حيّ الوتوات: الأرمن مرّوا من هنا

أحمد محسن

حيّ الوتوات ذاكرة أكثر من كونه مجمعاً سكنياً. فذلك الهدوء، المستريح في قلب
العاصمة، بناه الأرمن في منتصف القرن الفائت، بالتعب والشغف. اليوم، تقلص عدد سكانه الأصليين كثيراً، وجثا العمران الحديث فوق معالمه القديمة. لكنّ الباقين… يتذكرون

ولد يبراد أمسيان في سوريا خلال فترةٍ لم تكن منطقة برج حمود معروفةً فيها. لا ذكريات لديه كثيرةً في الشام. حياته المهنيّة انطلقت في «حي الوتوات» عام 1958. حمل في ذاكرته حادثتين من «دير الزور» إلى محله الصغير. الأولى مهنيّة تتعلق بتعلمه إصلاح البرادات والثلاجات. أما الثانيّة، فتبدو «أعزّ» على قلبه. ما زال حتى الآن يتذكر اليوم الذي «صافح فيه الرئيس المصري جمال عبد الناصر»، خلال جولة للأخير في البلدة السورية. لكن الحياة ليست في دير الزور. الحياة هنا، في لبنان، في الحيّ المسكون بالقصص: كانوا يقولون وتوات أرمن. كان الحيّ في الستينيات من القرن الماضي «أرمنياً إلى حدّ كبير» يقول جازماً.

يتذكر المدرسة القديمة في آخر الشارع التي بيعت قبل عامين. يتذكر الشارع نفسه المؤدي إلى منطقة الصنائع، ويتحسّر على اختفاء المساحات الخضراء و«السكان الأصليين». لكن الأهمّ بالنسبة إليه، تكاثر المباني الجديدة، فيصبح الحوار معه على قاعدة: «حدّث ولا حرج». يكاد السبعيني يتعب وهو يشير بإصبعه يمنةً ويسرة. مبنى تلفزيون المستقبل الحالي باعه مالكه الأرمني في منتصف الثمانينيات بمبلغ 275 ألف ليرة، قبل أن يشتريه التلفزيون مطلع التسعينيات بأكثر من مليون ليرة بقليل. كانت الأرقام قليلة والحياة سهلة رغم أوزار الحرب. المبنى إلى يمين المحل هو «مبنى أبرويان» وقد غادره مستأجره الأرمني بعدما قرر صاحب العقار إنشاء مبنى «مودرن». المبنى المحاذي لمحلّه الصغير أنشئ قبل أعوام قليلة على أنقاض آخر قديم، كانت طبقته الثالثة تسكنها امرأة وحيدة. كان الجيران يحبونها ويناديها الأولاد بالـ«أرمنية» للدلالة إليها. رحلت المرأة بعد هدم المبنى، وبقيت ذكراها الطيبة بين أهل الشارع. وإلى ذكراها ماتت ذكرى «شرمينيان» أكبر تاجر أقمشة في بيروت بعد الاستقلال، و«الدكتور سميرجيان الذي كان يدرّس في الجامعة الأميركية».

التهديد الأكبر الذي يواجه الحيّ اليوم هو البناء الحديث

تدلف إلى ذاكرة الرجل معالم أخرى اختفت من «الوتوات». صيدلية شارلصيان، التي كانت أولى الصيدليات في القرن الماضي، بناها صاحبها قرب «الكنيسة اللاتينية». منزلا فرانسوا رابيلا وصلاح طبارة، أكبر تاجرين للأدوية لفترة طويلة. لم يبق شيء من هذا كله. منهم من مات ومنهم من اقتنى «بيتاً صغيراً في كندا»، وبطبيعة الحال، منهم «من نزح إلى برج حمود» حيث يقطن يبراد أمسيان نفسه. بيد أن يبراد وفيّ لحيّه الأوّل. لا يعرف العيش خارج ذلك الهدوء الفريد. الرجل الودود يحتفظ بإيصال الكهرباء الأول الذي دفعه في 1958 حين كان يدفع ألف ليرة لبنانية في الشهر بدل إيجار. واليوم، يريدون أن يخرجوه من محله الذي يألفه منذ 53 عاماً. نصف قرن في ذلك المحل الذي «أصلح فيه ذات مرة براداً أميركياً لرئيس مجلس النواب نبيه بري». يريدون أن يخرجوه ليبنوا مبنىً عملاقاً آخر دخيلاً على ذاكرة الحي، وطاعناً في ثقافته الأم.

