“تاريخ” غيفوند، المؤرخ الأرمني من القرن 8 ميلادي، شاهد عيان على الفتوحات العربية الأولى (1)

-المؤرخ غيفوند وعصره و”تاريخه” – المستشرق-المستعرب الدكتور البروفيسور آرام تير-غيفونديان، أرمينيا

ولد المؤرخ غيفوند وتوفي في القرن 8 م. لا يُعرف مكان ولادته إلا أن المعلومات تدعو للاعتقاد أنه أمضى طفولته في مقاطعة كوغتن في أرمينيا وحصل على تعليمه الأساسي في كاثوليكوسية مدينة دفين (دبيل حسب ما تلفظه العرب-المترجم). رغم تعليمه الديني، كان غيفوند شخصاً وثيق الصلة بالحياة، كما يؤكد هو شخصياً، وكان شاهد عيان على أحداث عديدة شتى وسمع عن بعضها حتى من أفواه القادة الأعداء. وكما يظهر من خلال بحثه، قطن في مدينة دبيل مدة طويلة وأنهى كتابه في عام 790م تقريباً. زار غيفوند مدينة القسطنطينية وتعرّف على الرسائل التي وضعها في دراسته. ويميل المؤرخ بفكره وحبه إلى عائلة الأمراء البقراتونيين الأرمن وخاصة أنه حصل على موافقة شابوه بقراتوني بن قائد الجيش الأرمني سمبات بقراتوني ودعمه أثناء أسفاره لتحقيق “التاريخ”.

درس مستشرقون وباحثون أرمن وأجانب عديدون مخطوط غيفوند مثل:

ـ ك. ف. شاهنازاريان، اجتياحات العرب لأرمينيا حسب الراهب الأرمني غيفوند، باريس، 1857، ص. 10-18، باللغة الأرمنية.

– К. Патканян, История халифов вардапета Гевонда-писателья VIII в. СПб, 1862, стр. III-XI.

– H. Thopdschian, Die Inneren Zustände von Armenien unter Asot I, Halle-1904, S-4.

– M. Ghazarian, Armenien unter der arabischen Herschaft, Marburg-1903.

– J. Laurent, L’Armenie entre Byzance et l’Islam, Paris-1919, p-84.

– A. Jeffery, Ghevond’s text of the correspondance between Omar II and Leo III, Harvard Theological Review, 37 (1944), p. 269-332.

عاش غيفوند وعمل في حقبة غنية بأحداثها التاريخية عندما جرى انقلاب كبير في حياة بلدان المشرق بسبب ظهور دين ودولة فاتحة جديدة وتحديداً الإسلام والخلافة العربية.

توحدت القبائل العربية الرحل في شبه الجزيرة العربية تحت راية الرسول محمد الدينية وخرجت للجهاد المقدس ضد الدول المجاورة. اجتاحت هذه الأقوام الصحراوية سوريا وبلاد ما بين النهرين الخصبتين في ظروف مواتية وحققت أهدافها دون صعوبة تذكر بسبب ضعف فارس وبيزنطة اللتين استهلكتا قواهما في حروب طاحنة طويلة ضد بعضهما.

أضحت السنوات العشر لخلافة عمر 634-644م مرحلة انتصارات وفتحَ العرب تباعاً: فلسطين وسوريا وبلاد ما بين النهرين ومصر وقسم من إيران. سيطر العرب في عهد الخليفة التالي عثمان 644-656م على جميع مقاطعات إيران كذلك أرمينيا وقتياً وانتقلوا من مصر إلى ليبيا ثم إلى الشمال الإفريقي. أبطأ الصراع الناشب بين الخليفة علي 656-661م وحاكم سوريا معاوية وتيرة الفتوحات العربية، إلا أنها استمرت بعد صعود معاوية على عرش الخلافة فجرت صدامات جدية مع بيزنطة. وكانت الجيوش العربية تطرق أبواب العاصمة القسطنطينية في عام 669م من جهة خلقيدونيا. ورغم حدوث انشقاقات في الخلافة الأموية بعد وفاة معاوية، إلا أن الخليفة عبد الملك 685-705م عزز أوضاع الدولة بشكل نهائي. وبعد انتصاراته على بيزنطة، احتل أرمينيا والدول المجاورة لها.

كان حكم الخلفاء، الذي امتد لقرون طويلة، قاسياً في بعض الأحيان لدرجة ظهور بعض الملاحم البطولية عند شعوب تحت الحكم العربي كملحمة “أحفاد صاصون” عند الأرمن و”ديكينيس أكريداس” عند البيزنطيين و”أغنية رولاند” عند الفرنسيين ونهايةً “أغنية السيد” الإسبانية.

