الحي الأرمني في الأرض المقدسة.. رائحة فلسطين التي لا تموت

 

أزتاك العربي- نشر أمجد عرفات على موقع (نون بوست) مقالاً بعنوان “الحي الأرمني في الأرض المقدسة.. رائحة فلسطين التي لا تموت”، وأوضح أنه ما زالت مدينة القدس المحتلة تضم في جوانبها الكثير من الأسرار التي تؤرخ تعاقب الأمم على احتلال الأرض الفلسطينية منذ آلاف السنين حتى الآن، وأهم ما يمكن تناوله من معالم هذه المدينة المقدسة الحي الأرمني، وهو أحد الأحياء الأربع الرئيسية بالمدينة المحيطة بالمسجد الأقصى، ويمتد من محيط القشلة في باب الخليل، حتى حارة الشرف بالجنوب الشرقي من مدينة القدس، وتقدر مساحته بـ300 دونم، أي سدس مساحة القدس القديمة، حيث ضم هذا الحي الصغير في طياته أبرز معالم الصراع على فلسطين.

يعود إنشاء حي الأرمن بالقدس إلى العصور القديمة وبالتحديد في القرن الرابع قبل الميلاد، حين سيطر أحد ملوك أرمينيا (ديكران الكبير) على النصف الشمالي من فلسطين الذي يمتد من محيط مدينة القدس وصولاً إلى مدينة عكا والجليل، ولكن بداية وجودهم الفعلي كسكان يعود إلى القرن الثالث ميلادي، حيث عادوا إلى فلسطين مع مجيء الصليبيين، ثم عادوا مرة أخرى مع الحملة الصليبية الثانية في زمن ريتشارد قلب الأسد عام 1144، ومكثوا بها عدة قرون، ولم ينقطع وجودهم عن فلسطين في كل عصورها إطلاقًا.

ولعل ارتباط عودتهم بالإمبراطور ريتشارد كونه من سلالة أم أرمينية، وهي الملكة إليانور آكتيان التي كانت أقوى امرأة في أوروبا الغربية حينها، كما أشار مؤرخ التاريخ المقدسي الدكتور منيب منصور.

فما زالت المعابد والبيوت الأرمنية بهذا الحي تحتوي في مداخلها وجوانبها وأروقتها على أهم الآثار للأمم والزعماء الذي احتلوا الأرض الفلسطينية، وكذلك الحجاج الأرمن قديمًا ومشاهير وملوك الأرمن والملكات ورجال الدولة والأمراء وأناس من جميع الأوساط الاجتماعية، من خلال العديد من القطع التراثية والمواد الخاصة بهم التي جاءت عبر هدايا تذكارية، تركت بصمة مميزة في نقل الحضارة الأرمنية إلى المقدس.

وللأرمن أكلات تراثية اشتهروا بها ما زالت موائدهم عامرة بها حتى الآن، فلا يخلو بيت من بيوت الحي الأرمني من اعتماد هذه الوجبات اليومية عندهم، وقد نقلوها لمعظم الدول العربية وخاصة العراق وبلاد الشام، منها الكبة وورق عنب والصفيحة، وكانوا خلال ترحالهم للحج يحضرون معهم الطعام المخزن الذي انتشر في مصانع اللحوم بشكل عام مثل السجق والبسطرمة والقتيد المملح، حيث تعتمد موائد الطعام الخاصة بهم بشكل أساسي على اللحوم.

أول معامل التصوير والطباعة والسيراميك في فلسطين وبلاد الشام

يضم الحي الأرمني عدة معالم تؤرخ تاريخ القدس خلال القرون الأخيرة ومدى تقدمها ثقافيًا وحضاريًا، فتحتوي على معامل التصوير القديمة والأولى في الوطن، وما زالت قائمة على عملها حتى الآن، مثل الأستوديو الواقع بشارع يافا بمدينة القدس، وكان الفضل لها بإدخال أول عملية تصوير بفلسطين عام 1857 على يد البطريرك الأرمني أساي غرابيدان.

