قصة “الخبز في فم الكلب” للكاتب كيفورك أبيليان (2)

وبعد عدة سنوات، صار “مهران” الشاب صاحب عائلة بعمر الإثنين والعشرين وقرر أن يذهب الى حلب ليشتري أغراضاً للبيت والمشغل. كان قد سمع أن حلب هي مدينة كبيرة ومرّفهة، فسيجد كل شيء هناك. ولا أحد يمكن أن يفرقه عن عربي بالدشداشة والعكال على رأسه، وشمس الصحراء قد لفحت وجهه.

وعندما كان يمر بحي العزيزية في حلب استوقفه صوت آلة، فكان يسمع صوتاً رتيباً لضربتين من عصا خشبية، ما هذا؟ كم مضى من سنوات طويلة ولم يسمع هذا الصوت، فهو متأكد أنه في الداخل هناك من يصنع السجاد، فهذه الصنعة كانت معروفة ومنتشرة في “مرعش”، حيث أوصلها الحرفيون الأرمن الى قمتها، من كان في الداخل؟ أيكون صانع سجاد أرمنياً؟ ولكن هل بقي أرمن؟

ومن المحل بسقفه المنخفض، كانت تسمع كلمات باللغة التركية، أدرك “مهران” في عقله أن الذين في الداخل هم أرمن، فالأرمن في كيليكيا يعرفون لغة عدوهم، وكأن اللهجة أيضاً كانت تبدو معروفة بالنسبة إليه.

وعندما اقترب أكثر، سمع مناقشة بصوت عال بين رجال: “مدينتنا أورفا”، “مدينتنا مرعش”، “مدينتا عنتاب”.. فقط الأرمن يمكنهم أن يتحدثوا بهذه الحميمية ويقولوا “مدينتنا” عندما يتحدثون عن “مرعش” و”أورفا” و”عنتاب”..دخل “مهران” وسأل بكل صدق:

  • مرحبا يا أفندية، يبدو أنكم أرمن، هل بقي أرمن على وجه البسيطة؟

هذا العربي يتحدث باللغة الأرمنية، على كل حال، هذا السؤال يُسأل غالباً.

  • نعم يوجد، فذلك الضبع المسمى طلعت لم ينجح بأن يترك أرمنياً واحداً وينفذ عهده، ففي العام الماضي قتل في بلاد ألمانيا. وأنت؟ من أي مدينة أنت؟
  • أنا من “مرعش”.
  • ماذا ؟ أنا أيضاً مرعشلي، اسمي “كربيت أفندي”، ابن من أنت، وما اسمك؟

لم تكن ثياب “كربيت” توحي بالأفندية ولكن الرجل ما زال يحب الألقاب، وما المشكلة في ذلك.

  • أنا ابن “هاكوب كفرك”، اسمي “مهران”.
  • إيه، إيه، إنه ابن الذي خطف الخبز من فم الكلب..
  • ماذا تقولون يا أفندية ؟ ومن روى لكم هذه القصة؟ كان ذلك اليوم احتفالاً بالنسبة لنا، كان خبزاً، خبزاً حقيقياً، والدي لم يأكله..
  • والله يبدو أن الرجل على حق. أكد “طوروس” صانع السجاد الذي توقف عن عمله ووضع كيس كبب الغزل الملونة جانباً.
  • يا “كربيت” أفندي، هل والدي على قيد الحياة وأين هو؟
  • وماذا يكون مصير الذي يخطف الخبز يا بني؟ طبعاً هو حي يرزق، إنه هناك، على بعد شارعين من هنا. فلنذهب، وها نحن سنتفرج على فيلم جديد.

وأفرغ مشغل “طوروس”، مضى أربعة –خمسة أشخاص أحاطوا بـ”مهران” الى بيت “هاكوب كفركيان”.

  • وهل أخوتي وأختي أيضاً أحياء؟
  • نعم هم أحياء، أحياء، لا تخف، لنر ماذا سيفعل هذا الانجيلي “هاكوب”.

وصل الموكب ويقوده “كربيت أفندي” الى باب بيت “هاكوب”. كان “هاكوب” يعيش في حوش مميز في حلب، والباحة محاطة بسبع-ثمان غرف، في كل واحدة منها كانت تعيش عائلة. و”هاكوب” يسكن في إحدى الغرف على الطرف وعندما فتح الضيوف الباب الخارجي، فتح لهم “هاكوب”.

