قصة “الخبز في فم الكلب” للكاتب كيفورك أبيليان (1)

 

في أحد أحياء مدينة حماة كان رجل يلحق كلباً، رغم ملابسه الرثة وتعبه كان يركض بخطوات كبيرة خلف الكلب. كان الرجل يعرق رغم الريح الباردة القوية، أما الكلب فكان يحاول الركض لاهثاً ليجد زاوية ويأكل الخبز في فمه. أوه، قطعة كبيرة من الخبز في فم كلب، إنه حلم كبير. كان “هاكوب المرعشلي” يركض بسخط غير مسبوق رغم ما تبقى من حذائه الذي يحمي قدميه من الحصى والحجارة.

لقد قرر وصمم أن يحصل على قطعة الخبز ويأخذها لأولاده الأربعة الجياع في الشتاء الأول للتهجير. كان “هاكوب” رجلاً عنيداً وقد قرر قطعياً أن تكون قطعة الخبز تلك من نصيب أولاده.

الكلب هو كلب ويمكنه أن يدبر أمره بقطعة خبز أخرى بدلاً عن القطعة التي فقدها. بينما هو لا يمكنه، لا يستطيع التسول، فهو لا يخجل من التسول فحسب، بل تعرض للجوع وكثيرين مثله خلال الحرب العارمة، فلا خبز ولا طعام. كانت الدولة العثمانية “الفضيلة” منعت تجارة ونقل الحبوب وخاصة القمح، فكل ذلك هو من حق جيشها الباسل الذي يبقي جنوده شبه جياع لأن الضباط المسؤولين عن الجيش يتصرفون بالحبوب ومواد الغذاء على هواهم.

“هاكوب” الآن في حالة تناس ولا يمكن لا للبرد ولا لحصى الطريق ولا للجوع أن يبطئ من حركته، فهدفه نبيل، هو سيحصل على الخبز من أجل أطفاله. أما الكلب المسكين فكان يستجمع قواه ويركض مسرعاً ليحتفظ بالخبز في فمه. كان ينظر خلفه بنظرات تهديدية ليخيف ذلك الرجل الوقح الذي يتنازل ليلحق بكلب جربان ليلتقط من فمه قطعة خبز.

حتى لو أوحى الكلب بخطر الهجوم لفعل “هاكوب” ذات الشيء، ولحق به ليحصل على الخبز، كم كان أولاده بحاجة لذلك الخبز، إنهم بأمس الحاجة. كانوا يبذلون مجهوداً كبيراً في جمع حبات الشعير في براز البعير، ولا يهم إن كان صعب الهضم.. إنما للخبز طعم آخر حتى ولو كان عفناً.

كان “هاكوب” قد ترك زوجته “خاتون” في وادي الغاب السوري الواسع والشاسع، وسقطت المرأة في مكانها في الحقل ولم تدفن. لا وقته ولا قوته ساعدا “هاكوب” لدفن زوجته الحبيبة حتى ولو بحفنة من التراب. فلم تكن زوجته الوحيدة فالكثير الكثير من الجثث بقيت في العراء. واجه الأرمن المهجرون من “مرعش” الجوع والأمراض المعدية والسلب والنهب وخطر الحراب. فكان الموت خلاصاً لهم، خلاصاً حقيقياً، أما البقاء على قيد الحياة فيتطلب بحراً من العذاب والمذلات. في الحقيقة، لم تكن “مرعش” عرضة لذلك فحسب، بل الأرمن في أرمينيا الغربية وكيليكيا كانوا كذلك مهددين بالضياع. إنه قرار الدولة العثمانية ويجب أن ينفذ لكي يرتاح الشعب التركي. فالأتراك يحلمون بحلم الطورانية، أما الحلم بالحصول على الخبز من فم الكلب فكان يراود “هاكوب” بسبب حلم الأتراك الفاسق.

