شهادة فريديوف نانسن (3)

وفي غضون ذلك، بدأ الأرمن في يريفان إعادة بناء بلدهم الذي آل إلى الخراب الكامل، والذي غص باللاجئين، وذلك بنشاط وجهد لا يعرف الكلل أو الملل. وفي ظل حكومة مقدام، برئاسة الطبيب الأرمني خاديسيان، الذي كان يشغل منصب عمدة تفليس، أعاد الأرمن نشر النظام، وبدؤوا زراعة الأراضي، وبناء بيوت لتوطين اللاجئين، كما أنشؤوا صناعات متعددة، وحصلت الحكومة على قرض مقداره 20 مليون دولار، كما تلقت معونة أخرى من الخارج وخاصة من منظمة غوث أرمن الشرق الأدنى التي عملت على إنقاذ أرواح آلاف الأطفال الأرمن بإدارة السيد فيكري (Mr . Vickrey).

وفي 28 أيار 1918، أعلنت حكومة يريفان استقلالها ووحدة الأراضي الأرمنية التي كانت تشكل القوقاز الروسية والأراضي الواقعة ضمن الإمبراطورية العثمانية، وأعلنت نفسها الجمهورية الأرمنية المتحدة، وفي شهري تموز وآب من العام نفسه أعلنت المؤتمرات الوطنية التركية التي دعا إليها مصطفى كمال في أرضروم وسيواس أنه “يجب ألا يتم التنازل عن أي شبر لأرمينيا أو لأي دولة أخرى من أراضينا”.

وكانت مفاوضات السلام في باريس تجري ببطء في ذلك الوقت، وعقد في باريس مؤتمر لعموم الأرمن من جميع الدول برئاسة كل من أواديس أهارونيان الشاعر والزعيم الشعبي، وبوغوص نوبار باشا المتحدث الرسمي للأرمن لدى دول الحلفاء خلال فترة الحرب، وقد وضع خطاب وجه إلى مؤتمر السلام، وقع عليه الرئيسان في 12 شباط 1919، ضم فيه أسس المطالبة بقيام دولة مستقلة مادام تعهد الحلفاء بمنحها للشعب الأرمني. وفي 19 كانون الثاني 1920 قرر المجلس الأعلى لمؤتمر السلام الاعتراف بالحكومة الفعلية للدولة الأرمنية، واقترح أن تقوم عصبة الأمم بالدفاع عن الدولة المستقلة، وذلك بوضعها تحت الانتداب، وأجاب مجلس عصبة الأمم بتاريخ 11 نيسان 1920 بأنه ليس لديه الوسائل الضرورية (مثل العسكرية أو المالية) الكفيلة للقيام بهذه المهمة. كما أن ذلك، لم يكن يتماشى مع الأهداف التي أنشئت من أجلها، وكانت أفضل طريقة لحماية مستقبل الأمة الأرمنية، تكمن في إيجاد دولة، تقبل في انتدابها تحت إشراف العصبة ودعمها المعنوي. وفي 25 نيسان 1920 طالب المجلس الأعلى عن طريق الرئيس ويلسون الولايات المتحدة، بأن توضع أرمينيا تحت انتدابها، وفي 31 أيار 1920 رفض مجلس الشيوخ في الولايات المتحدة الانتداب، غير أن الرئيس ويلسون أخذ على نفسه أن يصبح حكماً في مسألة الحدود الأرمنية، لكن الطلبات اللاحقة التي كانت تطالب الدول الكبرى بقبول الانتداب، لم تجد نفعاً.