كان المصور غرابيدان المصور الشخصي للإمبراطور الألماني ويليام الثاني خلال زيارته للقدس عام 1898، وهو أول من فتح مدرسة للتصوير بفلسطين وذلك بالحي الأرمني، وما زالت موجودة بمكانها حتى الآن، تظهر في جوانبها والصور الملتصقة على جدرانها أول صور فوتوغرافية التقطت بفلسطين منذ عهد العثمانيين، مرورًا بالانتداب البريطاني، إلى سيطرة الثوار العرب على فلسطين دفاعًا عنها، ثم الاحتلال الإسرائيلي.

كانت مدرسة التصوير المذكورة أول من خرجّت مصورين عرب بفلسطين مثل خليل رعد، وهو أول مصور عربي بفلسطين، وما زالت هذه المدارس والمعامل القديمة يتوارثها أبناؤهم من الطائفة الأرمنية أبًا عن جد.

ضم هذا الحي مكتبة دير يعقوب أيضًا التي ضمت أكثر من 3000 مخطوطة وبدأ العمل والاهتمام بها في عهد السلطان العثماني سليمان القانوني، وهي أكبر مكتبة حتى الآن داخل القدس القديمة، وأضخم ثاني مكتبة أرمينية للمخطوطات في العالم.

بالإضافة إلى مطبعة دير مار يعقوب، وهي أول مطبعة افتتحت بفلسطين، وذلك عام 1838.

ويمتلئ مدخل الحي بحجرات لمهنة السيراميك المزخرف، وصولاً إلى المسجد الأقصى، ويُعتبر ذلك أول معامل السيراميك المزخرف في البلاد التي أُقيمت بالقدس على يد الأرمن، ويعد السيراميك المحيط بمآذن المسجد الأقصى وخاصة مسجد قبة الصخرة من أهم الإنجازات الأرمنية على الأرض الفلسطينية التي صُممت بهذه المعامل بالذات، وذلك على يد القيشاني الشهير بعهده نضال باشا كركشان.

وجدير بالذكر أن الأرمن وخاصة الذين يملكون هذه المعامل القديمة في هذا الحي، من محتكري ممارسة هذا العمل كفن في الأراضي الفلسطينية حتى الآن.

أولى الكنائس في الوطن والتاريخ ومقام شقيق سيدنا عيسى

يحتوي حي الأرمن أيضًا على أول بطريركية في فلسطين، وأولى الكنائس بالتاريخ أيضًا من خلال (دير مار يعقوب) الذي سُمي الدير باسمه، حيث دُفن فيها الرسول يعقوب بن زبدي، وهو من كبار القساوسة بالقدس، ويُروى أيضًا أنه شقيق يوحنا الحبيب، أحد التلاميذ الإثنى عشر للسيد المسيح.

ما يعقوب الثاني الذي دُفن بهذا الدير الأرمني هو يعقوب الصغير ويُسمى أيضًا بالبار يعقوب، وهو الشقيق الروحي لسيدنا المسيح عيسى بن مريم، وما زالت هذه الكنائس الأرمنية يقصدها أبناء الطائفة الأرمنية من جميع دول العالم للتعبد والزواج والدفن والتعميد وغيره، حيث لا يخلو هذا الحي من الزيارات الدولية له من أبنائه.

وأوضح كبير الطائفة الأرمنية ومؤرخها الدكتور ألبرت أغازريان، بأن هذا الدير يُشكل تجمعًا ليوم الحداد السنوي للأرمن (يوم 24 من من أبريل من كل عام)، في ذكرى المذبحة بحقهم، وذلك خلال الحرب العالمية الأولى، كما يوجد بالقرب من باب العامود أحد أبواب المسجد الأقصى ضريج الجندي المجهول و40 طيرًا حوله صممت من التماثيل القديمة التي تعود للحقبة البيزنطية وكتب تحته باللغة الأرمنية (سلام لأرواح لا يعرف أسماءهم سوى رب العالمين).

Share This