ولكي يتمكن الكلب المسكين من التخلص من ذلك الرجل الظالم تكرّم وألقى الخبز على الأرض ونفد بجلده. التقط “هاكوب” الخبز، كانت قطعة كبيرة كاملة، جافة وقاسية عدا القسم الذي عضه الكلب ورطبه بلعابه. ارتسمت على وجه “هاكوب” ابتسامة النصر، وهو لم يبتسم كذلك منذ زمن بعيد، فقطعة خبز كبيرة تعني الكثير.

وعندما عاد أولاده الأربعة قسّم الخبز لأربعة أقسام بواسطة حجرة، وقام أولاده بتكنيس أصغر القطع من فتات الخبز كما تكنس بقايا الزجاج. فالذين اعتادوا على جمع حبات الشعير بين براز البعير من الطبيعي ألا يتركوا أي فتات على الأرض.

كان “هاكوب” ينظر بسعادة الى أولاده وهم يأكلون الخبز برضا، فمن الممكن أن يسعد المرء قليلاً في جو التهجير والموت القاسي.

كان ذلك اليوم مميزاً، فقد أكل أولاد “هاكوب كفركيان” الخبز. ولكن أين النهاية، وأين الخلاص؟ سمع “هاكوب” أن بيت البرازي يذبحون الخروف اسبوعياً، يطهونه ويوزعونه على الأرمن المهجرين، لكن هو لم يحالفه بعد ذلك الحظ. من يدري، ربما في أحد الأيام يصل هو وأولاده، الى ذلك الحلم. ما العمل؟ ماذا عليه أن يفعل كي يملأ بطون أولاده الخاوية. فإن بقوا على حالهم فسيصلون الى نفس القدر الذي واجهته “خاتون”، وأولهم “مريميك” (مصغر اسم مريم. المترجمة) . آه، كأن هذا الكائن البريء والمسكين سقط من أنف زوجته “خاتون”، فهي نسخة طبق الأصل عنها. لا يمكن لـ”مريميك” أن تحتمل، لا يمكنها تحمّل فراق أمها والجوع والبرد والمذلة. ما العمل، ماذا عليه أن يفعل لينقذ تلك البريئة؟

بينما كانوا في السوق، اقتربت امرأة عربية من “هاكوب” وهو يمسك بيد “مريميك”، كانت “مريميك” ترتعش من شدة تعب أقدامها. وأعطت المرأة لـ”مريميك” قطعة خبز وجبن، فنظرت الفتاة الى والدها وهي تتوسل وتطلب الأذن.

  • خذي يا ابنتي، خذي وكلي. أنت لا تتسولين، هي التي تعطيك.

وقالت المرأة: – يا آغا..

آغا ؟ ما هذا التهكم؟ من السخرية تسمية حالة “هاكوب” المسكين بالآغا.

  • يا آغا، اعطني هذه البنت الصغيرة وأنا أعتني بها مثل نور عيوني. أنا عندي أولاد وليزيد عليهم واحدة. وليكن هذا خدمة لله، اعطني هذه البنت. وعندما تتحسن الأوضاع تعود لتأخذها مني. وبمشيئة الله ستمر هذه الأيام العصيبة وتعود وتأخذ ابنتك.

جاء هذا الاقتراح بصيص أمل بالنسبة لـ”هاكوب”، فهو لا يستطيع ولا يريد الافتراق عن ابنته التي كانت حبيبة “خاتون”، ولكن إن بقيت البنت عنده فستموت بعد فترة لا محال. وافق دون تفكير وسلم ابنته للغريبة التي أمسكت بيد البنت ومضت مسرورة. وقبل أن تذهب أشارت الى بيتها على طرف السوق. وكانت “خاتونيك” الصغيرة تنظر الى الخلف وتتضرع لتبقى مع والدها. لقد انتصر الواقع. كان “هاكوب” يوصي ابنته من بين دموعه أن تذهب وأنه سيعود يوماً ما ويستعيدها، على الفور.

