أرمينيا بعد قرن من الاستقلال

 

المهندس هامبرسوم أغباشيان          

 

سيحتقل الشعب الأرمني في هذا العام ، عام 2018م , بالذكرى المئوية لاستقلال أرمينيا وتاسيس الجمهورية الاولى في 28 مايس 1918م. لقد نالت أرمينيا استقلالها بعد قرون من الاحتلال الاجنبي حيث كانت في البداية ساحة معركة بين الامبراطوريتين الفارسية والبيزنطية ولحقها التدمير والتشتت بسبب تلك المعارك والتي انتهت بتقسيم أرمينيا بين الفرس والبيزنطيين، حيث احتل الفرس الجزء الشرقي من أرمينيا واحتل البيزنطيون الجزء الغربي منها. وبعد سقوط الامبراطورية البيزنطية احتل العثمانيون الجزء الغربي من أرمينيا  (أرمينيا الغربية) ، اما الجزء الشرقي من أرمينيا (أرمينيا الشرقية) فلقد تنازل عنها الفرس للقيصر الروسي حسب معاهدة (تركمان جاي) في 10 آب 1812م وظلت على تلك الحالة الى ما بعد اندلاع الحرب العالمية الاولى.

استقلت أرمينيا في 28 مايس 1918م، وبسبب  الظروف الدولية والمحلية السائدة في تلك الفترة  تم تأسيس جمهورية أرمينيا على جزء صغير من اراضيها التاريخية وبالذات في الجزء الشرقي منها التي كانت تحت سيطرة روسيا القيصرية وعاصمتها يريفان، وبقيت اراضي أرمينيا الغربية تحت الاحتلال العثماني، ولكن بخسارة الدولة العثمانية الحرب ضد الحلفاء (الحرب العالمية الاولى) وعقب هزيمتها اقرت معاهدة لوزان في 10 آب م1920 والتي وافق عليها السلطان العثماني محمد الخامس مستقبل الدولة العثمانية فيما بعد الحرب ، وتم تكليف الرئيس الامريكي ودرو ولسن بتثبيت الحدود بين تركيا وأرمينيا ورسم تلك الحدود حيث  تقرر ان تكون معظم اراضي أرمينيا الغربية المحتلة من قبل العثمانيين ضمن حدود الدولة الارمنية الفتية.

بدأ القوميون الاتراك بقيادة مصطفى كمال (اتاتورك لاحقا) العصيان على الخليفة العثماني ورفضوا معاهدة سيفر، وبعد توطيد اقدامهم تم ابرام معاهدة لوزان بين تركيا والدول المنتصرة في الحرب  في 24 تموز 1923م، وادت هذه المعاهدة الى تأسيس الجمهورية التركية الحديثة بقيادة أتاتورك ، وبعد ان حصل الحلفاء على امتيازاتهم وتقاسم الانكليز والفرنسيون ارث الرجل المريض (الامبراطورية العثمانية) حسب معاهدة سايكس بيكو تغاضوا عن حقوق القوميات غير التركية ومنهم الارمن ولم ياتي اي ذكر  لخارطة ولسن في المعاهدة الجديدة، وكان الرئيس ودرو ولسن قد غادر البيت الابيض لانتهاء ولايته ولم تهتم الادارة الامريكية الجديدة بالموضوع، وخلال تلك الفترة اصبحت جمهورية أرمينيا والتي تاسست في الجزء الشرقي من الاراضي الارمنية كما اسلفنا جزءا من الاتحاد السوفيتي، اي في المعسكر المنافس للغرب، وادت كل تلك المعطيات الى ضياع الحق الارمني وبقيت اراضي أرمينيا الغربية تحت الاحتلال التركي والى يومنا هذا.

