الأقليات في الوطن العربي

بقلم: أ. سمر أبو ركبة


يعتبر موضوع الأقليات من الموضوعات الهامة و القديمة الحديثة المتجددة مع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية و الثقافية التي تحدث في الحقب التاريخية المختلفة .. وهو موضوع تداخل تخصصات عديدة مثل علم الاجتماع والسياسة والتاريخ ودراسة الحضارة وعلم الوراثة.

كما أن هذه المشكلة تخفي بداخلها صراعات حقيقية أخرى مثل الصراعات الطبقية والاجتماعية والاقتصادية المختلفة والتي تظهر كصراعات عرقية وأثنية .

لذلك يعتبر إثارة منطق الأقليات من أخطر الأمور على الأمن القومي العربي ومن المداخل الهامة التي تتدخل فيها القوى الاستعمارية لتحقيق أهدافها ومآربها وتخترق الأمن القومي العربي وتحقق استراتيجياتها ومصالحها.

فلا تخلو دولة في العالم من الأقليات. ولكن مفهوم الأقليات في ظل مشاريع تفكيك الأرض والهوية والشعب بات يحتمل في بلادنا الكثير من المعاني المتناسلة، وكأن الوطن كله قد أمسى حيزاً لتداخل أقليات بلا هوية جامعة، يطغى فيها الخاص دوماً على العام.
والأقلية بالأساس إما أقلية عددية كبعض المجموعات العرقية أو الدينية كالأفارقة الأمريكيين أو الكاثوليك في الولايات المتحدة مثلاً، وإما أنها أقلية بحكم وضعها الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي المهمش بفعل طغيان الأغلبية المهيمنة، ولذلك، تعتبر المرأة في الغرب مثلاً أقلية مع أنها أكثر قليلاً من نصف المجتمع. وهكذا تصبح الأقلية أية مجموعة ترى بأنها تتلقى معاملة غير متساوية مع باقي المواطنين بسبب صفات جسدية أو ثقافية أو اجتماعية خاصة بها، حسب التعريف السائد للأقلية كما وضعه عالم الاجتماع الأمريكي اليهودي لويس ويرث.

وسواء اعتمدنا مقياس الأقلية العددية أو مقياس التهميش، فإننا يمكن أن نشتق عدداً لا نهائياً من الأقليات عملياً من أية مجموعة تعتقد بأن لديها قضايا مشتركة تميزها عن غيرها. فالطلاب بهذا المعنى أقلية، وكذلك المتقاعدين… ومن يزاولون أية مهنة من المهن يبقون أقلية في المجتمع، وفي الغرب يعتبر المثليون جنسياً أقلية، وكذلك يعتبر المعاقون حركياً أو ذهنياً، وهناك أقليات اقتصادية مثل العاطلين عن العمل أو الفقراء من العمال تمييزاً لهم عن العمال غير الفقراء، وهذا ناهيك عن الأقليات العرقية أو الدينية، وهكذا، حتى تصبح كل جماعة أقلية وكل فرد جزيرة!. …

ليس من شك في أن مصطلح «الأقليات» ليس دقيقا ولا يجوز اعتماده في دراسات علمية جادة.
فليس هناك تعريف علمي واحد لأية أقلية في الوطن العربي. وهناك جماعات تصنف في خانة الأقليات وتعد بعشرات الملايين. ومنهم، على سبيل المثال لا الحصر، الأكراد على المستوى العرقي وهم يتوزعون ما بين تركيا والعراق وإيران وسورية. ويقدر عددهم بحوالي 25 مليون كردي. وهناك الأقباط في مصر على المستوى الديني ويقدر عددهم بعشرة ملايين. وهناك الأمازيغ في دول شمال أفريقيا، ويقدر عددهم باكثر من عشرين مليون، ويطالبون باعتماد اللغة الأمازيغية لغة رسمية. يضاف إلى ذلك أن خارطة «الأقليات» في الوطن العربي تضم عددا كبيرا من الطوائف المسيحية، والإسلامية، واليهود، والصابئة، وجماعات العبادات المحلية في جنوب السودان. كما ان هناك أقليات عرقية كالأرمن، والشركس، والتركمان، والشيشان، وبقايا الجاليات الأوروبية، وغيرهم.