عندما قام العرب باجتياحاتهم الأولى على أرمينيا، كانت البلاد مقسمة بين الإمبراطورية البيزنطية وإيران الساسانية. وبناء على اتفاقية عام 629م، كان بطريق الأرمن يحكم القسم الغربي من أرمينيا التاريخية ومركزه مدينة ثيودوسيوبوليس (كارين عند الأرمن وقاليقلا عند العرب-المترجم)، ومرزبان أرمينيا في القسم الشرقي ومركزه مدينة دفين (دبيل حسب لفظ المؤرخين العرب-المترجم).

حطّمت الجيوش العربية المظفرة إيران الساسانية وبيزنطة فزالت الهيمنة الإيرانية على أرمينيا الشرقية وضعفت السيادة البيزنطية على القسم الغربي وتوحد شطرا أرمينيا في عام 639م بزعامة أمير الأرمن ثيودوروس رشتوني. وبسبب اجتياحات القوات العربية المستمرة وسياسة بيزنطة الماكرة، عقد ثيودور معاهدة مع الخلافة في عام 652م وتحولت أرمينيا إلى إمارة محايدة بين القوتين العظميين.

رغم استمرار الهجمات على أرمينيا من قبل الخلافة وبيزنطة، أعاد الخليفة معاوية التأكيد على المعاهدة في عام 661م وتبوأ كريكور ماميكونيان منصب أمير البلاد مدة 20 سنة فازدهرت أرمينيا خلالها وتطورت. وكانت البلاد في حال ازدهار متسارع في القرن 7 م في المجالات السياسية والإقتصادية والثقافية، إلا أن القوات العربية المهاجمة أبطأت هذه الوتيرة كثيراً فأُكره الأمراء الأرمن، بقيادة سمبات بقراتوني، على الالتحام معها في عام 701م في موقع فارداناكرت وتعرضت القوات العربية إلى هزيمة ثقيلة وقُتل أثناءها الحاكم العربي.

رغم إخضاع ثورة الأمراء الأرمن ضد الحكم العربي، شعر بلاط دمشق بقوة المقاومة فتقهقر عن موقفه. دعا حاكم أرمينيا الجديد عبد العزيز إلى عودة الأمراء الأرمن إلى مقاطعاتهم واعترف بوضعيتهم السابقة فهدأت أحوال أرمينيا وتأقلم الأرمن مع السيادة العربية واستمروا في حياتهم اليومية ودفعوا الجزية والخراج واشتركت قوات الفرسان الأرمنية، التي كان عدد عناصرها 15,000 فارساً، في الحروب التي خاضتها الخلافة وخاصة ضد خطر الخزر الداهم في الشمال. وشكل العرب “ولاية أرمينيا” وعاصمتها مدينة دبيل التي تضم أرمينيا التاريخية وشرقي جيورجيا وآران وشيروان ودربند. وكانت المدينة تحوي داراً لضرب النقود العربية: الدراهم الفضية والفلوس النحاسية بالكتابات العربية والآيات القرآنية وأسماء الخلفاء وولاة العهد وحكام أرمينيا من العرب والتاريخ الهجري بكتابة “ضرب بدبيل” و”ضرب بأرمينيا”.

كان الأمراء الأرمن البقراتونيون يحتفظون بمنصب أمير أرمينيا وراثياً بين القرنين 5-7م فبدأ الصراع على السلطة بين أفراد العائلة الواحدة. وفي هذا الجو بالذات، انفجرت ثورة أرمنية ضد الخلافة الأموية بين الأعوام 747-750م وامتد لهيبها إلى جميع أصقاع أرمينيا إلا أنها انتهت إلى الفشل بسبب الانقسامات بين الأمراء الأرمن وسخط الشعب ضدهم.

ساءت أحوال أرمينيا جداً تحت الحكم العباسي على وجه الخصوص بسبب استبداد الخلفاء وفرض ضرائب ثقيلة جداً لا يمكن تحملها فتقهقرت أحوال السكان كثيراً وخاصة أن الخليفة أبا العباس لم يزد مبالغ الضرائب فحسب، بل طلب جبايتها سلفاً وبالعملة الفضية حصراً. اجتاحت قوات العباسيين منطقة باسفراجان في أرمينيا فلم يتحمل أمراؤها القتال ضدها بسبب قلة عدد القوات الأرمنية فقتلت القوات العربية أمير البلاد ساهاك بقراتوني واستولت على ثروات البلاط.

