يغيشيه تشارينتس وإدغار ألَن بو سيران كريكوريان ترجمة وإعداد وتقديم نورا أريسيان

 

لمحة عن يغيشيه تشارينتس:

يغيشه تشارينتس (1897-1937) هو يغيشيه صوغومونيان. شاعر وناقد وناثر ومترجم أرمني بارز. تأثر شعره بالرمزية المتأصلة لدى الأرمن. كتب مجموعته الشعرية  ’ساعات رؤية‘ (1915) و’قوس قزح‘ (1917)، تطرق فيهما إلى معاناة الإنسان وهو يبحث عن السعادة في الحياة.

لجأ الشعراء الأرمن في الربع الأول من القرن العشرين إلى الأساطير والرؤى علّهم يجدون فيها حلاً لمعضلة الوجود الأرمني. وقد عبّر تشارينتس عن ذلك بقصيدته الغنائية “وطن ذو عيون زرقاء” (1915) في تبليسي، نسج فيها حلم أرمينيا المستقبلي وصورة الوطن المدمَّر ومصيره التاريخي وحياة الفرد الإبداعية.

لم يقتصر عمل تشارينتس على الإبداع في اللحظة المصيرية في تاريخ الأرمن، بل شارك في فرق التطوع الأرمنية على الجبهة عام 1915، فكان شاهداً على تهجير آلاف الأرمن ومآسيهم. وقد تغلغلت في شعره صور معاناة الشعب الأرمني والمجازر التي تعرض لها التي جسدتها قصائده: ’فاهاكن‘ (1916) و’رؤيا الموت‘ (1922)، و’أسطورة دانتيه‘ (1916) التي نشرت في تبليسي. ومن الملاحظ أن شعره مفعم بالشكوى الإنسانية والحسرة والألم.

برع شاعر الثورة تشارينتس في كتابة الشعر الملحمي وشعر البطولات، فكتب قصيدته الملحمية ’الجماهير المجنونة‘ (1919) مجّد فيها الإرادة الثورية لدى الجماهير المناضلة والثائرة وسمو أهدافها.

أسس تشارينتس مدرسة شعرية جديدة في الأدب الأرمني خاصة والسوفييتي عامة بمضمون ثوري جديد.

أصدر في عام 1926 رواية ’بلاد نايري‘ المؤلفة من ثلاثة أجزاء. وتعد هذه الرواية حجر الأساس في فن الكتابة (الروائية) الأرمنية. وتعتبر من أكثر الروايات الأرمنية تعقيداً؛ يتناول فيها تشارينتس أحداث قارص، التي احتلها الأتراك عام 1919، ويصور مصيرها الأليم ويصف معاناة الشعب الأرمني للعالم.

تعد قصيدته ’أحب حلوتي أرمينيا…‘ في مجموعته ’كتاب الأغاني‘ (1922) قمة الشعر الوطني لدى تشارينتس، وهي مهداة إلى قيم أرمينيا الروحية؛ إنها وصية شعرية للحفاظ على مقدسات الوطن، وما تزال تحتل مكانة خاصة في الأدب الأرمني.

أدخل أنواعاً جديدة من الشعر في الأدب الأرمني مثل الأغنية والنشيد، واستخدم عدداً من المقاييس الفنية الشعرية الشرقية مثل الرباعيات والمخمس والبيت. وترجم الكثير من الآداب الأجنبية لـِ غوته وبوشكين وغيرهما.

ثمة مسحة من التشاؤم تغطي قصائد تشارينتس، ربما كان سببها حرب الإبادة التي تعرض لها الأرمن في الإمبراطورية العثمانية، بالإضافة إلى حياته الشخصية التي اتسمت بالاضطراب التي تشبه حياة الشاعر والقاص الأمريكي إدغار ألن بو، وهو ما سنراه في ما يلي:

تأثر يغيشيه تشارينتس بإدغار ألَن بو كثيراً، واقتبس منه عشرة اقتباسات، على الأقل، وهي بليغة بذاتها، وتؤكد أوجه الشبه بينهما أيضاً.