وكانت معاهدة سيفر بين تركيا والحلفاء والموقعة في 10 آب 1920، والتي كان رئيس وفد جمهورية أرمينيا أحد الموقعين عليها، قد اعترفت بأرمينيا (من الناحية القانونية) على أنها دولة حرة مستقلة وذات سيادة، وتركت أمر رسم الحدود بين تركيا وأرمينيا في أقاليم وان وطرابزون وبيتليس لتحكيم الرئيس الأمريكي ويلسون. أما الدول الكبرى فكانت “ستوافق على قراره واتخاذ جميع الترتيبات التي يوصي بها، في ما يتعلق بتأمين منفذ لأرمينيا إلى البحر، وتجريد الأراضي العثمانية المجاورة للحدود موضوع النزاع من السلاح”،… إلخ. وهذا الأمر لا يقل سخفاً عندما نتذكر أنهم لم يجردوا حتى المناطق التي تخص الأرمن من السلاح. وبعد قرابة ثلاثة أشهر حدد الرئيس ويلسون الحدود (وتم إعلانها على الملأ في 22 تشرين الثاني 1920)، وحصلت أرمينيا بموجب ذلك على خريطة تضم أرضاً تبلغ مساحتها 127,000 كم2 تقريباً، وكان هذا أقل مما كان متوقعاً، إلا أنه كان كافياً بالنسبة للأرمن. ولكن لسوء الحظ، فإن أراضي أرمينيا التركية موضع البحث كانت لا تزال تحت الاحتلال التركي، ولم يشرح الحلفاء كيف يمكن للأرمن الحصول عليها. ولم يتخذوا أي خطوات من أجل تنفيذ الالتزامات الجديدة التي تعهدوا بها لإعادة المنطقة إلى الأرمن التي قدموها لهم على الورق فقط، وكل ذلك يثبت أن هذا لم يكن سوى مهزلة مؤسفة– وكأن سياسيي الدول الكبرى يقرون بعدم جدوى وأهمية الالتزامات التي يقطعونها– للشعوب الصغيرة التي لا تتمتع بمصادر طبيعية من الثروات. ورفض مصطفى كمال، يحدوه في ذلك عدم اكتراثهم ولا مبالاتهم، الالتزام بالمعاهدة، مع أن الحكومة الشرعية التركية، كانت قد وقعت عليها، بل قام بمهاجمة الأرمن، ولم تظهر الدول الكبرى أي اهتمام يذكر، تلك الدول التي جعلت الأرمن، يريقون دمهم في سبيلها، وكانت المكافأة التي قدمتها لهم وثيقة عديمة القيمة.

ومع انهيار جيش المتطوعين في بداية 1920، تغير وضع القوقاز، إذ استولى البلشفيون على باكو في 27 نيسان 1920. وعندما انسحبت القوات البريطانية من باطوم في 6 تموز 1920، تركت جورجيا وأرمينيا، تكافحان وحدهما من أجل الحفاظ على استقلالهما، وفي أيلول من العام نفسه، تقدم الأتراك ثانية من الغرب، وكان الأرمن في أمس الحاجة إلى الذخيرة والمؤن والألبسة، إلا أن أحداً لم يمد يد العون إليهم، وقام الجيورجيون بعمل كل شيء، من دون أن تقدم دول الحلفاء أي مساعدة إليهم. وتم الاستيلاء على كارس من دون أن تطلق رصاصة واحدة، وحدثت مرة أخرى مجزرة، تقشعر لها الأبدان، كما تم الاستيلاء على ألكسندروبول، وقتل شعبها، كما أعلمت فيها يد النهب، وتمكنت يريفان من الإفلات من هذا المصير في اللحظة الأخيرة، بعد أن عقدت تحالفاً مع الحكومة الروسية في موسكو، على حين لجأت الحكومة التي يرأسها خاديسيان إلى الجبال.

