومة لأعمال الترحيل والقتل”، مع أن هذا يتنافى تماماً مع إدانة الأتراك إياهم، بأنهم متمردون خطرون. وكيف يمكن لهم إبداء أي مقاومة في مواجهة درك وجنود ومتطوعين مجهزين بالأسلحة، بعد أن تم تجنيد معظم رجالهم الأقوياء، وجرد جميع الشعب الأرمني من السلاح، وعلى الرغم من ذلك، فقد دافع الأرمن عن أنفسهم بشجاعة، وحققوا قدراً محدوداً من النجاح في بعض الحالات، حيث كانت تتاح الفرصة لهم، كما حدث مثلاً في وان، وفي المناطق الجبلية الواقعة قرب السويدية في كيليكيا، حيث كان بعضهم مسلحاً ببنادق تعمل بحجر القداح. وفي أورفة، قتل الأرمن بعد أن أبلوا بلاء حسناً، ولكن من دون أمل يرجى. إن شعباً يمكنه القتال دفاعاً عن قضية حق، ويتمتع بمثل هذه الشجاعة الفائقة التي أظهرها آلاف المتطوعين الأرمن على جبهات القوقاز وسورية، يمكنه تجاهل كل الإدانات الموجهة إليه، والتي تصمه بالجبن ولا يعيرها أي اهتمام.

وعندما وصلت أنباء الأحداث المروعة إلى الشعوب الأوروبية في أواخر صيف 1915 تقريباً، أثارت هذه القصص عاصفة من السخط– حتى بين جميع الأهوال التي حدثت خلال الحرب العظمى– ضد تركيا.

وأنحي باللائمة على ألمانيا لسماحها بحدوث هذه المجازر والأهوال، ووجدت متنفساً لها في كلمات شديدة اللهجة ووعود رسمية، بأنه عندما تستتب العدالة والحرية بعد الحرب، يجب تعويض الأرمن بصورة تامة، وذلك عن طريق منحهم استقلالهم وحريتهم شريطة أن ينضموا إلى دول الحلفاء، وأن يرسلوا رجالهم القادرين على القتال إلى جانبهم، ومن جميع أنحاء العالم تدفق المتطوعون الأرمن، وشكلت أفواج أرمنية كاملة في الجيش السوري– وعلى هذا الأساس، كان يجب ضمان إقامة دولة أرمينيا المستقلة. أما على الجبهة الروسية في القوقاز فقد هرع الشباب الأرمن الذين امتلؤوا حماسة نتيجة مجازر الأترك، لينضموا إلى الجيش، فبالإضافة إلى 150,000 أرمني في الجيش النظامي الروسي، شكلت سرايا من المتطوعين الأرمن الذين قاتلوا ببسالة تحت قيادة زعمائهم، ونخص بالذكر منهم (أنترانيك)، وبعد المجازر التي جرت في الأناضول، انضم عدد من الأرمن في تركيا إلى المتطوعين، وتجاسر الأتراك باتهام هذه السرايا بالخيانة، لأنهم قاتلوا ضد جلادي بني قومهم، وقدم أكثر من 200,000 أرمني حياتهم لنصرة قضية الحلفاء.

وفي تلك الأثناء استمرت رحى الحرب، وعندما تقدم الجيش الروسي واستولوا على وان وبيتليس وموش وأرضروم وأرزنجان على التوالي في كانون الثاني 1916، ثم طرابزون بعد ذلك بشهرين، جاء دور الأتراك بالهرب خشية أن ينتقم منهم الأرمن، واندفع الأتراك يتملكهم الذعر باتجاه الغرب في ذلك الشتاء البارد، ولاقى كثير منهم حتفه بعد تكبدهم الكثير من الآلام بين ممرات الجبال، وفي بعض الأماكن، قامت بعض سرايا المتطوعين الأرمن بالانتقام لبني جلدتهم بقتل الأتراك، ولكن ليس إلى المدى الذي يمكن مقارنته مع ما ارتكبه الأتراك من مجازر ضد الأرمن، وعاد آلاف من الهاربين الأرمن إلى بيوتهم من مخابئهم في أعالي الجبال ومن الطرف الروسي، وحتى من بلاد ما بين النهرين، وبسرعة مذهلة، أعادوا بناء قراهم ومزارعهم المهدمة.

