مذبحة الأرمن في دير الزور والشداده

 

دير الزور بلدة على نهر الفرات تجددت ابنيتها في آواخر القر الماضي وانتقل اليها قوم من النصارى قصد التجارة اغلبهم من مدينة ماردين وهم من الطوائف الثلاث الأرمنية والسريانية والكلدانية ولكل طائفة كاهن يرعاهم اما شؤونهم البيعية فمنوطة برؤساء ماردين الروحيين. وإليك ماجرى في تلك البلدة عام 1915 و1916.

في آواخر تموز 1915 ورد الخبر من رأس العين الى جرجس سعيد كنجو أن أهله واسرة ترزيباشي وبطانه يطلبون حضوره اليهم فراجع المتصرف فأمر ستة من الخبالة أن يرافقوه فقصدوا رأس العين فإذا بأهله وغيرهم راكبين العجلات قادمين الى الدير فرجعوا بهم ووصلوا آمنين مطمئنين. وفي تشرين 1915 وافى الى الدير أرمن كثيرون من مرعش وعينتاب وقونية وانقره وبرسا وسيواس وغيرها قافلة فقافلة حتى بلغ مجموعهم مائة وستين الفاً بنيف عيّن لهم المتصرف الكريم المعايش قدر ما امكنه. غير أنه في ايار 1916 عُزل هذا المتصرف النبيل ونصب بدله متصرف فظ الطباع لئيم فنشم من ساعته يراسل الجراكسة والعشائر القريبة ويستنهضهم لذبح المسيحيين. وعزل جميع مديري الاحسجا والشداده والصور وهفل ونصب بدلهم رجالاً خبثاء مرداء. ولما استتب له الامر شرع ينتقي طائفة فطائفة من اولئك الأرمن ويبعثهم مع الضباط والجراكسة الى جسر الدير فالشداده فيقتلونهم على الطريق ويعودون بالاسلاب فيقترعون عليها ويستحلونها.

 وذات يوم جمع المتصرف زهاء سبعمائة من البنائين من السن العشرين الى الخامسة والعشرين وبعثهم الى صحارى الدير في قوم من  الجراكسة أصحاب الخير فتركوهم من دون اكل وشرب وكانت الارض فراشهم والسماء غطاءهم مدة ثمانية عشر يوماً. ولشدة ما نالهم من اذى الجوع اكل بعضهم بعضاً. وبعد هذا ارادوهم على المسير فمات منهم كثيرون في الطريق لما اعتراهم من الهزال والضعف ولم يبق من السبعمائة سوى مائتين لا غير اعملوا فيهم الضرب حتى هلكوا عن اخرهم.

وبعد ذلك أمر المتصرف بسوق النصارى قافلة فقافلة وارسل منادياً ينادي في الدير أن »من آوى اليه أرمنياً استحلت الحكومة عرضه وماله وروحه« فلم يتجرأ والحالة هذه احد المسيحيين ان يأوي اليه احداً. فاستاقوا جميع الأرمن رويداً رويداً وبعث معهم المتصرف قوماً من القصابين باجرتهم فاوصلوا منهم زهاء خمسة عشر الفاً الى الشداده وركب اليهم المتصرف وحياهم تحية السلام فتبادر الى ظنهم انه قادم لينقذهم ويوسع عليهم. بيد أنه ما تأخر أن أرسل في استحضار جماعة من الخيالة انظموا الى القصابين واحاطوا بالمسيحيين وذبحوهم واطلقوا عليهم البنادق وفتكوا باكثرهم. وسارع اهالي جبور لمساعدتهم فالتحم القتال حتى كادوا يفنونهم عن آخرهم. وانتقوا من النساء والاطفال من استطابوا كمالوف العادة ثم مضوا بالعذارى الى ضفاف الخابور فعروهن وركبوا منهن الفواحش والقوهن في النهر. وكروا راجعين الى الشداده وجمعوا اصحاب الدكاكين وصوّبوا نحوهم البنادق وقتلوهم جميعاً. ولما انتهى المتصرف من المذبحة عاد الى دير الزور جذلاً مسروراً.

أما الأب بيدروس ترزيباشي كاهن الأرمن بدير الزور فكان يختلف الى خيم الأرمن المهاجرين ويقرأ لهم ما يردهم من الرسائل الأرمنية ويعزيهم في غربتهم ويسري عنهم غمومهم. فاستدعاه المتصرف وقال له: بلغني أن الأرمن تردهم رسائل جمة من بلادهم وتذهب انت فتقرأها لهم فأصدقني هلا يبعث لهم اصحابهم ذهباً. وكم من المبالغ وصلت اليهم على يدك. قال له الاب لا ادري الكمية لانه قد مضى على ذلك زمن طويل. قال له المتصرف انصرف وهلم اليّ العصر. فسار اليه وأَلفى في غرفته شابّاً موسيقياً كان المتصرف يودي له ستمائة غرش راتباً شهرياً ليطربه بنغماته ولما حضر الاب بيدروس أمر المتصرف الجنود فاوثقوا ذلك الشاب والقوه على الحضيض وصفعوه ضربات شتى تجاه الأب حتى تناثر لحمه ثم اندفع المتصرف يقول للقس عليَّ بكل ما ورد للأرمن من النقود والا فعلت بك نظير هذا الموسيقار. فرجع الأب الى بيته مغموما حائراً في امره لا يدري مايصنع. فأشاروا عليه آله أن ينهزم الى سنجار فلم يستحسن ذلك. غير أن المتصرف استدعاه ثالثة وطالبه بالنقود ثم دفعه الى أربعة ضباط فاركبوه وساروا به الى الجسر فرأى عبد المسيح شقيقه فودعه وقال لا عدت تؤمل بقائي في قيد الحياة ارجع الى بيتك. ثم انضم الى الضباط قوم من الجراكسة وساقوه الى الصور فسار اليه المتصرف واستنطقه فلم يفز بمطلوبه فأمر الجراكسة فمضوا به الى الخابور وقتلوه وانقلبوا راجعين. فرأى عبد المسيح اخوه سليمان الديري عائداً فاستخبره عما جرى لشقيقه فقال له أننا حسب قولك دفعنا خمساً وعشرين ليرة الى الشراكسة ليطلقوا لنا الحرية في دفنه فلم يرضوا فتركناه تحت الشجرة وعدنا.