وفي 2 كانون الأول 1920 تم إبرام معاهدة سلام بين حكومتي يريفان وأنقرة في ألكسندروبول، وتم تقليص مساحة الأرض التي تقع عليها جمهورية أرمينيا من 60,000 كم2 إلى أقل من نصف تلك المساحة، وتدفقت أفواج جديدة من اللاجئين، وحدث كل هذا بعد قيام رئيس الولايات المتحدة برسم حدود دولة أرمينيا المستقلة ببضعة أيام، فيما كانت عصبة الأمم، تعقد جلسة لها في جنيف، تبحث فيها إمكانية قبول تلك الدولة بالانضمام إلى عضوية عصبة الأمم. وكانت ثمة آراء قوية تدعو إلى مساعدة الأرمن الذين تعرضوا للقمع والظلم في نضالهم غير المتكافئ ضد الأتراك، وعلى رأسهم مصطفى كمال، إلا أن ذلك لم يثمر عن شيء، سوى أن صرح عضوان في العصبة– إسبانيا والبرازيل– والرئيس ويلسون، بأنهم يرغبون في التدخل لمصلحة الأرمن في نضالهم مع تركيا، ومن سخرية القدر أن هذا الاقتراح، قدم إلى جمعية عصبة الأمم في جنيف في اليوم نفسه الذي تم فيه توقيع معاهدة السلام في ألكسندروبول.

     ولم تنجح الإدارة البلشفية الجديدة في يريفان برئاسة الشيوعي كاسيان، الذي طرد بعد بضعة أشهر، واستدعيت الحكومة القديمة. وفي نيسان 1921 دخلت قوات الجيش الأحمر إلى يريفان، وتم تشكيل حكومة جديدة برئاسة أرمني يدعى مياسنيكيان، وكانت هذه الحكومة حكيمة ومعتدلة، وتم إعلان عفو عام، وطلب من الطبقات المثقفة المشاركة في إعادة بناء البلد الذي كان في أمس الحاجة لذلك، ومن الطبيعي أن يكون الكرب عظيماً في أرض حولتها الحروب المستمرة إلى أرض يباب وغصت باللاجئين، وفي الخريف، أصابتها مجاعة، فهلك المئات، وامتلأت شوارع المدن مثل ألكسندروبول ويريفان بالجثث، غير أنه سرعان ما اتخذت إجراءات حيوية. وما يدعو إلى الاستغراب حقاً، أن تتمكن الحكومة من إحراز تقدم ملحوظ خلال بضع سنوات بإمكانيات ووسائل محدودة جداً. فقد حل النظام والازدهار محل الفوضى والبؤس، وما زالت الدولة الفتية تمضي قدماً، وهي تحرز تقدماً مهماً في ظل إدارة حكومتها القديرة.

    وتمكن مؤتمر عقد في كارس خلال تشرين الأول–  تشرين الثاني 1921 من تسوية النقاط موضع الخلاف بين حكومة أنقرة والحكومة الأرمنية البلشفية، وسمح لتركيا بالاحتفاظ بكارس وأرداهان، وصدر مرسوم عن الحكومة السوفييتية في موسكو بتشكيل اتحاد بين الجمهوريات السوفييتية الثلاث للقوقاز وهي: أرمينيا وجورجيا وأذربيجان– ويتبع هذا الاتحاد جمهوريات الاتحاد السوفييتي الاشتراكية ومقر الحكومة في موسكو.

    وكان هذا هو الحل الوحيد الذي يكفل حماية الشعوب المعنية من الدمار، ولكن من الغرابة بمكان أن الدول التي لم تنفذ التزاماتها والتي تناست جميع الوعود التي قطعتها، لم تقدم على عمل أي شيء حيال الأرمن الذين تعرضوا للقهر والقتل، على حين كان بوسعها أن تفعل شيئاً ما، بل أنحت باللائمة على الأرمن، لأنهم قبلوا الصيغة السوفييتية في تشكيل الحكومة من أجل إنقاذ بلدهم وشعبهم، واتخذت هذه الإدانة ذريعةً لعدم إقدامها على عمل أي شيء، لأن هذه الدول، فقدت الاهتمام بالشعب الأرمني، كما فقدت الاهتمام بالوعود التي ضربتها.