عاد الى أولاده وأوضح “هاكوب” أن “مريميك” في أيدٍ أمينة، وستبقى عند عائلة عربية نبيلة الى أن يحين وقت العودة، وعند عودتهم الى “مرعش” سيأخذونها ويعودون الى البيت. بدا أولاد “هاكوب” “مهران” و”سركيس” و”أرتين” أكثر واقعية من والدهم وبدأوا بالبكاء وطلبوا أختهم. فهم لا يريدون الافتراق عن أختهم “مريميك” الجميلة مثل أمها، فوعدوا أن يفعلوا كل شيء، كل شيء ليعتنوا بأختهم. لم يتزعزع “هاكوب”، فابنته “مريميك” على الأقل ستحصل على خبز تأكله وشيء تلبسه عند عائلة العرب، وابنته الحبيبة لن تموت هناك، والصيف ليس بعيداً، فهو متأكد أنهم سيعودون في الصيف الى البيت الى “مرعش”. فلن يعودوا الى البيت دون “مريميك”.

عبثاً كان الأولاد يبكون ويصرون ويعترضون، ويريدون أختهم. فترك “مريميك” عند المرأة العربية، ليس حلاً لمواجهة كل هذا الحرمان والعذاب. وليس من السهل إطعام أربعة أفواه في تلك المنطقة الجرداء. فأنواع من أعشاب الربيع كانت تملأ تلك البطون نوعاً ما لكن ذلك لا يطول كثيراً، أما في الصيف فكانت البطون تمتلئ من أسواق الخضراوات الموجودة في جوار المدينة وأحياناً كان أصحاب البساتين يعطون شيئاً للمهاجرين المساكين، وأحياناً هم يخفون شيئاً. هذا الفصل أيضاً لا يدوم طويلاً، فرياح الخريف لا تتأخر وتغدو حالة المهاجرين كلهم يائسة أكثر، كان البعض يحتمل والبعض الآخر لا يحتمل، هذه هي الحياة، فالناس ليسوا سواسية.

لا يعرف “هاكوب” ما يفعله، وكيف يتصرف. فهو بإمكانه قهر بلعومه لكن ماذا يفعل بتلك البلاعيم الثلاثة فلا يمكنه الاستمرار على هذا الحال.

وفي أحد الأيام، اقترح بدوي على “هاكوب” أن يترك ابنه البكر “مهران” عندهم ليساعده في عمل رعاية الماشية وفي مقابل ذلك سيعطيه مكاناً ينام فيه وملبساً ومأكلاً. الاقتراح لا بأس به، بل على العكس، جيد جداً، فعلى الأقل سينقذ الولد ويخفف من أبعاءه قليلاً. فرح “مهران” لأنه حياته صارت مؤمنة وربما يساعد الآخرين.

افترق “مهران” عن أفراد عائلته وهو يبكي، وكان البدوي قد جاء ومعه كيس من الخبز وقطعة كبيرة من الجبن أعطاها لـ”هاكوب”. مضى “مهران” خلف الرجل وهو يبلع قطعة خبز ويبكي، وينظر الى الخلف ليلقي النظرة الأخيرة على أحبابه فهم بقوا في حماة، أما هو فذهب مع ذلك الرجل الغريب.

طلب البدوي من “مهران” أن يأكل لكي يتمكن من الوقوف على قدميه فهو بحاجة الى يد تساعده في العمل، فماذا يفعل بشاب هزيل وضعيف. كان البدوي يمتطي جواده ويحاول “مهران” اللحاق بخطوات الحصان.