اصبحت أرمينيا ضمن دول الاتحاد السوفيتي في  تشرين الاول 1920م  وذلك قبل ابرام معاهدة لوزان، وبقيت كذلك الى عام 1991 حيث تفكك الاتحاد السوفيتي واستقلت الجمهوريات السوفيتية ومنها أرمينيا التي استقلت في 21 ايلول 1991م في ظروف صعبة جدا حيث كانت  أرمينيا قد تعرضت الى كارثة كبرى بسبب الزلزال الهائل الذي ضرب شمال البلاد عام 1988م في مدن كوميري وسبيداك وادى الى مقتل اكثر من 25 الف شخص واصابة اكثر من 130 الف شخص  والى هدم نسية كبيرة من المباني السكنية والمدراس والمستشفيات وتشريد عشرات الالاف من العوائل والى خسائر بالمليارات الدولارات. وكانت حركة تحرير كاراباغ  قد بدات في شباط 1988م، وفى ايلول من نفس العام اعلنت حالة الطوارئ ونزلت الدبابات الى الشوارع بسبب نقمة الشارع والمظاهرات التي صاحبتها، وتوقفت محطة كهرباء (ميتزامور) والتي تعمل بالطاقة النووية عن العمل خوفا من عواقب الزلزال، علما بانها المصدر الرئيسي لتزويد البلاد بالطاقة الكهربائية.

واجهت أرمينيا في بداية استقلالها عن الاتحاد السوفيتي مشاكل اقتصادية واجتماعية وادارية لا تحصى. فداخليا بدأ تحول النظام الاقتصادي من النظام الاشتراكي الى نظام السوق بصورة غير مدروسة وتوقفت المعامل الثقيلة عن الانتاج وتم خصخصة ما تبقى من المعامل مع العديد من مرافق الدولة واستغلت طبقة من المنتفعين من الوضع القائم للسيطرة على اقتصاد البلد وانتشرت البطالة. وخارجيا تضامنت تركيا، العدو التاريخي للارمن والتي قامت بابادة مليون ونصف ارمني في بداية القرن العشرين، تضامنت مع اذربيجان وساعدتها عسكريا وفرضت الحصار من ناحبتها واغلقت حدودها، وهي اطول حدود مع أرمينيا ، ولم يكن حال جورجبا افضل من غيرها في وضع العقبات امام أرمينيا. وفي خضم هذه الظروف الداخلية والخارجية المعقدة بدات أرمينيا بالخروج من تحت انقاض الماضي وبناء نفسها وتثبيت اقدامها كدولة مستقلة.

اليوم وبعد مرور اكثر من 26 عاما على الاستقلال عن الاتحاد السوفيتي، تغير الوضع كثيرا في أرمينيا عن الاعوام الاولى للاستقلال.  فهناك تقدم واضح في الكثير من المجالات ولكنها ليست بمستوى الطموح . فالبلد لا زال يعاني من العديد من المشاكل والمعوقات. فالبطالة والفقر منتشران في أرمينيا والهجرة من الداخل  مستمرة وجزء كبير من اقتصاد البلد مسيطر علية من قبل مجموعة من االجشعين المتنفذين والفساد والرشوة منشران والحكومة لم تستطع ايجاد حل ناجع لهذه المشاكل لحد الان ، ومن حهة اخرى فان أرمينيا بامس الحاجة للقيام باصلاح النظام السياسي ووضع اسس متينة لمؤسسات سياسية ديمقراطية ومؤسسات مدنية والى اصلاح اقتصادي جذري وخلق اقتصاد حيوي. فنسبة الفقر عالية حسب الاحصائيات الرسمية وفرص العمل محدودة ولا زال البلد بعد كل هذه السنين من الاستقلال يمر في مرحلة تحول وخصوصا في المجالين الاجتماعي والاقتصادي، ويبدوا ان بناء قاعدة جديدة للصناعات الثقيلة صعبة جدا فالنقل البري من والى أرمينيا معقد جدا لعدة اسباب منها الحصار الاقتصادي التي تفرضة كل من تركيا واذربيجان، وموقع جورجيا بين أرمينيا وروسيا، اكبر شريك تجاري لأرمينيا، علما بان علاقات جورجيا متوترة مع روسيا وسياساتها متناغمة مع اذربيجان، وكذلك المشاكل الاقتصادية والسياسية التي تعاني متها ايران, يضاف الى ذلك تفكك نظام التكامل الصناعي بين دول الاتحاد السوفيتي  بسبب زوال النظام واعتماد كل دولة على امكانباتها.