     ومع مضي الوقت، عاد كثير من الأرمن الذين نجوا من المجازر والترحيل إلى الأراضي الأرمنية في الأناضول، وبتشجيع من الحلفاء عاد كذلك 200,000 لاجيء إلى بيوتهم في كيليكيا، حيث قام القوات الفرنسية بحمايتهم، ولكن في شباط 1920 قام كمال باشا بمهاجمتهم، وقتل 30,000 أرمني في هاجين ومرعش، وعقد الفرنسيون اتفاقاً في تشرين الأول 1921 لإخلاء كيليكيا– على الرغم من جميع الوعود التي ضربها الحلفاء، بينما مضى لحماية الأرمن هناك– ولم يعد ثمة شيء يدعو السكان للبقاء، فحصلت هجرة جماعية إلى سورية ودول أخرى.

    ثم جاء الفصل المظلم والأخير من مأساة الشعب الأرمني، ففي خريف 1922، طرد الأترك بقيادة مصطفى كمال اليونانيين من آسيا الصغرى، وطرد مرة أخرى آلاف وآلاف الأرمن من بلادهم، وأصبحوا كالمنبوذين، وارتكبت ضدهم فظائع جديدة، ووصل الهاربون الذين جردوا من كل شيء إلى اليونان وبلغاريا والقسطنطينية وسورية، بينما هربت أعداد ضخمة أخرى إلى أرمينيا الروسية، وصادر الحكام الأتراك جميع الممتلكات التي خلفوها وراءهم.

ولم يكن بالإمكان حصر عدد الأرمن الذين قتلهم الاتحاديون في مجازر 1915– 1916، وإذا أخذنا الإحصائيات المأخوذة قبل الحرب، والتي تبين وجود 1,845,450 أرمنياً في تركيا، خلص الدكتور ليبسيوس إلى أنه قتل إلى عام 1919 نحو مليون من هؤلاء، أو ماتوا خلال الفترة التي بقي فيها الـ 845,000 على قيد الحياة، ومن بين هؤلاء كان نحو 200,000 يعيشون في بيوتهم في تركيا، وهرب زهاء 200,000 إلى معسكرات الاعتقال في سورية وبلاد ما بين النهرين. واستناداً إلى هذه الإحصاءات، فقد قتل الأترك خلال هذه الفترة أكثر من ثلثي الشعب الأرمني في أرمينيا الغربية (التركية).

ولم تكتف السلطات التركية بطرد وتشريد الشعب البائس، بل استولت على أملاك الأرمن في الأناضول والتي تقدر قيمتها بمئات ملايين الجنيهات. لقد انبثقت أعمال الأتراك اللاإنسانية من تعصب زعمائهم اللاديني، إذ وقف الاتحاديون من الدين موقف اللامبالاة، ولإيفاء الشعب التركي حقه، لم يكن هذا الشعب يرغب في القيام بالنهب والقتل، كما كانت تتمنى السلطة، بل إنهم في بعض المناطق أبدوا معارضة لترحيل الأرمن، كما أن بعض المسؤولين الأتراك، رفضوا إطاعة الأوامر، وحاولوا إنقاذ الشعب الأرمني، إلا أن السلطات سرعان ما تمكنت من تذليل هذه المصاعب، وتم عزل أو قتل المسؤولين المتعاطفين مع الأرمن، ولم تكن خطة إبادة الشعب الأرمني أكثر من كونها خطة سياسية محسوبة بدقة، والتي كان هدفها إفناء العناصر المتفوقة من السكان، والتي يمكن أن تكون مثيرة للمتاعب، كما يجب إضافة دافع الجشع إلى ذلك.