  • أهلاً وسهلاً، أهلاً بكم، تفضلوا ادخلوا.
  • أهلاً بك، ولكن لا وقت للجلوس، أنت أخذت مالاً من هذا الرجل العربي قبل زمن بعيد، وأتى الرجل يريد ماله.

فاندهش “هاكوب” وقال: – أنا ؟ اليسوع يشهد أني لم آخذ مالاً منه، من هذا الوقح، أعوذ بالله..

  • لا تقل أشياء من الانجيليين، اعط الرجل ماله. وبعد، أنت خطفت الخبز من فم كلبهم.
  • لقد خطفت الخبز من فم الكلب ولكنه كان كلب شارع متشرداً.
  • انظر جيداً، هذا الرجل يعرفك، انظر إليه، أليس عندك ما تعطيه؟
  • اليسوع يشهد، الله يشهد، لست مديناً لأحد، خافوا الله..
  • أين ابنك “مهران”..
  • فليكشف عن وجهه، أظن أنه ابني “مهران”، بسرعة، ليكشف عن وجهه..

في أثناء ذلك، كان “مهران” يمنع نفسه بصعوبة، أخفض الكوفية التي حجبت وجهه ورأسه وسقط في حضن والده.

  • يا بابا، يا أبي..

كان الأب والابن يتمايلان متعانقين ينحبان، كان “هاكوب” فاقداً لأي أمل برؤية ابنه، أما “مهران” فلم يكن يحلم فقط بالعثور على والده بل بأي أرمني على الاطلاق، والآن، هو في حضن والده، أليست هذه معجزة؟

  • يا بابا، أين “سركيس” وأرتين” و”مريميك”؟
  • يا بني، أخوتك يعودون على التو، و”مريميك” صارت “مريم”، انظر.

وكانت “مريم” الفتاة الشابة تقف الى جانبهم تبكي من فرحها وتأثرها، أخذها “مهران” في حضنه وبقبلاته يرسم وجنتيها وشعرها ويديها وثم حضن والده ليقبل يديه.

تجمع حولهم من أرشد “مهران” الى المكان وكذلك جيران “هاكوب” والكل كان متأثراً، البعض يبكي حتى “كربيت” المازح كان يبكي.

وبعد قليل، دخل “سركيس” و”أرتين” بملابسهم المتسخة، فالاثنان يعملان عند ميكانيكي، كصانعين، تعانق الصبيان مع أخيهما فشوق السنين لا يمكن استرداده في بضع دقائق,

وبدأ أفراد العائلة يروون ما جرى لهم بين دموعهم، فيسأل السؤال عشر مرات ليجاب عليه بعدد تلك المرات.

بين “مهران” أنه تزوج..

  • قل ذلك، أنت تزوجت من بدوية؟
  • أعوذ بالله، أعوذ بالله، نحن أرمن يا بابا، زوحتي اسمها “يغسو”.
  • ابنة من هي؟ إن لم تكن من مرعش فلن أقبل بها.

تدخل “مربيت” وقال: – ومن أين لابنك أن يجد المرعشلية في الصحراء. حسناً تفعل ألا تشترط أن تكون إنجيلية.

  • زوجتك على رأسنا، أهلاً بها، اين هي ، أليست معك؟
  • بيتنا في قرية حميمة.
  • وهل هناك أولاد وبنات؟
  • رزقنا بالبكر والثاني على الطريق.

تدخل “كربيت”: – حسناً فعلت يا “مهران” ، لقد فقدنا الكثير يجدر بنا أن نعوض.

  • وأين هي هذه القرية، في أي اتجاه هي؟
  • أبعد من الرقة بقليل.
  • وهل تكللتما؟
  • ألست من هذا العالم يا “هاكوب”؟
  • أنا لن أقبل دون إكليل. فذاك سيكون زنى.
  • لن يكون شيئاً، غداً يأتي بزوجته ويتكللان.
  • وهل يمكن ذلك؟
  • ستقيم عرساً، إيه، ونشرب العرق.
  • عرس، نعم، لكننا إنجيليون، نحن لا نسقي العرق.
  • ذلك بخل، نحن نريد الاحتفالات.
  • أنا أحضر معي خروفاً، نذبحه ونحتفل، لا تقلق.
  • هكذا تكون الأمور، دعني أقبل عينيك يا “مهران”. يا “هاكوب” سأسألك سؤالاً يراودني منذ مدة، ذلك الكلب في حماة، لماذا لم تكن رحيماً على الكلب المسكين وخطفت الخبز من فمه، رغم أنك إنجيلي. ما هذا الضمير، كيف تخطف الخبز من الحيوان المسكين.
  • إنهم الأتراك، هم الذين أوصلونا الى ذلك الحال، يا “كربيت” آغا. ماذا عساي أن أفعل، فهو كلب ويمكنه أن يجد عظمة، ولكن أنا لا أستطيع، حرام أولادي المساكين.

