مئة عام على إنشاء فندق بارون

فوق مدخل الفندق الرئيسي وسط الفسحة التي يصعد اليها بدرجات وتحلو الاقامة في الامسيات ومشاهدة المارة على رصيفي الشارع الهام في حلب، نُقش حفرا في الحجر الكلسي الذي اشتهرت به حلب عبر العصور وباللغات العربية والإنكليزية والأرمنية وبحروف واضحة شابها سواد السنين “أوتيل بارون 1911 مظلوميان أخوان“.

أجل مرّ مئة عام على إنشاء فندق بارون من قبل الأخوين مظلوميان المعروفين في مجال الخدمات الفندقية السياحية.

ان مدينة عظيمة مثل حلب، التي خبت تجارتها الدولية واضمحلّت الى العشر إثر افتتاح قناة السويس العام 1869، بدأت تزدهر في بداية القرن العشرين مع انشاء محطة الشام وتسيير خط حديد رياق – حلب ومع انشاء محطة بغداد وسير قطار الشرق السريع على خط برلين – بغداد ، وبدأ التجار والسياح والشخصيات البارزة والوفود وأصحاب المصالح تأتي الى حلب.

لذلك كان لا بد من انشاء فندق يليق برجال الأعمال والشخصيات الدبلوماسية الهامة وهكذا انشىء فندق بارون فندق الطبقة الممتازةhotel de classe طبّقت شهرته الآفاق ونزل فيه عظماء، حتى أطلق اسمه على الشارع الهام الذي بني فيه فسمّي “شارع بارون” وكان، كما يذكر الأستاذ سعد كواكبي، “شانزيليزيه” حلب في الأربعينات من القرن الماضي (تشبيهاً بأفخم شارع في باريس).

لن أكرّر ذكر ما يعرفه الجميع عن نزلاء الفندق الهامين، ولكني سأذكر بعض معلومات عن صاحب الفندق المرحوم كوكو مظلوميان والد الصديق أرمين، الذي حاولت أن ألتقيه كي آخذ بعض اجابات على تساؤلاتي، لكنه اعتذر بسبب حالته الصحية، فلم أتمكّن من التحدّث اليه ولو بالهاتف وأتمنّى له الشفاء من وعكته.

لا زلت أذكر كيف كان السيد كوكو يملأ جو الفندق بصالونه وباره وصالة استقباله وباحتيه وقاعة الطعام بوجوده مع كلبيه الأبيضين اللذين يرافقانه حيثما ذهب متنقلا بين الفندق وفيلا سكنه القريبة يفصل بينهما حديقة صغيرة.

وكيف كان يرحّب بلغته الانكليزية الأنيقة بضيوفه ويدهشهم بمعلوماته الغنيّة عن تاريخ المنطقة وجغرافيتها وأحاديثه عن زوّاره الهامين.

ولا أنسى مرافقتي له مع كلبيه والصديق الفنّان المصور جورج مانوكيان، في كل عام في الربيع أو الخريف، لاختيار صورة موقع أثري متميّز وهام يصوّر معه الكلبان وهما رافعان قائمتيهما الأماميتين الى الأعلى، لترسل الصورة لاحقاً في عيد الميلاد ورأس السنة الجديدة الى جميع الأصدقاء في العالم ومنهم نزلاء الفندق الدائمين عند زيارتهم حلب.

وكم كان التقاط الصورة كل عام ومع أثر مختلف ومتميّز مضنياً.

يقف الكلبان أمام واجهة المشهد، وليكن مثلا الواجهة الجنوبية لكنيسة القديس سمعان العمودي، ويبدأ السيد كوكو بتوجيه كلماته بالانكليزية الى كلبيه للوقوف على القائمتين الخلفيتين ورفع الأماميتين الى الأعلى، معا وفي الوقت نفسه والمصور جورج متأهّب لالتقاط صورة الكلبين والواجهة الجميلة: هيّا بروتوس ..هيا سيزر.

كان كوكو يحب أن يطلق على كلبيه أسماء العظماء؛ قيصر، بروتس، كالي، تراجان …وفي كل مرة يهرم زوج الكلاب يؤمّن الحصول من انكلترا على زوج آخر من السلالة البيضاء الفخمة نفسها وهي سلالة غولدن روتريفر الشهيرة.

ويستمرّ التدريب والأداء المضني نصف ساعة أو أكثر، وأحيانا نعيد اللقطة مرّات طيلة ساعة ونصف الى أن نؤمّن بطاقة رأس السنة المناسبة  “بالأبيض والأسود” ترسل كل عام .

وقد رافقتُه عدة مرّات في عدّة سنوات . وقد ذكر لي رحمه الله ان الأصدقاء كانوا ينتظرون بطاقة رأس السنة كل عام بفارغ الصبر، يشاهدون فيها الكلبين وأحد المعالم الأثرية الجميلة في سورية مثل قلعة سمعان والمشبك وخراب شمس وقبلّي والبارة وسواها.