إن شناعة هذه الفظائع فاقت جميع الأهوال والفظائع التي عرفها التاريخ سواء في مداها أو في قساوتها المروعة، ولا يمكن أن يصدر ذلك إلا عن أمة لا تزال تفكر بعقلية العصور الوسطى، ولكنها تمتلك وتستخدم وسائل العصر الحديث. إنَّ ما تقدم ذكره، يظهر أن جمعية الاتحاد والترقي التي أصدرت أوامر الإبادة، كانت مستعدة لتحمل مسؤولية العار الذي سيصم التاريخ العثماني “لإفناء شعب من رعاياها، وقد أعلن أنور باشا رداً على ممثل السفير الألماني بأنه” يتحمل مسؤولية كل شيء حدث في الأناضول” ويجب أن يتحمل هو والقادة الأتراك اللوم بسبب إضافتهم إلى تاريخ تركيا الملطخ بالدم فصلاً مروعاً، يجعل من بقية الفصول الأخرى قليلة الأهمية، فقد كانت مجازر عبد الحميد لا تساوي شيئاً، إذا ما قورنت بالمجازر التي ارتكبها الأتراك “المعاصرون”.

وفي 30 حزيران 1916، كتب السفير الألماني الكونت مترنيخ إلى المستشار الإمبراطوري أن “الجمعية تطالب بالقضاء على آخر ماتبقى من الأرمن..” وعندما لم يبقَ بحوزتهم شيء يسلب منهم، “فإن الكلاب تنتظر بفارغ الصبر اللحظة التي ينقلب فيها اليونانيون الذين تشجعهم دول الحلفاء ضد الأتراك أو حلفائها، لكي ينقضوا على اليونانيين وممتلكاتهم”، إن سياسة التتريك تعني طرد أو تدمير أي شيء ليس لتركيا، وكذلك القضاء والاستيلاء بالعنف على ممتلكات الآخرين. في هذا، وفي تكرار العبارات الفرنسية عن الحرية، تتشكل النهضة التركية الحديثة الحالية …”، ذلك هو حكم حليف وصديق، ومن أجل إتمام الصورة، ينبغي ألا يغيب عن البال أن الأرمن الذين قام الاتحاديون بإفنائهم بهذه الطريقة المروعة، كانوا أصدقاءهم وحلفاءهم، استفادوا منهم، وتعاونوا معهم، عندما كانوا يسعون للوصول إلى السلطة. أما الآن.. فقد أخذوا بقتل الشخصيات الأرمنية البارزة التي جازفت بحياتها، وأنقذت حياة زعماء الاتحاديين، عندما استعاد السلطان عبد الحميد السلطة عام 1909، وأعمل يد القتل بالاتحاديين. ولحسن الحظ، لا يقدم لنا التاريخ أمثلة عديدة عن مثل هذه الدناءات الخيانية.

إلا أن الاتحاديين مضوا في عملهم الذي شرعوا به، فلقد استأصلوا الشعب الأرمني من الأناضول، وأصبح بإمكانهم القول على لسان طلعت باشا إنه “لم تعد ثمة مسألة أرمنية”، وإن ما حدث لم يعد يقلق بال أي سياسي في حكومات الدول الأوروبية أو أمريكا، إذ أصبح من الواضح لهم أن المسألة الأرمنية الأزلية، قد انتهت تماماً بسفك الدماء.

لقد رأينا أن الدول الغربية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، لم تقدم إلى الشعب الأرمني سوى الوعود، عندما كانت بأمس الحاجة للمساعدة في الحرب، ولكن ماذا عن عصبة الأمم؟ فقد قررت في اجتماعها الأول عام 1920 بالإجماع، أنه يجب على الدول الكبرى اتخاذ إجراء ما “لوضع حد لمأساة الشعب الأرمني المروعة بأقرب فرصة ممكنة” وحماية مستقبل الشعب الأرمني، وفي اجتماعها الثاني الذي عقد في أيلول 1921، أقرت مشروع قرار اللورد روبرت سيسل بالإجماع، مؤكدة رغبتها في أن يقوم المجلس الأعلى للدول الكبرى “بحماية مستقبل أرمينيا، ولاسيما منح الأرمن وطناً قومياً مستقلاً تماماً عن الحكم العثماني”، وأقرت في اجتماعها الثالث المنعقد في أيلول 1922 بالإجماع قراراً، تعلن فيه أنه “يجب عدم إغفال إقامة وطن قومي للأرمن خلال مفاوضات السلام مع تركيا، وطلبت الجمعية من المجلس، أن يتخذ الإجراءات الكفيلة بتحقيق ذلك”.

