هيك وهيك

كانت زوجتي كعادتها تبحث عن نظاراتها ، فهي تستخدم ثلاثة أنواع من النظارات . لذلك تبحث دائماً عن احداها . وتتسآل في نفسها ياتري ، أي نظارة استخدمت ؟ ومتى أخرمرة ؟ وأين وضعتها ؟ . وكانت تتنقل في المنزل وتتكلم معي وتتفوه بكلمات أجد صعوبة في سماعها . أخيراً وجدت النظارة وأقبلت نحوي ضاحكة ، وهي تقول: أنا لاأبصر جيداً وانت سمعك ضعيف  فماذا نفعل ؟ أجبتها : أيضاً ضاحكاً لاتقولي هذا بل قولي :  أنت نظرك قوي وأنا أسمع جيداً وهكذا بفضل الله يكمل بعضنا بعضاً.

هذه طرفة طبعاً . وليست من المصائب الكبيرة ، فإذا ضعف نظرك تستعمل النظارة ، وينتهي الامر، واذا ضعف سمعك تضع جهازاً لتقوية السمع ، حتى اذا فقدت السمع فليست مصيبة ، ففي الحياة مصائب وعاهات، يكفينا أن نتمكن من الابتعاد عنها .

أما بالنسبة إلى موضوعي فهذا ليس بيت القصيد. إنما  أفكر في النظام الإنساني الرائع المتمثل بإستكمال الناس بعضهم البعض ، وفي ذلك الترتيب الخارق لتجاوزعجز البعض منا ، ونظام استكمال  نواقص البعض او الإفادة من قدرات هذا أوذاك في هذا العالم.

لنسأل انفسنا : كم  مرة نلاحظ في أثناء معايشتنا اليومية أننا في كل دقيقة نستفيد من مزايا الغير، التي  نفتقدها نحن . و في المقابل يستفيد هؤلاء من المزايا التي نتمتع بها و يفتقدونها هم ؟

سبحان الله ،الطبيعة الام ،هكذا خلقتنا ، فما العمل؟  بعضنا يختلف عن البعض الآخر، ليس في الشكل والطباع فحسب ، بل أيضاً في القدرات البيولوجية والمواهب والميزات الشخصية  لكل منا ، فالنجار مثلاً يستطيع صنع طاولة جميلة أو كرسياً مريحاً ، أما أنا فلاأستطيع استعمال المنشار ولا دق مسمار. ولكن في المقابل استطيع تحرير جريدة وممارسة الكتابة وهذا  طبعاً يبقى خارج نطاق قدرات النجار . أنا اكتب على الطاولة التي صنعها النجار وهو يقرأ الجريدة  التي أحررها. إذاً كل منا  يكمل الآخر ويحتاج اليه . كما هناك طرف ثالث يحتاج بدوره إلى طاولة النجار

وإلى الجريدة معاً  .

ياترى! لو رغبت في بداية حياتي أن أصبح نجاراً. هل كنت استطعت ؟ هل كنت تمكنت من صنع طاولة جميلة ؟ كذلك النجار،  لوكانت ظروف حياته مختلفة ، أكان صار محرراً في جريدة ، بدلاً من صنع الطاولات ؟ الحقيقة ، لاأعلم ،لكن ما أعلمه أن الناس في بداية حياتهم توجههم أيدي خفية إلى اتجاهات محددة ، ومن لحظتها يكون هذا الواقع  هو ميدان  حياتهم حصرياً  . أما بقية الميادين فتتوزع على الآخرين ، والمعروف أيضاً أن أحدانا يستطيع أن يكون شخص متخصصاً بمجال أو أثنين ، لكن  أحداً لايستطيع أن يكون رجل جميع المحاور . أي أن أحداً لايستطيع أن يكون كل شئ في هذه الحياة ، أعتقد أنه يوجد في المعمورة قانون رائع ، بموجبه تتوزع المهن بين الناس. وليس المهن فحسب  بل الجدارات أيضاً ، لأنً أصحاب المهنة الواحدة يختلف بعضهم عن بعض في  القدرات والخبرات . فجميع النجارين ليسوا بالمهارة عينها . هناك نجارون ماهرون وهناك ذوو القدرات المتوسطة أو العادية ، فهل جميع النجارين يتمتعون بالذوق الفني والجدارة والقدرة ؟ وهل من الممكن أن يكون جميع الناس بالحرفية ذاتها ، ولا فروق بينهم  ؟ كما أن أعظم الناس جدارة وقدرة لايستطيع  إنجاز شئ بمفرده ، بل يحتاج دائماً إلى قدرات الأخرين  ومساهماتهم . .بمعنى آخر أ كان من الممكن لأي نجار ماهر أن يصنع  طاولة بديعة لو لم يكن هناك مهنين أخرون زودوه الشاكوش والمنشار والمسمار والغراء ووضعوا في تصرفه أدوات النجارة وموادها ؟

زارني يوماً صديق وهوعازف بيانو موهوب ومشهور.فأهديته إحدى كتبي فقبله بسرور بالغ وقال: احسدكم سيدي ، ليتني استطعت  أن أكتب بهذه البراعة أيضاً . نظرت إليه مستغرباً وتساءلت  : أكان يمزح  ؟ انه عازف ماهر ، وأنا منذ ستين سنة أسأل نفسي:  كيف يستطيع إنسان أن يستعمل أصابعه العشرة كلاً بمفردها بهذا الإنسياب واليسر على أزرار البيانو ؟ وأتعجب يا لهذه الموهبة الالهية . ويا لمعجزة الامكانات! .

إذاً هي معادلة بسيطة جداً نكتشفها .على أحدنا أن يعزف والآخر يستمع .أحدنا يبصر والآخر يتبصر .أحدنا يستعمل قوة زراعه ، وأخر ذكاءه وهذا ما يخلق العيش  المشترك المتناغم في هذا العالم .

روبـيـر هاداجـيان

صاحب ورئيس تحرير جريدة مارمارا الأرمنية في اسطنبول تركيا

ترجمة كيراكوس قيومجيان (الكويت )

Share This