عيد المترجمين لدى الأرمن

ن. أ.

يعتبر عيد المترجمين لدى الأرمن، عيداً مخصصاً لإيجاد أو اختراع الأبجدية الأرمنية واحتفاء بكبار رجال الثقافة ورواد حركة الترجمة.

إذ تقوم الكنيسة الأرمنية بالاحتفال بعيد المترجمين مرتين في السنة:

المرة الأولى: في نهاية شهر حزيران للاحتفال بمخترع الأبجدية القديس ميسروب ماشدوتس وساهاك بارتيف.

والمرة الثانية: في شهر تشرين الأول للاحتفال بعيد ميسروب وتلاميذه من أوائل الرواد المترجمين أمثال: غيفونت وكورون ويزنيك وموفسيس خوريناتسي وغيرهم.. وفي نفس الوقت للاحتفال بأول ترجمة للكتاب المقدس الى اللغة الأرمنية.

وعلى اعتبار أن الأرمن يقدّسون لغتهم وأبجديتهم، فإن الترجمة أيضاً لها مكانتها الى درجة التقديس. وتصنِّف الكنيسة الأرمنية رجال الترجمة ورواد الثقافة بنفس درجة القديسين – أي تمنحهم القداسة-. ولذلك سموا مكتشف أو مخترع الأبجدية والمترجم ميسروب ماشدوتس قديساً، واعتبروا عيد المترجمين عيداً من الأعياد الرئيسية لديهم.

 إيجاد أو اختراع اللغة الأرمنية

على الرّغم من إعلان المسيحيّة ديناً رسمياً في أرمينيا عام 301، فإن طقوس وتراتيل الكنيسة الأرمنيّة لم تكن تكتب باللغة الأم، بسبب عدم وجود الأبجدية والكتابة الخاصة بالأرمن.

لما كانت الصلوات والطقوس تقام باللغتين: اليونانيَّة أو السريانيَّة، فقد كان من الضروري ابتكار اللغة الأرمنية. ويعود الفضل بذلك الى ثلاثة شخصيات: الملك فرامشابوه والكاثوليكوس ساهاك بارتيف والراهب وعالم اللغويات ميسروب ماشدوتس المعروف بإلمامه باللغات اليونانية والفارسية والسريانية فضلاً عن اللهجات الأرمنية.

قام مسروب ماشدوتس بالسفر والتجوال للبحث في لغات الشعوب الأخرى، ووصل الى الهند، وأفريقيا، ومصر. واستعان بعالم ومطران سرياني واستنبط منه الأحرف الأولية.

وفي النهاية، استطاع في عام 406 الحصول على مجموعة من الحروف بلغت ستة وثلاثون حرفاً.

وفي نهاية القرن الثاني عشر أضاف علماء الصرف والنحو الأرمن على تلك المجموعة حرفين آخرين، فأصبحت ثمانية وثلاثون، وهي تكتب من اليسار الى اليمين.

 اللغة الأرمنية

تعتبر اللغة الأرمنية إحدى الفروع المستقلة من عائلة اللغات الهند-أوروبية . فقد تشكلت على أنها لغة خاصة بالأثنية الأرمنية بعد انفصالها عن اللغات الهند-أوروبية قبل 5 آلاف عام ق.م.

فقبل تدوينها كانت اللغة الأرمنية قد تشكلت بعد اعتناق المسيحية خلال الطقوس الدينية والمواعظ الشفوية. وبدأت عملية الكتابة والتدوين بالأحرف بعد إيجاد أو اختراع الأبجدية من قبل الراهب ميسروب ماشدوتس.

ويمكن تقسيم اللغة الأرمنية الى ثلاثة أقسام:

1) الأرمنية القديمة: بين القرن الخامس والحادي عشر

2) الأرمنية الوسطى: بين القرن الثاني عشر والسادس عشر

3) الأرمنية الحديثة: من القرن السابع عشر حتى يومنا هذا. وتقسم الى فرعين:

   – الأرمنية الشرقية: يتحدث بها الأرمن في أرمينيا وإيران.

   – والأرمنية الغربية: يتحدث بها الأرمن في المهجر، ولكل منها أدبها مع فارق طفيف في قواعد الصرف والنحو.

 حركة الترجمة

مما سلف نجد أنه، لم تكن للأرمن حروف أبجدية حتى القرن الخامس الميلادي، حيث تحولت اللغة الأرمنية الشفوية الى لغة مكتوبة مقروءة، ومن هنا بدأت انطلاقة تدوين الأدب الأرمني وبدأت معها حركة الترجمة.

لقد نشأت حركة الترجمة لدى الأرمن بهدف الحفاظ على الاستقلالية الثقافية والدينية لأرمينيا.