ثم جاءت مفاوضات السلام في لوزان بين تشرين الثاني 1922 وحزيران 1923، وعلى الفور تجاهل ممثلو الدول الكبرى البنود المتعلقة بأرمينيا في معاهدة سيفر، إلا أن اللورد كورزون طالب بالنيابة عنهم إقامة وطن قومي مستقل، أو بلد يخص الأرمن، ووصف القضية الأرمنية على أنها “إحدى أكبر فضائح العالم”، وقد رفض الأتراك هذا الاقتراح بشدة، وأخذ هذا الطلب يتقلص شيئاً فشيئاً خلال مروره عدة مراحل، حتى أضحى مجرد اقتراح بإقامة وطن للأرمن “في تركيا” من دون أن يكون له حتى حكومة تتمتع بالاستقلال الذاتي، وأن تكون من الناحية العملية، منطقة “خاضعة للقانون والإدارة التركية، حيث يمكن للأرمن أن يجتمعوا، وأن يحافظوا على بقاء عرقهم ولغتهم وثقافتهم”، ولكن حتى هذا الأمر قوبل بالرفض أثناء المفاوضات التركية، على حين اعتبر ممثلو الدول الكبرى، أنهم نفذوا واجبهم إزاء شعب أراق دمه من أجلهم، وعندما وقعت معاهدة لوزان في 24 تموز 1923 لم ترد فيها كلمة واحدة عن إقامة وطن للأرمن، وفي الواقع، تم توقيع المعاهدة، وكأن الأرمن “لم يكن لهم وجود أبداً” كما يذكر احتجاجهم ضدها.

وهكذا انتهت الجهود الهزيلة التي بذلتها دول أوروبا الغربية وأمريكا في الالتزام بالوعود التي قطعتها على الأرمن بمنحهم الحرية والاستقلال عندما استمالتهم للقتال دفاعاً عن قضيتها.

لماذا إذاً شكلت عصبة الأمم لجاناً لدراسة إمكانية اتخاذ إجراء ما، على الأقل بالنسبة للاجئين الأرمن الضعفاء؟ هل كانت بهدف إرضاء الضمير إن كان لا يزال هناك شيء متبق منه؟ ولكن ما الفائدة من هذه اللجان، عندما لا يمكن للمقترحات التي اتخذت بعد دراسة عميقة أملاها الضمير، وبعد تأييد جميع الخبراء أن تتضمن دعم حكومات الدول الكبرى التي رفضت ببرود شديد تقديم أكثر التضحيات بساطة للتخفيف من آلام اللاجئين الذين أصابتهم الفاقة والبؤس، والذين أغدقت عليهم الوعود الخلابة، والجواب المعروف عن ذلك هو أنه من غير المعقول التوقع أن يقدم شعب التضحيات من أجل شعب آخر في هذه الأوقات العصيبة، عندما لا يكون بوسعه سوى العناية بشؤونه الخاصة، ولكن ألم يكن من واجب الدول الكبرى أن تفكر بذلك من قبل؟ عندما قطعت لهذا الشعب البائس وعوداً والتزامات ذهبية، ذلك الشعب الذي كان في حالة أشد سوءاً، عندما ضحى ليس فقط بماله وممتلكاته؛ بل بحياته من أجل قضية دول الحلفاء.

في أيلول 1924 بعث السيد ستانلي بالدوين زعيم حزب المحافظين البريطاني رئيس الوزراء الحالي، والسيد اسكويث الذي كان يشغل آنئذٍ منصب رئيس الحكومة، رسالة ودية، يطلبان فيها أن تقوم بريطانيا بدفع مبلغ ضخم من المال لمساعدة اللاجئين الأرمن في كل من اليونان والبلقان… إلخ.