يصف المؤرخ غيفوند هذه الأحداث المأساوية وتعذيب السكان من قبل الجباة العباسيين. ورغم يقين الأمراء الأرمن والشعب أن الخلافة تعيش فترة الذروة في بأسها، فضل الجميع الاستشهاد كأبطال عوضاً عن الموت فاقدي الكرامة وقام الجميع ضد جيش عباسي قوامه 30,000 محارب بقيادة عَمر بن إسماعيل ضد 5,000 محارب أرمني في معركة أردزني فسقط 3,000 من المحاربين الأرمن على الساحة بينهم القائدان موشيغ ماميكونيان وسمبات بقراتوني وغيرهما.

من أجل إخضاع الأرمن وتقوية القتال ضد بيزنطة، جلب الخليفة هارون الرشيد بعض القبائل العربية المهاجرة وأقام لها مستوطنات على أراضي الأمراء الأرمن المصادرة الذين تم قتلهم من قبل القوات العباسية. لقد وصلت سياسة الخلافة الاستيطانية والضرائب التي فرضها الخليفة هارون الرشيد إلى درجة لا يمكن تحملها أو تصورها. فبينما كانت أرمينيا تدفع مبلغ 4,000,000 درهماً فضياً سنوياً إلى خزينة الخلافة سابقاً، زاد هارون الرشيد المبلغ أكثر من ثلاثة أضعاف ووصل إلى 13,000,000 درهم فضي فاضطر السكان الأرمن على الهجرة إلى بيزنطة وكانت لها عواقب كارثية جداً على أرمينيا فتغيرت ديموغرافية عائلات الأمراء الأرمن وخريطة مقاطعاتهم وزالت عائلات مرموقة عن الساحة كالماميكونيانيين والكامساراكانيين والرشتونيين وغيرهم الذين كانت لهم أدوار ريادية بين القرنين 5-7م.

تنفست أرمينيا الصعداء بعد وفاة الخليفة هارون الرشيد وقام صراع على السلطة بين ولديه الأمين والمأمون وظهرت عائلات الأمراء الأرمن على مرسح أرمينيا السياسي ثانية كالبقراتونيين. أعاد الأمراء البقراتونيون تحرير بعض أراضي أرمينيا من الخلافة العباسية وأضحوا العائلة الأقوى بين عائلات الأمراء الأرمن. وكان آشوت بقراتوني يقوم بمهام أمير الأرمن في عام 790م تقريباً واعترف الخليفة بسيادته على أرمينيا في عام 804م وضغط على الأمير العربي الجحّاف الذي كان يتطلع إلى حكم أرمينيا. وكان عهد باكارات بن الأمير أشوت بقراتوني باهراً لأنه كان نائب الحاكم العربي وكان أمير “ولاية أرمينيا” العربية. وقد ظهر الأمراء الأردزرونيون والسيونيون الأرمن بدورهم في هذا الوقت على مرسح أرمينيا السياسي فتمركزوا في مقاطعات أرمينيا التاريخية في باسفرجان وسيونيك وأرتساخ (قراباغ-المترجم).

كان من الصعب على العباسيين التأقلم مع مثل هذه الحال، فأرسل الخليفة المتوكل أبا سعيد حاكماً لأرمينيا في عام 850م بمهمة خاصة. إلا أن الأرمن طلبوا منه العودة من حيث أتي بأمر أمير البلاد بقرات بقراتوني. لكن ابنه يوسف، الذي أُرسل إلى أرمينيا في العام التالي، تمكن من القبض على أمير الأمراء غدراً فثار الثوار الأرمن في منطقة خوت بقيادة هوفنان واجتاحوا مدينة موش وقتل أحد الثوار الحاكم العباسي المختبئ في الكنيسة.

كانت مصيبة الحكم العباسي الكبيرة الأخرى اجتياح بوغا لأرمينيا على رأس جيوش جرارة وأضحى الجبليون الصواصنة أول الضحايا. رغم تخريباته العديدة في أرمينيا، إلا أن هذا القائد العباسي فشل في إخضاع مقاطعة قراباغ الأرمنية لأن الأمير يسايي الأرمني صد هجماته. وعمّت الانتفاضة ضد الحكم العباسي في جميع أنحاء أرمينيا وانعكس كفاح صاصون وباسفرجان وقراباغ في الملحمة البطولية الأرمنية “أحفاد صاصون”.

وصلت الثورة الأرمنية ضد الحكم العباسي إلى نهايتها المنطقية بعد قتل الخليفة المتوكل في عام 861م وتحرير أرمينيا وإعادة إقامة دولة الأرمن المستقلة باسم مملكة البقراتونيين.