وأول عمل ترجمي قاموا به هو ترجمة الكتاب المقدس، حيث أضحى بداية النهضة الأدبية وحركة الترجمة من اللغات الأخرى مثل اليونانية، والسريانية، واللاتينية، والفارسية، والعربية.

وكان (سِفر الأمثال) هو أول سفر من الأسفار المقدسة نقل الى الأرمنية. ثم نقل العهد الجديد كله. وبعد ذلك نقل العهد القديم. حيث نقلت هذه الترجمة من النص السرياني، لكن بعد ذلك بدأت الترجمة الثانية اعتماداً على النص اليوناني.

وهكذا، بدأت نخبة من الأدباء الأرمن بترجمة الكتاب المقدس، وتفسيره، ونسخه، ونشره. فقد قام القديس ساهاك، بترجمة الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، ثم قام الأسقف بدروس بتفسيره وعمل أنانيا شيراكاتسي بترتيب أسفار الكتاب المقدس وتقسيمه الى فصول. الخ.

كما قامت الكنيسة الأرمنية بترجمة تفسير أفرام للإنجيل. ونقلت لأفرام تفسير أعمال الرسل، ورسائل القديس بولس التي فقدت النسخة السريانية منها.

وتجدر الإشارة الى أن النسخة الأرمنية المترجمة للكتاب المقدس عرفت من قبل الأجانب بأنها (ملكة الترجمات) لجمالها اللغوي، ودقتها في ترجمة المعاني.

ويمكن اعتبار المرحلة الأولى من حركة الترجمة قد بدأت في النصف الأول من القرن الخامس، وبذلك تم تعزيز الديانة المسيحية. بعد ذلك تم افتتاح أول مدرسة للترجمة، تتضمن كافة أقسام الآداب الدينية.

إن ترجمة الكتاب المقدس لعب دوراً هاماً في نهوض اللغة الأرمنية الكنسية. فقد ترجمت فيما بعد أمهات الكتب الكنسية واللاهوتية من اللغة السريانية، واليونانية، وأسهمت المؤلفات المترجمة في خلق تواصل حضاري مع اللغات والشعوب الأخرى. واستناداً الى ذلك النشاط عرف القرن الخامس الميلادي بالعصر الذهبي.

أما المرحلة الثانية من حركة الترجمة، فكانت مرتبطة بترجمة العلوم الكلاسيكية اليونانية في منتصف القرن الخامس وحتى بداية القرن الثامن، متضمنة مؤلفات للفكر الكلاسيكي والمؤلفات الفلسفية لأفلاطون وأرسطو وآخرين.

وتطورت حركة الترجمة في القرن الرابع عشر من خلال ترجمة المؤلفات اللاتينية، مما أسهم بالتأثر بالفكر الأوروبي.

وبفضل حركة الترجمة، تم الحفاظ على الكثير من المؤلفات الكلاسيكية، ومؤلفات تعود الى القرون الوسطى بالنسخ الأرمنية فقط بعد فقدان أو تلف النسخ الأصلية.

ومن جهة أخرى، تجدر الاشارة الى أنه مع الفتح الإسلامي لأرمينيا في عام 640-650 م. شهدت تلك القرون حركة ترجمة متبادلة جراء التبادل الثقافي بين الشعبين الأرمني والعربي.

فقد ترجم كتاب (تاريخ الأرمن) للمؤرخ أكاتانكيغوس و(كتاب الثعلب) لوارطان أيكيكتسي الى العربية وهو كتاب يشبه (كليلة ودمنة) حوار على لسان الحيوانات.

وكذلك نقل كتاب عن (علم طب الخيل) لأقرابازين الى الأرمنية. ونقل من العربية الى الأرمنية كتاب عن (تفسير الأحلام) و(تبر الملوك) ومقاطع من (ألف ليلة وليلة) على يد أراكيل أنيتسي ومخيتار كليكانيتسي. وترجمت رسائل (إخوان الصفا وخلان الوفا) على يد يرزنكاتسي، وصدرت بعنوان (كتابات الفلاسفة المسلمين).

وتم نقل كتب لأطباء عرب الى اللغة الأرمنية، مثل كتب الرازي وابن سينا وغيرهم. وتجدر الإشارة الى أنه هناك 40 ترجمة باللغة الأرمنية لكتاب (تشريح الانسان) للطبيب العربي أبي سعيد.

ومما يدل على وجود تبادل ثقافي وترجمة للأعمال الطبية في القرون الوسطى، إحراز أطباء عرب عاشوا في أرمينيا شهرة واسعة، ويذكر عن أطباء أرمن عاشوا في البلدان العربية مثل مخيتار هيراتسي وترجموا كتب طبية مشهورة الى اللغة الأرمنية.