ونلخص سبب ذلك في النقاط التالية:

إن الوعود التي قطعها الحلفاء على الأرمن بمنحهم حريتهم لقاء دعمهم لقضية الحلفاء أثناء الحرب شجعتهم والتي من أجلها عانوا الأمرين.

ولنتذكر أنه في خريف 1914 رفض الأرمن في مؤتمرهم الوطني الذي عقد في أرضروم، العروض المغرية التي قدمها الأتراك، ورفضوا كأمة العمل من أجل قضية تركيا وحلفائها، على الرغم من أنهم أبدوا رغبتهم في تأدية واجبهم. وإن رفضهم الجريء هذا كان أحد الأسباب التي حدت بالحكومة التركية إلى ارتكاب المجازر المنظمة عام 1915. وقد خاضت قوات المتطوعين بقيادة القائد الفذ (أنترانيك) أشد أنواع القتال ضراوة أثناء حملات القوقاز، إذ إن الأرمن تمكنوا من الاستيلاء على جبهة القوقاز بعد هزيمة الجيش الروسي عام 1917، وعملوا على تأخير تقدم الأتراك لمدة خمسة شهور، وقدموا بذلك خدمة جليلة للجيش البريطاني في بلاد ما بين النهرين. كما أن كتاب اللورد برايس الرسمي الذي صدر عن الحكومة البريطانية تحت عنوان “معاملة الأرمن في الإمبراطورية العثمانية” كان قد استخدم على نطاق واسع للدعاية لمصلحة الحلفاء في 1916–1917، وكان له تأثير مهم على الرأي العام الأمريكي، وعلى قرار الرئيس ويلسون النهائي بدخول الحرب.

نظراً لأن المسؤولين في قوات الحلفاء، خلال فترة الحرب، ومنذ بداية الهدنة، كانوا قد قدموا تعهدات متكررة لضمان تحرير واستقلال الشعب الأرمني. إذ قدم السيد اسكويث هذه الالتزامات في 9 تشرين الثاني 1916 بصفته رئيساً للوزراء، والسيد لويد جورج في 5 كانون الثاني 1918، والرئيس الأمريكي ويلسون في 8 كانون الثاني 1918، والسيد كليمنصو رئيس الوزراء الفرنسي في 23 تموز 1918، والمركيز كورزون، بصفته وزيراً للخارجية البريطانية في 11 آذار 1920…إلخ.

نظراً لأن بريطانيا العظمى تتحمل مسؤولية جزئية عن تشتيت الشعب الأرمني على يد العثمانيين بعد طردهم من أزمير عام 1922.

إن الحرب اليونانية ضد تركيا التي نجم عنها القضاء النهائي على الأقليات المسيحية وطردها من آسيا الصغرى، كانت قد بدأت واستمرت بتوجيه مباشر من الحكومة البريطانية.

نظراً لأن الـ 5,000,000 ليرة تركية ذهبية التي كانت الحكومة التركية، قد أودعتها في برلين عام 1916 والتي استولى عليها الحلفاء بعد الهدنة كان معظمها (وربما كلها) أموالاً أرمنية.

نظراً لأن الظروف الحالية للاجئين غير مستقرة، وأحوالهم النفسية سيئة، وتشكل إدانة للدول الغربية.

وتتابع الوثيقة حتى تطرح السؤال التالي: ماذا يمكن عمله؟

إننا ندرك بمزيد من الأسف، أنه يستحيل علينا الآن تنفيذ التزاماتنا نحو الأرمن، ولكن هناك طريقة أخرى يمكننا أن نعبر فيها عن إحساسنا بالمسؤولية والتفريج عن المحنة البائسة، لمن تبقى من الأرمن الأتراك المشتتين، وإن أكثر المناطق الملائمة لتوطينهم، هي بالتأكيد أرمينيا الروسية، وأن تقدم الحكومة المحلية التسهيلات اللازمة”.