وإجمالا يشكل المسلمون العرب السنة (بمدارسهم الفقهية الأربع)، والشيعي غير الباطني (بفرعيه الجعفري والزيدي) غالبية سكان العالم العربي البالغ عددهم اكثر من 200 مليون نسمة. وهنا تفتح «الشرق الأوسط» ملف الأقليات في العالم العربي وتبدأ أولا بوضع ظاهرة الأقليات في سياقها التاريخي والسياسي، ثم تعالج بشكل أكثر تفصيلا الحالات العربية التي شكلت فيها مسألة الأقليات قضية اشكالية بالتركثيز علي لبنان، العراق، السودان، والجزائر.


النتائج:

  1. الأكراد الذين يملكون طموحاً قومياً واضحاً وحركة قومية نشطة (تتراوح ما بين أحزاب تدعوإلى الاعتراف الثقافي أو الحكم الذاتي وأحزاب تدعو إلى الانفصال في كيان قومي مستقل) ، وتتواجد في موقع طرفي من الوطن العربي (في شمال العراق أساساً ، وفي شمال سورية بصورة أقل) يسهل لها دعاويها .
  2. أقليات قومية أصغر كالأرمن والتركمان والجاجان (الشيشان) والشركس ، وهي توجد بشكل متناثر في بلاد الشام والعراق ، ولا تملك – موضوعياً على الأقل – طموحاً قومياً ، وبالتالي لا تمثل إشكالية في هذا المجال ؛ بل إن بعضها مندمج في المجتمع العربي كالشركس مثلاً.

أقليات ما قبل قومية كالبربر أو الأمازيغ في المغرب العربي (الجزائر والمغرب الأقصى على وجه الخصوص) تملك لغة خاصة بها لكنها لا تبدي طموحاً قومياً أو نوايا انفصالية ، وإن كانت لديها بعض الأحزاب التي تدعو إلى الحقوق الثقافية ، وتشجعها القوى الخارجية على ما هو أكثر من ذلك ، ولكن عمق انتمائها الإسلامي يشدها إلى الأغلبية العربية .