وصلنا مخطوط غيفوند كاملاً خلا العنوان أي الغلاف لذلك، هناك جدال حول عنوان الكتاب فقط.

مقدمة تاريخ غيفوند مقتضبة وخاصة حول السنوات التي تحدث عنها المؤرخ الأرمني سيبيوس الذي جاء قبله. ورغم ذلك، علينا التأكيد على أنه يكمل معلوماته وبذلك أضحت المعلومات حول الاجتياحات العربية الأولى أكثر دقة وتفصيلاً.

يتحدث غيفوند عن الحملة العربية الأولى على أرمينيا في عام 640م عبر ممر جورا ويسرد بشكل مفصل عن الحملة المنطلقة من آذربيجان في عام 642-643م معتبراً إياها الحملة العربية الأولى. وكان أمير الأرمن ثيودور رشتوني يتطلع إلى تنظيم دفاع ضد العدو، إلا أن القائد البيزنطي بروكوبيوس حال دون ذلك وضاعت الفرصة لدفع العدو إلى الخلف.

يذكر غيفوند أن الحملة العسكرية العربية الثالثة جرت بعد 10 سنوات في عام 650م عبر ممر جورا وحاصر العرب قلعة أردزاب في مقاطعة كوغوفيت وكانوا على وشك احتلالها عندما وصل الأمير ثيودور رشتوني فحطم هذا الجيش وطرد الباقين خارج حدود أرمينيا.

يسرد غيفوند تاريخ الأمويين بعد عام 661م بشكل مسهب لأن “تاريخ” المؤرخ الأرمني سيبيوس يقف عند هذه النقطة.

انطلاقاً من الأوضاع المستجدة، كان الخليفة الأموي معاوية يتطلع إلى الدفاع عن مؤخرته في حروبه ضد بيزنطة بالتأكيد على المعاهدة التي وقعها مع أمير الأرمن ثيودور رشتوني في عام 652م (تحدث عنها وعن بنودها مفصلاً المؤرخ سيبيوس فقط) والاعتراف بكريكور ماميكونيان أميراً لأرمينيا. لكن، قُتل هذا الأخير في السنة الأولى من حكمه أثناء هجوم شنه الخزر فخلفه آشوت بقراتوني فتتالت هجمات البيزنطيين والعرب على أرمينيا أثناء توليه مقاليد أرمينيا.

معلومات غيفوند حول احتلال العرب لأرمينيا ذات أهمية استثنائية أكد عليها المؤرخ البيزنطي ثيوفانس والمؤرخان العربيان البلاذري وابن الأثير. يصف غيفوند مفصلاً اجتياح القائد العربي محمد بن مروان وحروبه الطويلة في أرمينيا والمقاطعات المجاورة. ويسرد أيضاً ثورة عام 703م الأرمنية ضد الخلافة كشاهد عيان بدقة تامة كذلك الحروب العربية-البيزنطية.

كان الصراع العربي-البيزنطي الطويل يجري في شرقي آسيا الصغرى وكانت للعرب منطقة حدودية خاصة تدعى “إقليم الثغور” الذي يتألف من قسمين: الثغور الشامية، ومركزها مدينة دارصون، وثغور الجزيرة أو ما بين النهرين ومركزها مدينة ملاطيا. وكانت الأولى تحوي كيليكيا والثانية “أرمينيا الصغرى” وبعض مقاطعات “أرمينيا العليا” و”أرمينيا الرابعة” (دزوبك).

يسرد غيفوند عن صراع القوتين العظميين في آسيا الصغرى مضيفاً بعض التفصيلات على أقوال المؤرخين العرب ويقدم معلومات مسهبة أيضاً حول الحروب التي خاضها الطرفان في عهد الإمبراطور البيزنطي ليو الثالث الإزاوري في القرن 8 م.

كانت حروب العرب ضد الخزر من اهتمامات المؤرخ غيفوند الخاصة. وعند وصفه للحروب التي جرت حول منطقة دفاع الخلافة في دربند (باب الأبواب-المترجم)، يقدم تفصيلات غير موجودة عند المؤرخين العرب وتكمل بالتالي معلومات ياقوت والطبري وابن الأثير وبذلك يقدم مصدراً هاماً عند دراسة الحروب العربية-الخزرية وخاصة أن جيش الفرسان الأرمن اشترك فيها مع الجيش العربي في عهد البطريقين آشوت بقراتوني وتاجات أندزيفاتسي.