ونجد اهتمام الساسة بحركة الترجمة كملك كيليكيا الأرمنية (1226-1269) إذ أمر بترجمة مجموعة من الكتب التي تعنى بصناعة الفولاذ والسيوف والكيمياء الى اللغة الأرمنية.

ويرى اللغويون أنه في القرون الوسطى، دخلت حوالي 700 كلمة من أصل عربي الى اللغة الأرمنية، نتيجة الاحتكاك بين الشعبين: الأرمني والعربي. وشملت تلك الكلمات مجالات الدين والطب والكيمياء والفلك وغيرها.

ومن المهم ذكره وجود مئات الكتابات والنقوش العربية على الحجر في أرمينيا التي تعود الى القرون الوسطى.

وهناك قواميس عربي-أرمني مدونة باللغة الأرمنية تعود الى القرن الخامس عشر.

ونتيجة الاحتكاك بين الأرمن والعرب وإتقان الأرمن للغة العربية ظهر عدد من الأرمن الذين أبدعوا باللغة العربية أمثال المؤرخ أبو الصالح الأرمني – نهاية القرنين الثاني عشر وبداية الثالث عشر م- الذي يعتبر مؤرخاً عربياً من أصل أرمني حيث قام بتأليف كتاب (تاريخ أديرة وكنائس مصر) الذي ترجمه الى الأرمنية الأب غيفونت أليشان، وكذلك المؤرخ مكرديج الكسيح الأرمني (القرن السابع عشر م) ، ورزق الله حسون (صاحب جريدة مرآة الأحوال) (1855)، وأديب اسحاق (1856-1885) وغيرهم.

ويذكر أن مرحلة جديدة من حركة الترجمة بدأت حقاً في القرن الثامن عشر. فقد ترجمت الأعمال الكلاسيكية، وأهم الأعمال في الآداب الأوروبية والأمريكية.

وتجدر الاشارة الى أن الرهبان (المخيتاريين) قاموا بعمل نشيط في مجال الترجمة حيث ترجموا (الإلياذة) و(الأوديسا) وغيرها.

في الحقيقة وصلت حركة الترجمة لدى الأرمن أوجها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. عندما ترجمت روائع شكسبير وغيرها الى اللغة الأرمنية.

أما ما يتعلق بترجمة المصادر العربية حول أرمينيا الى اللغة الأرمنية، فقد قام المؤرخ الأرمني ب. خالاتيانتس بترجمة الفصول المتعلقة بأرمينيا ضمن دراسات الجغرافيين العرب كالبلاذري، واليعقوبي، والطبري الى اللغة الأرمنية. (نشرت في 1919).

وكذلك قام أ. أداميان بترجمة مقاطع من البلاذري واليعقوبي. كما قام هـ. نالبانديان بترجمة مقاطع تتعلق بالأرمن وأرمينيا من كتب المؤرخين والجغرافيين العرب أمثال ياقوت الحموي في (المعجم الجغرافي) وغيره (نشر في 1965).

وفي البداية القرن العشرين، تم نقل إبداعات الكتاب والشعراء والمؤرخين والمستشرقين والعلماء الأرمن من اللغة الأرمنية إلى اللغة العربية.

ففي بداية الأربعينات نشر عالم اللغويات الأرمني هرتشيا أجاريان (سلسلة دراسات بعنوان المصادر الأجنبية حول الأرمن)، حيث ترجم فيها مقاطع من مؤلفات ابن بطوطة حول رحلته الى أرمينيا، وكيليكيا، وتم نشر النص العربي الى جانب النص الأرمني.

ومن أهم  تلك الأعمال أيضاً ترجمة الرواية الشعرية (عروج أبي العلاء) للشاعر الأرمني الكبير: أواديك إسهاكيان إلى العربية في عام 1948 على يد العلامة خير الدين الأسدي بمساعدة بارسيخ تشاتويان.

أما في العقود الماضية، فقد ظهر جيل جديد من المستشرقين في أرمينيا، واهتموا بأمور الترجمة. ويذكر أن قسم الدراسات الشرقية في أرمينيا، يحتل مكانة مرموقة ضمن مراكز أو معاهد الدراسات الشرقية في العالم. كما اهتم بالتعمق في دراسة تاريخ العرب في القرون الوسطى، وخاصة المصادر العربية، والتاريخ المعاصر للبلدان العربية.

وفي نهاية القرن العشرين بدأت من جديد حركة ترجمة الكنوز الأرمنية الى العربية إسهاماً في توطيد العلاقات الأرمنية-العربية، وإغناء للمكتبة العربية، بما يسهم في إفادة القارىء العربي للتعرف على آداب الشعوب الأخرى.

فالمترجمون في خدمة تفاعل الثقافات، وحق للمترجمين أن يكون لهم عيد.

Share This