وبعد أن ساروا طويلاً وصلوا الى الخيم حيث تسكن عشيرة الشيخ حمد في خيم صغيرة وكبيرة. خرجت النسوة وعدد كبير من الأولاد من الخيم. فأكيد أن الشيخ الآتي من المدينة سيجلب معه الحلويات وأغراضاً تلزمهم، وحضور “مهران” ملأ فضول الجميع، فتجمعوا حول ذلك الشاب الغريب والهزيل. كان “مهران” لا يفهم لغتهم. وبدأ بعضهم يشدونه. وبتدبير من الشيخ حمد أعطوه مكاناً في خيمة بقرب حظيرة الخواريف في الهواء الطلق، حيث يوجد حجم كبير من التبن وبعض الشعير. أوه، كان هو وأخوانه دائماً يبحثون عن الشعير في براز البعير. جهز “مهران” سريره من كومة عشب واللحاف معطف كبير وقديم كانت عباءة “مشلح” للشيخ. هذا تدبير حسن، فالصبي لم ير سريراً بعد تهجيرهم من “مرعش”، وفي لحظة طاسة اللبن وخبز التنور أنسياه التهجير والجوع. ولكن، عندما تمدد على الفراش ووضع رأسه على الوسادة من العشب اصطف أمام عينيه والده وأخوانه وأخته. ماذا يفعلون الآن، معدته ملآنة ووجد سريراً لا بأس به، ولكن هم ماذا يفعلون في شوارع مدينة حماة البعيدة، فهو يعيش في هناء. رغم تعبه لم يستطع “مهران” النوم وهو يتذكر بؤس أهله الذي كان يعيشه حتى قبل نصف يوم.

وفي الصباح الباكر أيقظوه وأعطوه طاسة لبن وخبز التنور، ذلك هو الهناء، أكل ومضى خلف قطيع خراف كبير، فهذه هي مهمته الجديدة. “مهران” أصبح راعياً.

الصحراء كلها موجودة لأجل خرافه، يمكنه أن يأخذ القطيع أينما شاء بشرط ألا يدخل ضمن أراضي عشيرة أخرى، وقد رافقه أحد رجال الشيخ في الأيام الأولى، حتى تعرف “مهران” على المنطقة، كان عليه أن يرعى القطيع من الصباح حتى المساء، وكانت النساء البدويات يحلبن الخراف قبل شروق الشمس، وكان “مهران” يساعدهن، وثم يأخذ القطيع ويمضي الى الأراضي والصحراء الشاسعة التي لا تنتهي. كم كان كل شيء مملاً وعلى نمط واحد في الصحراء الواسعة والمملة. إلا أن “مهران” كان سعيداً، فحياته هناك مؤمنة بشكل ما، وخاصة أن بطنه يمتلئ بعض الشيء، في الصباح خبز تنور وطاسة حليب وعلى الغذاء خبز وقطعة جبن وفي المساء خبز وطاسة لبن. أحياناً، وفي وحدته، كان يرمي في فمه كف شعير فهو معتاد على الشعير.

كانت الحياة التي يحتملها تصبح حياة لا تحتمل عندما تضيع إحدى الخراف وقد أوصاه الشيخ أن يحترس، فالخراف تؤخذ في المساء لترعى العشب فكان بعضهم يبتعد عن القطيع وفي أثناء ذلك يقترب ذئب أو وحش ليخطف خروفاً، ولذلك كان على “مهران” أن يكون أكثر حذراً في الغروب ليتابع القطيع، ولكن حدث عدة مرات أن فقد خروفاً، وكان من واجبات أحد مساعدي الشيخ أن يحصي عدد الخراف في كل مساء، والويل لـ”مهران” إن فُقد واحد منهم. وعادة، كان الشيخ حمد اللطيف يغدو قاسياً وعنيفاً جداً ويمطر الصبي البائس ضرباً تحت أقدامه. وفي تلك اللحظات لا شيء يليق سوى الندم على الحياة .

كم كانت خرافه مطيعة، أما الماعز العشر أو العشرون في القطيع فكانت لا تطاق، فأينما ترى الماعز العشب الأخضر تذهب على الفور وتحاول أن تأكلها، من الصعب ضبطها، كانت بمثابة الكابوس بالنسبة لـ”هاكوب”. تعلم “هاكوب” العزف على الناي بثقبين بعض الشيء فكان ذلك يسليه ويذكره في الوقت نفسه بأيام المدرسة في “مرعش” وبعض النوتات التي يحاول عزفها، يتذكر زملاءه وأساتذته ويبكي بمرارة وفي بعض الأحيان كان لا يخرج الناي من بيته لأيام عديدة.