كان تأثير بو على مجموعة من الأدباء الروس قوياً. فقد أوضحت الشاعرة الروسية، آنا أخماتوفا، بعد إعدام نيكولاي غيوميلوف رمياً بالرصاص، أن ثمة مقاطع في أعمال زوجها مستلهمة من إدغار ألَن بو.

ولاحقاً، أوضح نقاد الأدب في روسيا تأثر غيوميلوف بـِ بو، وكشفوا عن اعترافه لبريوسوف[1] بأن: “إدغار ألَن بو هو أحب الشعراء إلى قلبي، وقد عرفته من خلالكم ومن ترجمات بالمونت[2]“.

عرف تشارينتس إدغار ألَن بو عبر اللغة الروسية والأدب الروسي. حيث ترجم قسطنطين بالمونت الأجزاء الخمسة من أعمال بو ونشرها بين عامي 1901-1912 ، وفي عام 1924 نشر بريسوف ترجمة قصائد بو من النص الأصلي.

اطلع تشارينتس على أعمال إدغار ألن بو كلها. وعلى الرغم من أنه فضَّل الشعر ، إلا أنه اهتم بالقصة، لما حملته من تحرٍّ ورعب واستكشافات أخرى، أيضاً.

إن أوجه الشبه بين يغيشيه تشارينتس وإدغار ألَن بو حكمها، أيضاً، التكوين النفسي والمصير المشترك.

فقد عانى الإثنان من مشكلات مع الأبوين في طفولتهما، وكانا، نفسياً، أقرب إلى الجنون؛ لقد تعرضت روحاهما المفعمتان بالمحبة لصدمات قاسية وعنيفة.

ودفعت التناقضات الحادة بين الأوساط الأدبية بو وتشارينتس إلى الخوف والأرق والكوابيس والأحلام المؤلمة. وبسبب أزماتهما النفسية الحادة مالا إلى الكحول وتعاطي المخدرات. وهناك تشابه قدري أيضاً بين حب الكاتبين.

تزوج بو في السادسة والعشرين من ابنة عمته فيرجينيا كليم وهي في سن الثالثة عشر، وعاش معها في ضائقة مالية مدة إثني عشر عاماً مثقلة بمرضها المزمن.

توفيت فيرجينيا بعمر الخامسة والعشرين بمرض السل، ولم تهب حبيبها إدغار أي إرث سوى كوابيس جديدة. حاول بو الزواج ثانية، والشروع بحياة جديدة، لكن الظروف لم تتح له ذلك.

أما تشارينتس فتزوج في عام 1921 من أربينيك دير أسدوادزادريان البالغة إثنين وعشرين عاماً. وبعد حياة سعيدة ومعقدة مدة ستة سنوات، توفيت أربينيك في عام 1927 بعد عملية معقدة لحمل خارج الرحم في المشفى الأول في يريفان.

تفاقمت مأساة تشارينتس، بعكس بو، لأنه لم يكن قرب زوجته، فقد كان في السجن، بسبب الاعتداء بمسدس على فتاة.

باتت صورة موت زوجته الشابة الحبيبة والجميلة مركز إبداع إدغار ألَن بو. وقد كرّس لها أفضل مؤلفاته: “موريللا”، “ايليانورا”، “ليكيا”، و”الصورة البيضاوية”، وقصائد كثيرة مثل، “الغراب”، و”لينور”، و”أنابيل ـــ لي”، وغيرها.

كان هذا الموضوع جزءاً من إبداع تشارينتس أيضاً منذ عام 1927، لكنه لم يتطور، لأنه أحرق جزءاً كبيراً من تلك الأعمال، في محاولة للتوافق مع زوجته الجديدة إيزابيل وعائلته.

رغم هذا الاختلاف الواضح، كان تشابه وفاة الشاعرين اللذين تدهورت حالتهما النفسية مذهلاً.

توفي إدغار ألن بو بعمر الأربعين، في تشرين الأول عام 1849. حيث وُجد بصحة متدهورة، وغائباً عن الوعي، بملابس شخص آخر، جالساً على أحد المقاعد، في مدينة بلتيمور، في ولاية ميريلاند. فنقل إلى المشفى حيث توفي بعد عدة أيام.