وبعد فترة، بقي أصحاب البيت لوحدهم، اهتم “مهران” بمغامرة “مريم”، متى وكيف التقت بعائلة والدها. فلم يشبع “هاكوب” فضول ابنه.

طالت فترة التهجير أطول مما توقع، فهو وغيره من الأرمن كانوا يأملون أن يعودوا الى “مرعش” بعد بضعة أشهر، وتحولت تلك الأشهر القليلة الى خمس سنوات تقريباً. وبعد الحرب الضروس، عاد المرعشلية الى مدينتهم مثلهم مثل باقي أهالي كيليكيا، فرغم الفقدان والحرمان كان الناجون متفائلين. سيكون لديهم مملكة وستعود كيليكيا مستقلة من جديد، فأبطال جبهة “أرارا” (قرية تقع في فلسطين. المترجمة) لم يقاتلوا عبثاً الى جانب الحلفاء المنتصرين، فوعودهم كانت سخية.. هذه المرة، سيقررون مصيرهم بأنفسهم.

انشغلوا بإعادة الإعمار بروح غير مسبوقة. فسيحصلون على مملكتهم، لن يطول ذلك. لكن لم تكن الأمور مدبرة على هذا النحو، فقد ضحى حلفاؤنا الكبار لحليفهم الصغير على مذبح مصالحهم، عندما استفاق المرعشلية في أحد الأيام رأوا أن الجيش الفرنسي انسحب من المدينة بكل هدوء.

وبعد المقاومة من دون فائدة، انطلقوا على طريق التهجير من جديد، ولكن هذه المرة، لا يوجد دير الزور ولا الفزع، لا يوجد العساكر الأتراك العثمانيون أو عصابات الأكراد “التشاتا”، إلا أن التهجير هو تهجير وأمر مريع.

وصل “هاكوب” الى حلب، حيث كان بالإمكان الحصول على لقمة لا بأس بها، ولا داعي لخطف الخبز من فم الكلب، أما فقدانه لابنته “مريم” وابنه “مهران” كان يثقل قلب “هاكوب”، ماذا جرى لهما، فقد سلم بنفسه ابنه وابنته للغرباء. يا ترى هم أحياء أو أموات، وهل استعربا. واستمرت الحياة، ولكن الآن ابنه وابنته في سن الشباب غائبين عنه، كان هذا الأمر يتعب قلبه ويثقله.

وفي أحد الأيام، انزوى أحد الأصدقاء بـ”هاكوب” وكشف أن ابنته “مريم” قد شوهدت في حماة، ففزع “هاكوب”. يا الله، يا يسوع، فليكن ذلك حقيقة.

ذهب “هاكوب” مع ولديه “أرتين” و”سركيس” الى حماة برفقة هذا الصديق. كم كانت الرحلة بطيئة، لكن كم هي ميّسرة مقارنة برحلة التهجير القسري. بحثوا في حماة بكل سرية، فالصديق ليس متأكداً من المكان الذي شوهدت فيه، لكن يعلم جيداً أنها في تلك المدينة. وبعد الاستفسار أخيراً تم العثور على “مريم”. كان “هاكوب” متأكداً أنها ابنته ولكن يجب التصرف بحذر، فالعائلة التي تبنتها لن ترضى تسليم الفتاة الشابة وهم يمكنهم تزويجها بمهر جيد. فهذه الفتاة هي ثروة لهم الآن. وأخيراً دخل “هاكوب” ومرافقوه الى بيت تلك العائلة العربية وشرحوا لهم أن ابنتهم موجودة عندهم.