3- أقليات إثنية (أقوامية / عرقية غير متشكلة قومياً) تتكون من خليط من القبائل المختلفة عرقياً ولغوياً وتدين بديانات بدائية وإن كانت الديانات السماوية (الإسلام والمسيحية) أخذت تنتشر فيها ، وتتركز كتلتها الكبرى في جنوب السودان حيث استطاعت بعد حروب متعددة انتزاع حكم ذاتي يقترب من الإنفصال ، وعقدت معاهدة مع النظام الحاكم في السودان يعطيها حق تقرير المصير ، وتتأهب لإجراء استفتاء قد يكرس انفصالها بشكل قانوني . هذا وتوجد نماذج أقل حدة كالزنوج في موريتانيا والطوارق في جنوب ليبيا والجزائر .
4- حملت الدول التي تكرست في المنطقة (الدول العربية وتركيا وايران) بعد الحرب العالمية الأولى في بنيتها ، وبتدخل واضح من القوى الاستعمارية المنتصرة في تلك الحرب (انكلترا وفرنسا أساساً) ، بذور مشكلة الأقليات حين قسمت وحيت اقتطعت منها أجزاء وألحقت بدول أخرى من غير قومياتها . وكان نصيب الأكراد أن توزعوا على دول المنطقة .
5 -أدت التجزئة التي فرضتها تلك الدول الاستعمارية على الأمة العربية إلى تعاظم حجم الأقليات منسوبة إلى حجم الدول القطرية التي تضمها، وبالتالي حصرت مواجهة المشكلات التي تثيرها ومعالجتها ضمن إمكانات الدولة القطرية المحدودة .
6 -انخفضت حدة مشكلة الأقليات بشكل ملحوظ واتجهت إلى الاندماج في فترة النهوض العربي في الخمسينات والستينات إبان المشروع التوحيدي الذي قادته ثورة 23 تموز/يوليو لدرجة أن كثيراً من أفراد الأقليات القومية انضموا إلى الحركات القومية العربية (ظاهرة الناصريين الأكراد مثلاً .. الخ) ، وبالمقابل تفاقمت مشكلة الأقليات بعد انكسار المشروع القومي العربي بعد هزيمة حزيران إلى أن وصلت وضعها المتفجر حالياً في ظل الدرك الأسفل الذ انحدرت إليه الأمة .
7 -لم يؤدي إنكار قضية الأقليات أو تجاهلها والهروب من معالجتها إلا إلى بروزها أكثر فأكثر . كما إن سياسات التعصب القومي الضيقة الأفق ومحاولة دمج هذه الأقليات بشكل قسري قد أدت إلى نتائج عكسية تجلت في تعاظم شعور الأقليات بهوياتها وتزايد نزعتها الإنفصالية .
8 -كما أدت سياسات الاستبداد والظلم الاجتماعي وغياب الديموقراطية والفساد وفشل التنمية التي اتسمت بها أنظمة الدولة القطرية إلى تفاقم مشكلة الأقليات ، لاسيما في ظل تركز معظم مشاريع التنمية في المركز وإهمال الأطراف حيث الأقليات غالباً ؛ فبدا الأمر في كثير من الأحيان وكأنه انحياز من النظام للأكثرية ضد الأقلية في توزيع أعباء هذا الظلم
وبالتمعن في هذه الحقائق وأخذها بالحسبان يمكن بناء خطوط موقف متوازن يضع حداً للتخبط الذي طال إزاء هذه المشكلة المزمنة الشائكة .
9- نقطة الانطلاق في هذا الموقف الخروج من ازدواج المعايير والقبول بسريان المبدأ القومي على الجميع بغض النظر عن نتائجه ، ومن ثم بذل الجهود لإيجاد حلول مشتركة ترضي الجميع وتحفظ حقوق كل الأطراف ؛ ففي حالة الأكراد مثلاً (وهم الأقلية القومية الرئيسية) يجب من حيث المبدأ الاعتراف بتمايزهم القومي وحقوقهم الثقافية ومن بعده السعي لكسب بقائهم الطوعي ضمن كيان الأمة من خلال تفعيل إرادة العيش المشترك (وهذا عامل جامع للأمة حسب إحدى النظريات القومية الرئيسية كما راينا في مقدمة البحث) وذلك بإجراءات هي في الحقيقة تمثل خطوطاً عامة لحل مشكلة الأقليات ، بل لشد لحمة الأمة بأسرها. ولنلاحظ أنه بغضّ النظر عن إرادة العيش المشترك التي هي عامل ذاتي يتحقق من خلال رغبة الأطراف التي تمارسه ، فإن هناك أكثر من عامل موضوعي يجمع الأكراد مع العرب .

-فهناك رابط الدين المتين الذي يوحد بينهم

-وهناك الوطن المشترك الذي يجمع بينهم .

-وهناك التاريخ المشترك الذي ضمهم في ظل الدولة الإسلامية .

– وهناك مصالحهم المشتركة إزاء تحديات العصر الراهن التي تستدعي التجمع في تكتلات كبرى، ولنا في تجربة الاتحاد الأوروبي المثال الأكبر.

10 – مرة أخرى تبرز الأهمية القصوى لعملية التوحيد القومي ؛ فمثلما ظهر عجز الدولة القطرية العربية إزاء قضايا الأمن القومي والاستقلال والحفاظ على الكيان الوطني وإنجاز التنمية وبناء الاقتصاد القوي والمتقدم ، تأتي قضية الأقليات لتبين أن الوحدة العربية هي الإطار الضامن لحل دائم ومستقر لهذه المشكلة ؛ فالدولة الكبيرة الموحدة تشكل عنصراً جاذباً لاندماج الأقلية في بحر الأكثرية ، كما توفر القوة الرادعة التي تمنع القوى الخارجية أو الداخلية المرتيطة بها من اللعب على وتر هذه القضية الحساسة . بالطبع فإن هذا لا يعني تاجيل التعامل مع قضية الأقليات حتى ذلك الحين الذي لا يلوح له أفق بعد، وإنما لا بد من التمسك بالرؤية القومية لحل هذه القضية ولو حتى ضمن الإطار القطري، وتوفير أقصى ما يمكن من جهود العمل العربي المشترك وتطوير النظام العربي الرسمي الحالي بهذا الاتجاه وبموازاة السعي للتوحيد القومي .

alwatanvoice.com

Share This