بدأ شارب “هاكوب” يسّود ويظهر على وجهه الزغب، فقد صار شاباً. فهناك بنات كثيرات في العشيرة وإحداهن خديجة فتاة تلفت النظر وعيونها السوداء تثقب قلب “مهران”. ويبدو أن خديجة تنوي على “مهران” وعند حلب الخراف كانت تسعى للاقتراب من “مهران” الذي يحتل قلب أية فتاة بأكتافه العريضة وعضلات ساعديه. كانت خديجة معجبة جداً بـ”مهران”.

وفي أحد الأيام، تخطت خديجة حدودها، فهي لم تغص عيناها في عيني “مهران” فحسب بل دعته الى فردوس الحب. خلف كومة العشب عرف “مهران” أول قبلة دافئة. آه، كم كان عذباً نفس خديجة ووجنتاها. وحينما استدرك “مهران” أنه راع بسيط بينما خديجة متناسية كانت تسعى بضم نهديها حديثي الظهور الى صدر “مهران” والارتشاف من كأس الحب، فابتعد “مهران” فجأة من حضن “خديجة” وبدورها الفتاة غضبت من سلوك “مهران” وصرخت.

وفي ذلك المساء كان الضرب بالنسبة لـ”مهران” على أشده حتى أنه لم يجرؤ على المكوث في الحظيرة وهرب في تلك الليلة وأحس بالندم، كان عليه أن يتنعم بمحاسن خديجة حتى تسعَد الفتاة هي أيضاً ولا توشي به بالضرب. لكن تأخر كثيراً.

وهكذا، فقد “مهران” لقمة عيشه ومكانه الآمن ولو كان متواضعاً وصعباً. سار الليل بطوله ولا يدري الى أين يمضي. تارة سار نحو الجنوب وتارة نحو الشمال، فالظلام الدامس والسماء الملبدة بالغيوم لم تساعده بأن يتابع الاتجاه الصحيح. وعندما طلع الصباح لاحظ أنه لم يبتعد كثيراً عن مضارب حمد، وابتعد عن ذلك المكان وسار باتجاه واحد حتى وصل في الليل الى إحدى القرى. باب من سيطرق هنا؟ ومن يفتح بابه لأرمني مثله؟ ندم ألف مرة، يا ليته أسعد تلك الفتاة، وماذا كان في الأمر.

عندما اقتربت منه “خديجة” تخيل “مهران” أخته “مريم” أمام عينيه، يبدو أن “مريم” أصغر من تلك البدوية بسنتين أو ثلاث، وما حالتها الآن أهي حية أم ميتة، أهي عند العرب وربما بدأ الحب ينتعش بداخلها.

لقد تأخر الوقت، تأخر كثيراً. وجد على طرف القرية بناءً كبيراً مغبراً، يزهر فيه نور خافت يحفف الظلمة. طرق الباب بفزع ففتح له رجل الباب الخشبي العريض وفي الداخل مطحنة.

  • من أنت وماذا تريد؟

فأجاب “مهران” بلغة عربية طليقة ولو بلكنة بدوية: – أنا على باب الله.

  • ضيف الله على رأسنا لكن من أنت ومن أين تأتي يا بني؟

فروى “مهران” ما حصل له.

  • يا بني، ليس حسناً أن نخيب ظن الناس، كان عليك ألا تخيب ظن تلك الفتاة، فالذي فعلته أمر أحمق، لكن بما أنك أرمني ادخل. فأنا لم أسمع عن الأرمن إلا بالحسنة يا بني. والآن شعبكم يتعذب كثيراً.
  • وهل تركوا أحداً من شعبنا، يا عم. لم يبق أرمني على الأرض.
  • الله كبير، يا بني. الله كبير، ادخل وامض الليلة هنا، وغداً الله كبير. أنت جائع بالتأكيد.