  • لا والله، هذا محال. فالفتاة التي أتى من أجلها هؤلاء الخواجات هي ابنتهم الشرعية، فهي ابنتهم بدمها وعظمها. وكانت ربة البيت على وجه الأخص تسعى جاهدة لتبرهن أنها هي أم الفتاة الحقيقية.

وطبعاً كان من الواضح بالعين المجردة أن “مريم” من دم وعرق مختلف. فأفراد العائلة كلهم سمر أما هذه الفتاة فهي مختلفة ببشرتها البيضاء وشعرها الأشقر وعيونها. لكن أقسم أصحاب البيت ألف مرة ليثبتوا أن “مريم” ابنتهم.

أما “مريم” فكانت في حيرة، فهي تذكر بعض الأمور، فهي أتت من مكان آخر، كانت دائماً فتاة جائعة وحافية وثيابها رثة ممزقة. ولكنها الآن في هذا البيت منذ عشر سنوات تقريباً وتبنت لغة المحليين وتقاليدهم وتشعر أنها مثلهم.

فسأل “هاكوب”: يا ابنتي، ألا تذكرين ماما “خاتون” و”مهران” وأرتين” و”سركيس”.

وسألها الصديق: ألا تذكرين والدك هذا، الذي خطف الخبز من فم الكلب وأحضره لكم.

واغرورقت عيون “مريم” بالدموع، وكأن وجوهاً غير واضحة مفقودة في الضباب وأحداثاً تحيى بداخلها، ولكن ماذا تفعل، وكيف تتصرف؟

كانت العائلة لا تتزعزع، فهذه هي ابنتهم، ففكر “هاكوب” أن يقصد الحكومة. فوجد ضابط الشرطة نفسه أمام حالة عادية ، فالعديد أتوا ليقدموا مشاكل من هذه النوع، والآن هذه الحالة اعتيادية واستجواب ولكن دون جدوى.

وعندما دخل العقيد الفرنسي، أعطى ضابط الشرطة طابعاً جدياً لعمله.

أمر العقيد وقال: – قارنوا بين أقدام هذين الشابين وهذه الفتاة.

كانت أخفاف “أرتين” و”سركيس” و”مريم” متشابهة الى حد كبير وكذلك هناك تشابه في أجسادهم، فاستسلمت العائلة العربية فلم تكن “مريم” ابنتهم.

ولكن الأمور لم تكن سهلة على “مريم”، لقد بقيت عند هذه العائلة سنوات طويلة واعتادت عليهم وعلى سلوكهم وعاداتهم، أين ستذهب الآن، كانوا سيزوجنها لأحد أبناء أعمامهم، فهي تستلطف عبدو فأين ستتركه. لكن استيقاظ الذكريات القديمة كان يدفعها الى الانضمام الى والدها الحقيقي وأخوتها. الفراق كان صعباً بالنسبة لها ولمن تبناها.

أحس “هاكوب” أن وجعه متشارك الآن فابنته “مريم” ستحيي ذكرى زوجته. فعندما وجد “مهران” نزل عن كتفه ثقل كبير، يبقى فقدان زوجته “خاتون” الذي تصالح معه لأنه رأى موتها ولا يهم أنه لم يتمكن من دفنها.

أتى “مهران” بزوجته وعرفها على والده وأخوته، فرح الجميع وأحبوا “يغسو”، وكان اسم كنته “يغسو” يعزي بعض الشيء “هاكوب” لأنه اسم أمه أيضاُ.

قام “هاكوب” بتدبير أمور عرس “مهران” و”يغسو” حتى ولو مضت عدة سنوات على زواجهما. أقسم “مهران” و”يغسو” في الكنيسة ذات الألواح المعدنية أن يبقيا وفيين لبعضهما البعض أمام الله والقسيس والأقرباء، وهكذا كان.

ووهبهما الله حياة مديدة، وعاشا تقريباً ثمانين عاماً سوياً وواجها أياماً حارة وباردة، أما في عام 1999، فقد فارقا الحياة، “يغسا” في شهر أيار و”مهران” في شهر “تشرين الثاني بفارق بضعة أشهر وودعا بعضهما بعضاً.

* * *

روت لي هذه القصة السيدة “زاغيك كفركيان-كيفوركيان” ابنة “مهران” و”يغسا”.

*قصة من كتاب “شهادة مدى الحياة ..من آرام الى آرام” للكاتب كيفورك أبيليان، ترجمة د. نورا أريسيان، عنجر – لبنان، 2006

Share This