وكان يوزع 150 بطاقة كل عام توجّه الى أصقاع العالم كافة تذكّر بسورية وحلب وفندق بارون، فهل هناك أجمل من هذه الطريقة للدعاية عن آثار بلادنا في زمن لم يكن الكمبيوتر والانترنيت معروفين بعد؟.

لقد استقبلنا كوكو أكثر من مرّة مع بعض الضيوف في داره قرب الفندق مع زوجته الانكليزية اللطيفة السيدة سالي. كانت لديه مكتبة تضمّ مجموعة كتب تاريخية يعتزّ بها، من بينها أحد كتب البعثة الأمريكية الأثرية لجامعة برنستون الى سورية العام 1899 – 1900 مما كنا نبحث عنه مع الآباء الفرنسيسكان بنيا وكستلانا وفرناندس في دراساتهم عن جبال الكتلة الكلسية شمال سورية، وقد سمح لنا بتصويره بكل ترحاب. وهو الذي أعلمني ان لورنس العرب لم يكن يحوي في مكتبته أكثر من ألف مجلّد كتاب، فاذاجاءه كتاب جديد وزّع أحد كتبه القديمة الى صديق. وكان لورنس نزيل الفندق في كل مرة يقصد فيها حلب من موقع التنقيب في جرابلس (كركميش) حيث كان يعمل بين عامي1911 و1913 لذلك توثقت عرى الصداقة بينهما. كان كوكو وقد غادرنا الى رحمته تعالى العام 1993 على ما اعتقد، أحد وجوه حلب المضيئة والمتميّزة ومن ذاكرتها إبان فترة الحرب العالمية الثانية وما بعدها.

ومن الأمور التي لا يعرفها الكثيرون من سكان حلب ان فندق بارون تميّز بوجود مطبخ جيّد فيه.

وقد حدّثني الصديق أرمين بن المرحوم كوكو وحفيد مؤسّس الفندق ان الجنرال دوغول خلال وجوده في حلب في الأربعينيات من القرن الماضي لم ينزل في الفندق إذ كان يبيت في المندوبية (القنصلية الفرنسية لاحقا وعزيزية سنتر حالياً) الكائنة قرب دار ألبير رزق الله حمصي مقابل مخفر العزيزية، لكنه كان يأتي ليأكل في فندق بارون.

وهنا اسمحوا لي أن أذكر ان جدّ زوجتي من جهة أبيها واسمه بوغوص جبيان كان الطبّاخ الأول في فندق بارون بعد أيام سفر بلّك وبداية العشرينات من القرن الماضي، وقد أخذت زوجتي نفَس الطبخ الجيّد بالوراثة عنه، بالاضافة الى ما تعلّمته من والدتي رحمها الله وهي من مدرسة جدّتي لأمي خاتون، وكان نتيجة ذلك الطبخ الجيّد الوراثي تربية هذا “الكرش” المزعج فيّ ومع هذا العمر (يطبخون جيدا ويطلبون منا أن لا نأكل).

كان الجدّ يأتي الى البيت، ولا رغبة له في تناول أيّ طعام، من كثرة ما تذوّقه واستنشقه من رائحة في اعداد وتركيز الأطعمة المقدّمة في الفندق،

وتتناقل العائلة رواية انه صنع مرّة قالب “معكرونة غراتينيه” مميّز للجنرال غورو المندوب السامي ومدعويه في فندق بارون، أوائل أيام الانتداب، جعله على طبقات في بعضها لحم خروف وفي بعضها دجاج وخضار وسواها (على مثال طبق السوربريز الحالي) وفي كل طبقة نكهة متميّزة ولذيذة ممّا أعجب غورو فقدّم له مكافأة مالية مجزية وبراءة شهادة امتياز بالطبخ.

توفي الجد المعلّم طباخ “الشيف بوغوص” في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي ولا أحد من أفراد العائلة الأحياء يعرف شيئا عن شهادة غورو.

أجل بعد مرور مئة عام على انشاء فندق بارون  ورغم الوضع المؤلم الذي يتعرّض له الفندق من التهاون والاهمال في تجديد أثاثه وحيوية الخدمة المحدودة فيه بسبب ظروفه الخاصة.

يصرّ العديد من السياح على المبيت فيه وتذكّر الأيام الخوالي، أو على الأقل يمر السيّاح الأجانب نزلاء الفنادق الأخرى، إثر زيارتهم المتحف الوطني القريب، لمشاهدة فاتورة لورنس وحيث كتبت الروائية أغاثا كريستي جزءا من روايتها ” جريمة في قطار الشرق السريع” ولتناول كأس شاي أو مرطبات في بار الفندق الشهير بأثاثه القديم الذي يعود بطرازه إلى عهد الملكة فكتوريا.

اعداد المهندس عبد الله حجار

عس السير

Share This