توفي تشارينتس بعمر الأربعين أيضاً، في مشفى السجن، وفي شهر تشرين الأول البارد الكئيب، الذي كرس له إدغار ألن بو بيتاً في القصيدة المفضلة لدى تشارينتس ’أولالوم‘.

حمل شعر تشارينتس الغنائي تأثير إدغار ألَن بو بشكل مباشر عبر رموز فرنسية وروسية. فالموت كموضوع شعري، والقلاع الغامضة والأحلام المجنونة والمريضة، والحنين المفرط، لا شك في أنها تحمل بصمات بو. ويأتي الحلم، طبعاً، فوق كل ذلك.

برأي خوليو كورتاسار، كان إدغار ألَن بو يعيش “في أحلام اليقظة”، وكانت أعماله إعادة صياغة لأحلامه، وفق عدد من النقاد. كتب في قصة “اليانورا”: “يترآى للحالمين في الظهيرة أشياء، تغيب عن عيون الذين لا يرون أحلاماً إلا في الليل.”

وأعمال تشارينتس، في بداياته، كانت محاكاة أحلام؛ على سبيل المثال قصيدة، ’حلم وطني‘، التي تروي حلماً طويلاً رآه البطل، تحولت إلى عقيدة فلسفية:

“لا فرق بين الحياة والحلم،

الحياة حلم ورؤى،

فأنت ترى حياتك في حلمك،

الحياة مجرد حلم.”

سمَّى إدغار ألَن بو إحدى قصائده “حلم داخل حلم”. يقول البطل فيها: “حياتي كلها حلم”، “وما يبدو لي (وما أراه) ليس سوى حلم داخل حلم”. أما تشارينتس فينهي قصيدته، ’مسافرو درب التبانة‘، بقوله: “بأي حلم حلمنا ومررنا.”

تكشف اعترافات تشارينتس، في الطبعة الأولى لِـ “أفضل القصائد”، التي نشرها في عام 1920: “ألا تعرفون أن كل شاعر: كابو وغيره، طاطوس وماركار، يغو وسيتو، يحمل في طيات رئتيه الرطبتين أشياء كثيرة من ديريان وفيرلين وبو…” هذا يبين أن تشارينتس أحبَّ بو. لكنه، بعد عشر سنوات، يحذف هذا المقطع من النص حين أعاد نشرها في عام 1932.

في عام 1925، كتب تشارينتس في روما: “المرحوم السيد أو السيد المرحوم”، صوّر فيها مشهد الراوي الذي يلتقي بشخص يعرفه منذ سنوات، وهو في التابوت على طريقهم إلى المقبرة، ويبدأ المتوفي بالحديث مع الراوي. كتب تشارينتس هذا المقطع بالتقنية الأدبية التي ابتكرها إدغار ألَن بو.

فالخوف من الأماكن المغلقة وظهور الرجل الميت والرعب بعد ذلك، كلها موجودة في أعمال بو، على سبيل المثال: “سقوط بيت أشر”، و”حوار مع المتوفي”، و”ليكيا” وغيرها.

البطل لدى تشارينتس لا يهرب، بل يحاور الشخص الذي عاد إلى الحياة باهتمام، مثل بطل بو. هذه أمثلة أدبية تبين أن يغيشيه تشارينتس عرف أعمال بو، لاسيما النثرية منها.

لم يكفّ تشارينتس عن البحث عما كتبه إدغار ألن بو. فقد اشترى قصصه، التي ترجمها ميخائيل إنغلكاردتي، في جزئين، في برلين عام 1923. وهي محفوظة في متحف تشارينتس، وتحمل ملاحظات وإشارات على المقاطع التي تتعلق بموت زوجته الشابة.

يعدّ إدغار ألن بو أن موت الزوجة الجميلة هو أكثر الموضوعات شعرية. وتبدو “إليانورا” و”موريللا” قريبتين جداً من فلسفة تشارينتس.

تبارك إليانورا، زوجة البطل الجميلة، زواج زوجها في المستقبل، وتلد موريللا قبل وفاتها بنتاً، تحمل اسمها، تترك البطل في كابوس مروِّع.

نحن لا نعلم متى سجَّل تشارينتس ملاحظاته؛ لكن الواضح أن هذه الأعمال تتعلق بموت زوجته، أربينيك، المبكر وسيناريوهات تسمية ابنته الأولى من زواجه الجديد.