ثم حدثت الثورة الروسية في شباط 1917، ويمكنني هنا أن أضيف بعض التفاصيل التي تتعلق بأرمينيا، ففي بداية عام 1918 تقدم الأتراك ثانية لمهاجمة أرمينيا التركية، وصدت القوات الأرمنية الهجوم ببسالة، بعد أن تخلى عنها الروس، في حين انسحب الجيورجيون، لأنهم لم يرغبوا في الدفاع عن بلد غير بلدهم. وفي 11 آذار 1918 استولى الأتراك على أرضروم، وبعد احتلالهم باقي مدن أرمينيا التركية، أخذوا يتقدمون باتجاه كارس، وأعلنت الجمهورية الترانسقوقازية استقلالها- أي عن روسيا (22 نيسان 1918)- ووافقت أخيراً على الإذعان لشروط معاهدة بريست- ليتوفسك (BREST-LITOVSK) التي سلمت بموجبها كارس إلى تركيا، وفي 27 نيسان، احتل الأتراك كارس وأعملوا يد النهب فيها. وبدأت محادثة سلام جديدة في باطوم في 11 أيار 1918، ورفض الأتراك الالتزام بالشروط التي كانوا قد قبلوها في معاهدة بريست- ليتوفسك للسلام، وطالبوا بتقديم تنازلات أكبر، ثم هاجموا ألكساندروبول، واستولوا عليها في 15 أيار 1918، وأينما توجهوا كانوا يرتكبون مجازر جديدة ضد الأرمن، ضاربين عرض الحائط بالاحتجاجات الشديدة اللهجة التي تقدمت بها الحكومة الألمانية والقيادة العليا اللتان طلبتا التزام تركيا بشكل لا يقبل الجدل ببنود معاهدة السلام التي كانت قد قبلتها، وأن تنسحب إلى الخطوط المرسومة بموجبها. غير أن الأتراك استمروا في أعمال النهب والقتل كما من قبل، وازدادت الفظائع سوءاً، ولم يعد بالإمكان وصف الآلام والجوع الذي أصاب الأرمن، ونزح مئات الآلاف من اللاجئين وقد أتلف الأتراك محاصيل القمح أو سلبوها، وحطموا ممتلكات الأرمن واستولوا على كل شيء يمكن أخذه، ومن الواضح أن الزعماء الأتراك، كانوا يهدفون إلى إفناء العنصر الأرمني في روسيا كذلك.

وبعد حل الجمهورية الترانسقوقازية (26 أيار 1918) أعلنت أرمينيا نفسها جمهورية مستقلة، وبعد أن انضم تتر أذربيجان إلى تركيا، كان الأرمن لا يزالون يحملون عناء القتال ضد الأتراك وحدهم، وأجبروا على إبرام السلام مع الأتراك في 4 حزيران 1918. وسمح لهم بالاحتفاظ بمنطقة نوفو– بيازيد وبشطر من منطقة ألكسندروبول وايتشميادزين ويريفان (9000 كم2، ويبلغ عدد سكانها 350,000 نسمة) ولكن على الرغم من معاهدة السلام مع الأتراك، إلا أنهم-أي الأتراك- استمروا في أعمال النهب والقتل.

وبمساعدة تتر أذربيجان هاجموا فيما بعد باكو، واستولوا عليها في 15 أيلول 1918، وترك نوري باشا قائد الجيش وهو أخ أنور باشا الأصغر، التتر يعملون يد النهب والسلب، واستباحوا المدينة ثلاثة أيام، وقتلوا جميع سكانها المسيحيين الذين كان معظمهم من الأرمن، وبينما كانت طلقات الرصاص تدوي في الشوارع، وصرخات وأنات الضحايا تصم الآذان، أجرى نوري باشا استعراضاً عسكريا خارج البلدة، ثم أقام وليمة لضباطه في فندق ميتروبول، وقتل في باكو خلال أيام ثلاثة بين 20,000 و 30,000 أرمني، وكان هذا بمنزلة عمل انتقامي، لأن الأرمن والروس البلشفيين، قتلوا عدة مئات من التتر خلال الفترة القصيرة التي سيطروا خلالها على باكو، وكان هذا بدوره انتقاماً، لأن ميليشيا التتر، بعد حل الجمهورية الترانسقوقازية (26 أيار 1918) أعملوا يد النهب في القرى الأرمنية قرب يريفان.

ثم جاء انهيار ألمانيا وتركيا، وبعد الهدنة في 30 تشرين الأول 1918 كان على الأترك الانسحاب إلى ما وراء الحدود التي كانوا يحتلونها قبل الحرب، وكان بإمكان الأرمن العودة إلى ألكسندروبول وكارس وأردهان وأردانوش، إلا أنه من أجل استعادة استقلالهم وحريتهم وتخليص بلادهم من نير الأتراك، كما وعد الحلفاء مراراً وتكراراً، كان على قوات الحلفاء احتلال أرمينيا التركية، إلا أن هذا سبَّبَ إحراجاً لتلك الحكومات، وذلك بسبب عدم اكتشافها لآبار النفط في الأناضول.

وبناء على ذلك، كان للأتراك اليد العليا في ذلك البلد الذي كان يعني ضياع القضية الأرمنية، وسرعان ما ظهرت سلسلة من المخاطر الجسيمة بسبب اليقظة القومية التركية بزعامة مصطفى كمال التي بدأت نقطة انطلاقها في أرمينيا التركية نفسها، إلا أننا لسنا هنا بصدد شرح كيف تمكنت تركيا “الرجل المريض” التي كان الحلفاء يعتبرونها، وهم في زهوة نصرهم على أنها عاجزة تماماً، أن تحصل على قوة كافية، تتحدى بها الدول المنتصرة، وأن تصبح مرة أخرى قوة حربية ترغم هذه الدول على الدخول في مفاوضات معها.

 

*شهادة فريديوف نانسن، من كتابه أرمينيا والشرق الأدنى

المصدر:  مختارات من بعض الكتابات التاريخية حول إبادة الأرمن عام 1915، ترجمة: خالد الجبيلي، اللاذقية – 1995. مقتطف من كتاب (شهادات غربية عن الإبادة الارمنية في الإمبراطورية العثمانية)، إعداد ومراجعة ودراسة: البروفيسور-الدكتور آرشاك بولاديان، دمشق – 2016 ( (3)

Share This