ويتبع ذلك سرد للخطة التي كانت موضوع دراسة، والتي لم تكتمل تماماً شأن المشروع الحالي، والتي كان وضعها في صيغتها العملية أمراً أكثر صعوبة. ويختتم الخطاب بقوله: “نرى أنه من واجب بريطانيا العظمى أن تقدم دعماً كبيراً لهذا المشروع، ونود أن نعبِّر عن رأينا، إنه كجزء من التعويض لقاء العهود غير المنفذة التي قطعت على الأرمن، فإنه يجب على الحكومة البريطانية أن تقدم منحة كبيرة…”.

التوقيع

هربت هـ . اسكويث

ستانلي بالدوين

يظن المرء أنه لا يمكن تجاهل هذه المناشدة المقتضبة والقوية الصادرة عن سياسيين قياديين من بريطانيا العظمى، ولا شك بأن رامسي ماكدونالد وحزب العمال، كانا سينفذان ما طلب منهما، إلا أن حزب المحافظين هزمه بعد فترة قصيرة، وتسلم السلطة برئاسة السيد بالدوين، ومن المؤكد أن الوقت قد حان! غير أن حكومة السيد بالدوين رفضت القيام بأي شيء حيال الشعب الأرمني، أو حيال اللاجئين الذين “يحق لهم معنويا” بعض التعويض.

ويمكن للمرء أخيراً أن يتساءل بشيء من اليأس: ماذا يعني كل هذا؟!

هل كان كل ذلك في حقيقته مظهراً خارجياً – كلمات جوفاء لاتحمل أي نية جادة أو صادقة [1].

أيضاً ألا تحمل عصبة الأمم أي إحساس بالمسؤولية؟، فعلى الرغم من رفض مفوضها لشؤون اللاجئين المتكرر الاطلاع على قضية اللاجئين الأرمن، منعت تقريباً الآخرين من تنظيم إجراءات فعالة لمساعدة الأرمن، لأنه يعتقد أن عصبة الأمم، لن تتبنى قضية من هذا النوع من دون أن تكون قادرة على التعامل معها بشكل مرضٍ، بعد كل التعهدات التي قدمتها الدول الكبرى. هل تعتبر عصبة الأمم أنها قامت بواجبها الآن؟ وهل تتصور أنها تستطيع أن تتخلى عن القضية من دون أن تتعرَض هيبة العصبة للخطر وخاصة في الشرق؟.

لقد سئمت الدول الأوروبية والسياسيون الأوروبيون من المسألة الأرمنية الأزلية، وبالطبع فقد جلبت لهم الهزيمة تلو الهزيمة، وإن مجرد ذكرها يذكر ضمائرهم التي تغط في سبات عميق، بقصة قاتمة عن وعود لم تنفذ،  والتي لم تتخذ خطوة عملية. وبعد هذا العناء، كانت النتيجة تعرّض شعب موهوب للمجازر، لعدم امتلاكه حقول نفط أو مناجم ذهب.

ويلٌ للأرمن، لأنهم وقعوا في يد السياسة الأوروبية!..

فقد كان من الأفضل لهم ألا يتفوَه أي دبلوماسي أوروبي باسم أرمينيا.

بيد أن الشعب الأرمني، لم يتخل عن الأمل، ولم يصل بعد إلى مرحلة اليأس، وهو ينتظر بشجاعة سنة بعد سنة.

وهو لا يزال ينتظر حتى الآن.

*شهادة فريديوف نانسن، من كتابه أرمينيا والشرق الأدنى

المصدر:  مختارات من بعض الكتابات التاريخية حول إبادة الأرمن عام 1915، ترجمة: خالد الجبيلي، اللاذقية – 1995. مقتطف من كتاب (شهادات غربية عن الإبادة الارمنية في الإمبراطورية العثمانية)، إعداد ومراجعة ودراسة: البروفيسور-الدكتور آرشاك بولاديان، دمشق – 2016 ( (3)

 1-  من كتابه “شعب مخدوع” (Betrogenes Volk) طبع في لايبزيغ عام 1928. ص 333.

Share This