وفي الشارع نفسه، ساكنةٌ أصيلة أخرى مهدّدة بالرحيل. على بعد خمسين متراً تقريباً أمام محل يبراد، هناك آزودي، السيدة الأرمنية التي تدير محلاً للسمانة. يناديها أهل الحي بـ«أم رياض» لأن لافتة المحل تحمل اسم «ميني ماركت أبو رياض»، بينما أسماء أولادها الحقيقية أرمنية. يعيش أولادها في الزلقا، جميعهم. هي فضلت البقاء في المنزل الأبيض «ذي الأقواس الثلاث» الذي سكنته منذ زواجها قبل 46 عاماً. زوجها كان في «الوتوات» قبلها وأتت لتعيش معه. تستضيفنا في بيتها المواجه للدكان بلطف بالغ. تخبرنا عن الكنائس في زقاق البلاط وحفلات الأرمن القديمة. لطالما كان الحي «مختلطاً» كما تذكر، و«الأرمن» ما زالو يسكنونه. على نقيضٍ من يبراد، لا ترى أزودي أن «الأرمن هجروا أحياءهم». صحيح أنهم غادروا بأعدادٍ كبيرة في أول الثمانينيات «لكن ما زال الكثير منهم هنا»، تؤكد. تذكر السيدة مدرسة جامريان ونادي الهومنتمن للكشاف أكثر من غيرها. ترفض ـــــ ضمنياً ـــــ الاعتراف بالواقع الديموغرافي الحالي. وتعود لتسرد: في تلك الزواريب جاور الأرمن الدروز والسنّة، وعاصروا «النزوح الجنوبي» الكثيف. وفي تلك الطرقات التي كانت حدائق للمنازل الصغيرة أقاموا «سهرات الأحد» الطويلة. لم يكن هناك طائفية ولا طوائف تهدّد الحي. التهديد الوحيد في حالة آزودي هو البناء الجديد. منزلها القديم مهدّد هو الآخر بعدما قرر المالك الأصلي «ترحيلها» منه بعد نصف قرن. هي التي لا تعرف العيش في مكانٍ آخر، لم تحمها «محبة» أهل الحي، ولم يشفع لها أن تحفظه كما تحفظ ملامح أولادها.
صعوداً باتجاه «أطراف» الوتوات. لا يضيع السائل عن آرمين. المحلّ القديم لبيع الأحذية ما زال في مكانه منذ عقود. وريث المهنة تعلم إدارة الأعمال في جامعة هايكازيان، لكن حنينه إلى مهنة الأب أقوى من شهادته الجامعيّة. يحيلنا فوراً على المبنى المجاور. تعرف أنه قديم قبل رؤيته. فهو مسوّر بالأخضر ولا يوحي بالوحشة رغم أنه أنشئ عام 1946. استغرق بناؤه ست سنوات. العائلة حافظت عليه، وهي من العائلات القليلة في بيروت التي «لا تفكر ببيعه إطلاقاً». سيصمد هذا المبنى من فورة الباطون، والأمر الأكثر إيجابية، أنه ـــــ وفقاً لآرمين ـــــ أقدم المباني السكنية في حيّ الوتوات. غادر صاحب المحل للعمل في عاليه، قبل الحرب، لكنه عاد بعد الاجتياح، بما أن زوجته بقيت في المنطقة. كان سكان الحي أشبه بالعائلة الواحدة. شيء يشبه ما تنقله «هوليوود» عن أحياء القوميات في نيويورك. جلب الأرمن معهم إلى الوتوات ثقافتهم، من طعام وحرفٍ ولغة. ويرى صاحب المحل أن الحيّ نفسه «كان ملاذاً للطبقة المتوسطة الأرمنية». فالآتون إليه براً من حلب هم الذين بنوه، وفيه أربع مدارس، على عكس اللاجئين الأرمن إلى الكرنتينا عبر البحر، الذين عانوا كثيراً لتوضيب شؤونهم في لبنان، قبل ظهور برج حمود.