لم يجب “مهران” على السؤال الأخير، وشعر الطحان أن الصبي واهن فأعطاه الخبز والقليل من الحلوى المحشية. وأكل بخجل فانضم إليه الطحان ليشجعه.

وفي الصباح استيقظ “مهران” وقد انقشع أمامه يوم جديد، لكن الى أين يذهب فهو أيضاً لا يدري.

سأله الطحان مستغرباً: – الى أين تمضي؟

  • لا أدري يا عم، بلاد الله واسعة، سأذهب.
  • يا ولد، أصبحت بدوياً حقيقياً وتتكلم مثلهم، يمكنك البقاء هنا إن أردت.
  • هنا ؟ وماذا أفعل هنا يا عم. يجب ألا نثقل على المضيف.
  • يا بني أنت لا تثقل، إن بقيت هنا يمكنك أن تساعدني. تنام هنا وأعطيك الأكل وأدفع لك بضعة قروش، فأنا بحاجة لمن يساعدني والله يساعدك يا بني، الله كبير.

كان هذا اقتراحاً ممتازاً بالنسبة لـ”مهران”، يبدو أنه الطحان سليم رجل طيب، فوافق دون تفكير وبدأ العمل على الفور.

كان عمل المطحنة أمراً جديداً على “مهران”، وبدأ يحب هذا الجو، فالناس يأتون ويجلبون معهم القمح ويملأها هو في برميل كبير في المطحنة وثم يساعد في أعمال ملء الطحين وتحميله، وعندما كان يطرق سليم أحجار المطحنة الكبيرة كان “مهران” يتابع حركات يديه، وعند أي خطأ كان يتابع بانتباه.

وفي أحد الأيام، ترك سليم المطرقة فوق الحجرة خرج من المطحنة وعندما عاد وجد “مهران” يعمل والمطرقة بيده، وبعد أن نظر إليه قال:

  • يا “ميران” يبدو أنك أنت من عرق “الصوصانية”، سمعت أن الأرمن يأتون من جبال أرمينيا الى حلب سيراً على الأقدام يقومون بأعمال الطحانة، إن لم أخطئ فهم من منطقة “صاصون”، ولذلك في حلب يسمون الطحان الأرمني بالصوصاني. أوتكون من منطقة “صاصون” .
  • يا عمو سليم، أنا من “مرعش”، لست من “صاصون”.
  • يا بني، لقد أعجبتي طريقتك في مسك النار والضرب، أرى أن المستقبل أمامك.

وتابع “مهران” عمله، وسمح المعلم أن يتابع عمله وثم عندما وضعوا الحجر في مكانه وبدأت تطحن هز الطحان سليم رأسه فالصبي استثنائي.

ومن يومها بدأ “مهران” يتقدم في عمله كميكانيكي، ففي عائلته كان هذا الاختصاص سارياً، لو بقي في “مرعش” وبعد تخرجه من المدرسة لكان على الأغلب أرسل الى إحدى كليات “عنتاب” أو “خاربيرت” للدراسة، وإن لم يتمكن من متابعة الدراسة فكان سيصبح ميكانيكياً. هنا في هذه المنطقة النائية وبعد أن كان راعياً وجد “مهران” مبتغاه. فلم يكبر فقط في عين معلمه، بل كانت سمعته تنتشر في القرية كلها. وحينها عثرت عليه آنسة أرمنية كبيرة في السن اسمها “خاتون”، فهذه المسكينة فقدت أهلها وكانت تعمل هنا كخادمة، وهنا تتذكر كل شيء لأنها كبيرة في السن، فوجد “مهران” في “خاتون” الانسانة المحبة والعطوفة من نفس أصله وهي تحمل أيضاً اسم أمه وترعاه، وبين حين وآخر تجلب لـ”مهران” الطعام اللذيذ من بيت معلمها. آه، كم اشتاق للأكلات الأرمنية الشهية، في البداية لم يستطع الأكل أو كان يأكل ودموعه تملأ الطعام اللذيذ، لأنه كان يتخيل صورة أمه في الطعام، وثم ومع كل لقمة كان يتذكر أفراد عائلته الباقين، فهم، ماذا يأكلون؟ وهل يأكلون شيئاً.