اما ما جرى للمسيحيين في الشداده والصور فإنه يتعذر على اللسان والقلم وصفه وترتعش الفرائض لذكره. من ذلك إن الفتى يعقوب بن سعيد ترزيباشي وهو في السن السابعة من العمر بعد ما استاقوه  ووالدته وشقيقته مع مائتي امرأة وولد الى ملاحة قريبة زجوهم في بئر هناك وهم أحياء فصادف يعقوب وأمه وأخته في تلك البئر مغارة مجوفة لاذوا بها متنحين عن البقية. اما أعداء النصرانية فالقوا فوق اولئك المكومين حطباً وقشاً وقلبوا فوقه البترول واعملوا فيه النيران فاحرقتهم ما عدا الثلاثة المحتصنين بالمغارة وغيرهم من الذين لم تصل اليهم النيران.

وأفادتنا حبو قرينة جبرائيل نعلبند وغيرها ايضاً أنهم رأوا ابوين يسوعيين في الشدادة عراهما الكفرة وانزلوا بهما افظع العذاب ثم صوبوا نحوهما البنادق وفتكوا بهما.

وروى جرجس بن عبد المسيح تازا المارديني انه يوم كان في الشداده رأى بعينه جماهير جماهير من الأرمن مبثوثين في تلك البرية الفسيحة يسرحون كالغنم والجراكسة الغليظو الرقاب والقساة القلوب يثبون بهم كالنمورة الهائجة فيعرّوهم ويحتوون على اسلابهم ويعملون فيهم السيوف والخناجر حتى يتخضبوا بدمائهم. اما الاطفال فكانوا يسوقونهم مائة فمائة ويلقونهم في الخابور أو يجمعون القش والشوك ويكومونه فوقهم ويقذفون فيه النار فتشتعل وتتسعر فيرقص اولئك الاطفال داخل الاتون البابلي وترتفع صراخاتهم ونحيبهم حتى تتصرم انفاسهم..

كفاك أيها القلم كفاك اعرض عن الكتابة فإن اليد ترتجف والعين تدمع والقلب يخفق.

اخط وداعي الحزن يملي وكلما                                               تعديت سطراً رملته مدامعي

قبحاً لك يا ابن آدم ما ألامك وافظك. ما الذنب الذي اجترمته الرضعان والاطفال حتى تنزل بهم العذاب والنكال. ما افسد قلبك واغلظ كبدك. استرسل ياهذا استرسل في الشرور والفظائع فإن لك عذاباً افظع واغلظ.

ثم أن الجراكسة الوحوش كانوا يهجمون على الفتيات غير المراهقات ويرتكبون منهن المنكرات اما الحبلى فكانوا يبقرون رحمها ويستخرجون جنينها على مرأى منها ثم يقتلونهما كليهما او يضطرون الام بعد مايشقون بطنها أن تأخذ جنينها على كتفها وتمشي بسرعة وإلا فيخطفون الجنين ويضربون به الصخرة تجاهها وهي تولول.. في الحق ما عاد يتيسر لي أن أواصل تدوين فواجع مرة كهذه تجري مدامعي وتجرح فؤادي وترعشني فالسكوت أولى بي ولا بأس أن عاودت ما كتبته سابقاً على لسان داود النبي »يا ابنة بابل الصائرة الى الدمار طوبى لمن يجزيك ما كافاتنا به. طوبى لمن يمسك أطفالك ويضرب بهم الصخرة« (مز 136) كما فعلت انت يا شقية يا لئيمة. يا خبيثة يا خائنة. يا فاجرة ياكافرة…

 

المصدر: من فصل (القصارى في نكبات النصارى، للعلامة الأب اسحق أرملة السرياني، الطبعة الأولى- 1919) الجزء الثالث، الفصل السابع (10).

مقتطف من كتاب “شهود عيان عن الإبادة الأرمنية في الإمبراطورية العثمانية (مجموعة وثائق تاريخية)، إعداد وإشراف ودراسة: البروفيسور الدكتور آرشاك بولاديان، دمشق-2014، حيث ينفرد موقع “أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر مقتطفات منه.

Share This