في مقابل ذلك حصل تقدم ونموكبير في مجال الزراعة في أرمينيا وزاد الانتاج الزراعي ويتم تصدير الفائض منه، وكذلك حصل تطوركبير في مجال الصناعات الغذائية واحتلت الزراعة مساحة كببرة في اقتصاد البلد بدلا من الصناعة، ولكن بقى المجال مفتوحا اما الصناعة، فالايدي العاملة الفنية الماهرة متوفرة وكذلك اصحاب الخبرلت المتراكمة والشهادات العليا والطاقات الخلاقة، ففي أرمينيا كادر فني متقدم وهو اكبر راسمال للبلد , بالاضافة الى توفر ااطاقة الكهربائية التي هي شريان الصناعة حيث ان أرمينيا تنتج اكثر من حاجتها من  الطاقة الكهربائية، وهناك تقدم واضح في الصناعات الخفيفة وخصوصا الصناعات الالكترونية ومجال الاتصالات الحديثة وكذلك في مجال الصناعات الغذائية والصناعات الصغيرة الاخرى، ولكن البلد بحاجة الى الاستثمارات ورؤؤس الاموال من الخارج للتوسع في المجالات كافة. ويبقى مجال الصناعات الالكترونية والاتصالات هو الاوفر حظا والاكثر تطورا وتقدما والاسرع نموا في أرمينيا وذلك بسبب توفر الكوادر والعقول المتطورة محليا كما ذكرنا. فهناك اليوم العديد من شركات الصناعات الالكترونية العالمية مثل  Credence, VMware, Synopsys  وغيرها التي لها فروع في أرمينيا وتساهم في النهضة التكنولوجية الصناعية في هذا المجال. فعلى سبيل المثال فان شركة Synopsys بدات نشاطاتها في أرمينيا قبل اكثر من عقد من الزمن بتلاتة الاف موظف معظمهم من التقنيين وتوظف الشركة اليوم خمسة عشر الفا من التقنيين والمهندسبن والعلماء ومعظمهم ان لم يكن جميعهم من ابناء البلد والشركة تستقبل كافة خريجي الكليات والمعاهد  ذو الاختصاص للعمل لديها وتنظم دورات تدريبية لاعداد الكوادر الجديدة من كافة المستويات العلمية بالاضافة الى تعاملها مع اكثر من 400 شركة محلية صغيرة حديثة  والتي تقوم بدورها بتشغيل الالاف من التقنيين حيث تنتج هذه الشركات المواد التكميلية للشركات الكبرى. وهذا مثال واحد لخلق فرص العمل وتنشيط اقتصاد البلد علما بان هذا القطاع هو من القطاعات الاساسية في الكثير من الدول, وهناك الكثير للاستثمار في هذا المجال في أرمينيا . ولقد تطور القطاع السياحي ايضا في أرمينيا حبث سجل زيادة كبيرة في عدد الزائرين في السنة الماضية حيث بلغوا  مليون ونصف مليون زائر وهذا القطاع الخدمي  يوفر عملة صعبة للبلد وهناك الكثير من النشاطات الاقتصادية التى لا مجال لذكرها هنا، علما بان اقتصاد أرمينيا سجل نسبة معدلات نمو جيدة في العام الماضي وتتوقع الاوساط الاقتصادية العالمية ان تستمر هذه المعدلات في النمو في العام الحالي.

ان الغاية من ذكر كل ذلك ليست الدعاية وانما لتشجيع أصحاب رؤوس الاموال من الارمن وغيرهم  للاستثمار في أرمينيا، وخصوصا أرمن المهجر الذين عليهم الاستثمار بدون تردد في أرمينيا ونقل التكنولوجيا الحديثة اليها وخلق فرص عمل جديدة لابناء جلدتهم للحد من هجرة اليد العاملة ولبناء مستقبل زاهر للاجيال القادمة. فالاوطان تبنى بسواعد ابنائها وبالعمل الشاق الدؤوب والنقد البناء وليس بالتمني ، والوطن بحاجة لكافة ابنائه ان كانوا في الداخل او في المهجر وعلى كل من يستطبع ان يساهم في عملية النهضة القيام بذلك فالوطن هو وطن الجميع والمساهمة في بنائه هي مسؤولية الجميع.

لوس انجيلوس – كاليفورنيا

كانون الثاني 2018

Share This