أولى المعلومات الحيوية التي قدمها المؤرخ غيفوند كشاهد عيان هي ثورة الأرمن ضد الحكم العربي في الأعوام 747-750م مبيّناً فيها موقفه السياسي بجلاء دون إخفاء ميله إلى سياسة البقراتونيين الحذرة ويبررها ولا يوافق على سياسة الأميرين الأرمنيين كريكور وموشيغ ماميكونيان الجسورة جداً. حاول آشوت بقراتوني إقناع الأمراء الأرمن بعدم اللجوء إلى الثورة لكن سدىً فانتهت حياته بشكل مأساوي.

يظهر موقف المؤرخ هذا أثناء وصفه لثورة الأرمن ضد الخلافة في عام 774-775م وكان حكم  العباسيين المستبد قد أوصل البلاد إلى حافة الهاوية وكان الجباة يتنقلون من مقاطعة إلى أخرى في أرمينيا ويسرقون السكان فاشتعلت الثورة بقيادة موشيغ ماميكونيان. ورغم موالاة المؤرخ غيفوند إلى عائلة البقرادونيين، الذين كانوا يتصفون بسياساتهم الحذرة العقلانية، إلا أنه وقف بحماس كبير إلى جانب الثوار وتتصف صفحات سرده بشعور الرهافة والحماس الاستثنائيين.

يصف غيفوند معركة الأرمن الأخيرة ضد القوات العربية المؤلفة من 30,000 عسكري في فجر 25 نيسان عام 775م بحماس كبير. عندما تصادم الجيشان، سدد الجيش الأرمني ضربات قوية إلى القوات المعادية التي هربت من ساحة المعركة. إلا أن الجيش العربي، الذي وصلته قوات إضافية ، جمع شتاته وعاد إلى الساحة. وأمام هذا العدد الكبير من المحاربين العرب، قرر الجنود الأرمن الاستشهاد بسبب قلة عددهم مشجعين بعضهم: “لنمت بشجاعة من أجل بلادنا وأمتنا بحيث لا ترى أعيننا تنجيس الأعداء لأرضنا ومعابدنا ولتتوجه سيوفهم ضدنا أولاً وليجري ما يجري بعد ذلك”.

يصف المؤرخ غيفوند الأحداث التي جرت في أرمينيا في السنوات 15 لاحتلال العرب بصورة قاتمة بسبب ظلم قوات الخلافة وعملياتها في السلب والنهب وإكراه الأخوين الأميرين الأرمنيين ساهاك وهامازاسب أردزروني على الارتداد عن دين الآباء ورفضهما وسرقة آنية الكنائس الأرمنية الثمينة.

غيفوند هو أول مؤرخ أرمني استخدم التقويم الأرمني الخاص وكان المؤرخون الأرمن قبله يستخدمون التأريخ انطلاقاً من سنوات حكم الملوك الأرمن والأجانب بدءاً من القرن 5 م بينما انطلق غيفوند من سنوات حكم أباطرة بيزنطة والخلفاء العرب.

كان المؤرخ غيفوند قدرياً وينسب كل فعل أو كارثة حسب تقوى الناس وضلالهم لكونه رجل دين . لذلك، يعتبر تعاسات الناس وفشلهم جزاء يوفون بدله وجميع النجاحات مكافأة لتقواهم. مع ذلك، غيفوند مؤرخ جدي يحتل موقعاً مرموقاً في التأريخ الأرمني وخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار عصره الذي كان يتميز بالاستبداد السياسي والانحطاط الفكري والثقافي. ورغم ذلك ، قدّم لنا الكثير بما يخص هذا العصر.

يُحتفظ ببعض أقسام مخطوط “التاريخ” للمؤرخ غيفوند في دار المخطوطات في يريفان تحت رقم 1902 (يعود إلى القرن 13م) و1889 و5501 و3070 و4584 (تعود إلى القرن 17). وهناك بعض النسخ أيضاً في المكتبة الوطنية في باريس وفي البندقية في مكتبة الآباء المختارين الأرمن وهي منسوخة عن المخطوط الأصلي الذي لم يُكتشف حتى يومنا.

المصدر: “تاريخ” غيفوند، المؤرخ الأرمني من القرن 8 ميلادي، شاهد عيان على الفتوحات العربية الأولى. ومدوِّن أول وأقدم حوار إسلامي ـ مسيحي في التاريخ منذ 1300 سنة بين الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز والإمبراطور البيزنطي ليو الثالث الإزاوري. ترجمه عن الأرمنية، الدكتور ألكسندر كشيشيان، حلب 2010.

Share This