لعب ظهور “ختون” دوراً راعياً في حياة “مهران”، فآذانه دائماً على استعداد لسماع عن أي أرمني لجأ الى تلك المنطقة بشكل ما. وفي أحد الأيام، بينت لـ”مهران” وهي متأثرة وبسعادة أنه هناك فتاة أرمنية في القرية المجاورة اسمها “يغسابيت” ، فهذه المسكينة وقعت بيد عائلة قاسية لتخدمهم، ويجب إنقاذ “يغسو”. إنقاذها، هذا حسن ولكن كيف؟ والحل عند “خاتون”:

  • يا “مهران” ستتزوج تلك الفتاة.
  • مَن، أنا؟ يا أختي “خاتون” أنا ما زلت صغيراً ولست شاباً.
  • هذا ليس مهماً، تتزوج وتنقذ الفتاة من أن تسلم. سوف يزوجونها ويبيعونها في سن الخامسة عشر، أنت ستنقذ “يغسا”، لا يوجد حل سواه.
  • يا أختي “خاتون”، كلامك على رأسي لكن أنا لا أعرف تلك الفتاة وكيف هي؟
  • لا يهم، يكفي أنها أرمنية وقعت بيد أتراك. ستتزوج تلك الفتاة مهما حصل.

كان قرار “خاتون” قطعياً وكانت حادة وصارمة أكثر من الأم، فلم يستطع “مهران” رفض أخته الكبيرة “خاتون”.

أرسلت “خاتون” خبراً لـ”يغسابيت” الخائفة من ذلك الاقتراح والمستغربة بوجود أرمن غيرها على الأرض، استطاعت “خاتون” إقناع “يغسابيت” التي ما زالت صبية صغيرة، فماذا تريد الفتاة سوى أن تنقذ وتتزوج من أرمني.

أثارت هذه الزيارات شكوكاً عند معلم “يغسابيت”، فضرب تلك البنت “الكلبة” بقوة كي لا تتجرأ وتهرب من ذلك البيت، فتألمت المسكينة كثيراً.

لن تسكت “خاتون” وتتوانى، فبعد أن صبرت عدة أشهر أتت بـ”يغسو” وسلمتها لـ”مهران”، وثم وجدا أحد خدام الله وتزوجا رسمياً.

لا، لم تكن “يغسا” فتاة عادية، إنها فتاة رائعة، عاشت معه مع “مهران” مدة ثمانين عاماً، وكانت “خاتون” قد تدبرت أمرهما للأمان وانتقل “مهران” وزوجته الى قرية بعيدة أكثر. وهكذا فعل “مهران” ذهب مع زوجته واستقر في قرية حميمة بقرب الرقة. وعلى الفور، أصبح هناك ميكانيكياً مطلوباً، وفي نهاية الأمر صار ميكانيكياً معروفاً للمضخات. كان معلمه سليم قد أعطاه مبلغاً جيداً.

كان “مهران” و”يغسو” يعتقدان أنهما إن لم يكونا العائلة الأرمنية الوحيدة في العالم فهما من العائلات الأرمنيات النادرة. وسيبدأان بمهمة بناء أمة ابتداء من عائلتهم.

* * *

*قصة من كتاب “شهادة مدى الحياة ..من آرام الى آرام” للكاتب كيفورك أبيليان، ترجمة د. نورا أريسيان، عنجر – لبنان، 2006.

Share This