لا تنوي عائلة آرمين المغادرة أبداً. الوالدة متعلقة بالشارع البيروتي وأمور العمل جيدة. تفتقد الأم الأرمنية بعض التفاصيل، كأن يجري احتفال عائلي يوم الأحد مثلاً، أو أن يخرّج الحي «قيادات الأحزاب الأرمنية ووجهاء الطائفة». يقترعون اليوم في المصيطبة، وهم مرتاحون جداً في بيروت ويعدّون أنفسهم جزءاً منها. وهذا حقيقي. حتى المعالم الثقافية في المنطقة كانوا سباقين إلى بنائها. تذكر الوالدة «مسرح كارلوسبوغيان»، أو «مسرح الأنترانيك». و«الأنترانيك» الذي كان نادياً رياضياً ما زال معلماً معروفاً في المنطقة. لكن المبنى اهترأ. افترشه الغبار سريراً ونوافذه المهجورة أشد أنباءً من الأشباح.

المئات الذين كانوا ثلاثين ألفاً

يقدر يبراد أمسيان عدد سكان حيّ الوتوات الأرمن، بين 40 و50 ألفاً خلال فترة الستينيات، علماً بأنه هو نفسه حصل على الهوية اللبنانية عام 1983. وبالنسبة إلى نفوسه، هو «عند المختار بيضون في زقاق البلاط». يحب الحرفي القديم جيرانه، ويعرف أنهم «يحبونه ويبادلونه الاحترام نفسه». وفي هذا الإطار، تشير دوائر النفوس إلى وجود 26757 مواطناً أرمنياً أرثوذكسياً، و3578 أرمنياً كاثوليكياً، مسجلين في الدائرة الثانية، الصغيرة نسبياً، التي يقع حيّ الوتوات فيها. وإذا لم تخن يبراد ذاكرته، فإن العدد الأكبر من الأرمن سكن الوتوات، الحيّ الملاصق لزقاق البلاط، ما يفسر وجود سكان أرمن في «الزقاق» اليوم أيضاً. لكن هل هذا الرقم مقيمٌ كله اليوم بين الوتوات وزقاق البلاط؟ يضحك أمسيان، ساخراً في البداية، قبل أن يردف بنبرة حزينة: «الأرمن في كندا، جميهم سافروا، رحلوا من هنا، بقي المئات في أقصى تقدير، والذين يصوتون في الانتخابات يأتون من برج حمود». حتى أولاده هو، مقيمون في إسبانيا منذ التسعينيات، لكنهم، «يمرون» على الحي القديم بين الحين والآخر.

نازاريان مصوّر الأمراء

في ظهر حيّ الوتوات، لجهة «سبيرز»، يستكين محل أقدم مصور في المنطقة أيضاً. وفد أوهانس نازاريان إلى ذلك المحل القريب من «برج المر» في 1958، آتياً من فرن الشباك. تذكر زوجته نوبار أن «الأرمن أول من أدخل التصوير إلى لبنان». وكان زوجها محترفاً، ومعروفاً بلقب «ملك الأبيض والأسود». فقد كان معظم المصورين في ذلك الوقت يحضرون «النيجاتيف» إليه، حتى «يروتشها» ويكبرها. معظم هؤلاء «الزباين التقّالة» كانوا الأمراء الذين يقضون الصيف في عاليه. تذكر نوبار أن «جميع المحالّ القريبة احتلت بعد الحرب»، إلا محل زوجها «لأنه كان طيب السمعة ومحبوباً من الجميع». وفعلاً، أكد الجيران حديثها. يذكرون المصور القديم الذي رحل منذ عشر سنوات وترك «الاستوديو» الصغير لزوجته. تعلمت المهنة منه، لكنها «ليست محترفة مثله». تصوّر «صور الباسبور» الصغيرة فقط. هدفها الأساسي من الوجود في تلك المساحة الضيقة ذات السقف المرتفع هو الحفاظ على إرث زوجها. تدخل إلى الاستوديو وتدلنا على الأدوات القديمة التي كان يستعملها. ترفض أن نلتقط لها صورةً. تتلعثم حين ترفع بعض الستائر عن آلات زوجها المنسية. هذا المحل ملك له، وهي تتعامل مع الذكريات على هذه القاعدة. لن تتركه يوماً ولن تبيع ذاكرتها.

العدد ١٤٤٤ الخميس ٢٣ حزيران 2011

الأخبار

Share This