لقد رسم موت أربينيك تفاصيل جديدة في الروابط الأدبية بين يغيشيه تشارينتس وإدغار ألَن بو، الذي كتب أكثر أعماله قساوة، لا سيما، “الغراب” حيث كان يحلم، من دون جدوى، بأن يرى لينور عادت إلى الحياة، ليصل إلى موت فيرجينيا. أما تشارينتس فيعيش من جديد أكثر الدوافع قرباً إلى كاتبه المفضل كحقيقة مرة.

عندما توفيت أربينيك، لم يحافظ تشارينتس إلا على الصفحات المشرقة من شخصيتها الجميلة، وأغلبها في قصائده: ’شروق ملحمي‘، ’سوناتا لذكرى أربينيك‘، و’أغان محترقة‘.

في قصيدته، ’شروق ملحمي‘، يذكر تشارينتس اسم إدغار ألَن بو ثلاث مرات. وفي عمله “الطفولة” يقول عن النقاد: “إذا نظرنا إليهم، نجد أن لدينا شكسبير ودانتيه وإسخيلوس وبو”.

وفي قصيدة، ’فن الشعر‘، يُظهِر بو في سلسلة تليق بأدواره في رهاب الليل والموتى وقيامتهم.

والأكثر إثارة، ماكتبه تشارينتس في قصيدته، ’أنشودة الصراع‘: “إنها روحي التي تصدح بأنشودة الارتقاء، لكن ذلك الفارس المضحك اعتقَدَ أنني كنت أنا المنشد”. وكتب في ذيل القصيدة بأن المصدر هو إدغار ألَن بو.

وقال ألماسد زاكاريان في نقد مؤلفات تشارينتس، إنه لم يُعثَر على المصدر الحقيقي في مؤلفات بو. ولذلك تعد هذه الواقعة الأكثر غموضاً في الصلة بين تشارينتس وبو. رغم أن الفكرة قريبة جداً من تفكير ورؤية بو.

إذا صدقت فرضيات بعض النقاد فسيتضح أن تشارينتس اقتبس الغموض من كاتبه المفضل.

أما سبب عدم تناول تشارينتس قصيدة ’الغراب‘ فيبقى سراً. رغم تأثره ببعض أساليب بو الشعرية، خاصة الجناس والسجع، وكذلك حين خبأ فك شيفرة الأحرف المتصلة في السطور الداخلية وليس الأولى، استلهمها من أعمال إدغار ألَن بو ’اللغز‘ و ’فالنتينا‘ من خلال الترجمات الروسية

وأخيراً، كان تشارينتس دائم الإعجاب بقصيدة ’أولالوم‘ لإدغار ألَن بو. وقد كتب عام 1936 سلسلة قصائد مكرسة لِـ أروس فوسكانيان ’حب دانتيه‘، واستعان ببيت شعر من بو، معتبراً أروس بأنها توازي بو، ويقول: “وأطلق إدغار ألَن بو في قصيدته عليك… اسماً غامضاً، أولالوم”.

والواضح هو رغبته بربط عمل بو بشخصية المرأة التي أحبها.

وفي هذه الأسطر يحاول تشارينتس تطوير فلسفة إدغار ألَن بو في رؤية الحلم، ويقارنها مع دراسة الأحلام لدى فرويد. وقد كشف في ملاحظاته التي دوَّنها أنه يود صياغة نصوصه “وفق إدغار ألَن بو وفرويد “.

إن ربط القصيدة المهداة للأحلام مع إدغار ألَن بو يفتح المجال أيضاً للتعليق على الاهتمام الذي جسده تشارينتس بعلم الغيب وعلم الأحلام والشيفرة.

المصدر: “الصحيفة الأدبية” لاتحاد الكتاب الأرمن في يريفان ــ أرمينيا، 19/5/2017.

(نشرت في جسور ثقافية، العدد 8، 2017.)

[1]  الشاعر الروسي الكبير فاليري بريوسوف (1873 ـ 1924).

[2]  قسطنطين بالمونت شاعر ومترجم روسي (1867 ـ 1942).

Share This