الأرمن في السقيلبية… هجرة الأرمن إلى سوريا وإقامة عدد من الأسر المهاجرة في السقيلبية

من كتاب السقيلبية تاريخ وذاكرة

للكاتب أديب قوندراق

إعداد ماهر سلوم


مقدمة: لقد عانى الشعب الأرمني في العصور التاريخية القديمة وما يزال يعاني في تاريخنا المعاصر، لأن قضيته ما تزال معلقة دون حل. تحمّل الأرمن كل أشكال الاضطهاد والظلم وعانوا من احتلال القوات الغازية لأراضيهم. هاجمت القوات البيزنطية وقبلها القوات الرومانية والفارسية أراضي أرمينيا وأخضعتها لأحكامها عقود وقرون طويلة، وكان ذلك بعد غياب (ديكران) عن المسرح السياسي لأرمينيا. و(ديكران) هو أعظم ملوك الأرمن الذي عرفت أرمينيا في عهده عصرها الذهبي، وهو مؤسس الامبراطورية الأرمنية المترامية الأطراف.
وفي العصر الحديث تعيش أرمينيا حالة تجزئة لأراضيها، وهي مقسمة إلى منطقتين الأولى تخضع للاحتلال التركي والثانية بقيت ضمن تحالف الجمهوريات السوفييتية حتى عام |1991| حيث بدأ ذلك التحالف بالانهيار.

إن الحروب الطويلة التي كانت تدور بين الروس والعثمانيين أدت إلى تقسيم أرمينيا إلى قسمين (روسي وعثماني). لكن الأرمن الذين وقعوا ضحية الأقوياء المتحاربين، لم يهدأ لهم بال، ومن جل أهدافهم تحقيق وحدة شطري أرمينيا. وعندما وصل السلطان عبد الحميد إلى زعامة الامبراطورية العثمانية، مارس الظلم والقمع بحق القوميات الغريبة (ومنهم الأرمن)، وبحق الشعب التركي أيضاً. الأمر الذي دفع الشبان الأتراك إلى التفكير بالاطاحة بهذا السلطان المستبد، فقاموا بعدة تحركات مناوئة له ولحكمه. ولما هدأت ثورة الشبان الأتراك، أراد عبد الحميد أن يؤدبهم من خلال درس دموي يلقنه للأرمن ليزرع الرعب في قلوب الأتراك، وهنا عمد إلى تنفيذ المجازر الرهيبة بحق الشعب الأرمني في كل من كيليكيا وأضنة، وقد ذهب ضحية هذه المجازر ثلاثون ألف أرمني.

وفي تموز عام 1914 عقد الأرمن مؤتمرهم العام في (أرز روم) قبل نشوب الحرب العالمية الأولى بأسابيع، وقرروا الوقوف على الحياد، وأنهم سيتصرفون كرعايا مخلصين للدول التي يعيشون فيها (تركيا وروسيا)، سواء في خدمة الوطن أو الانخراط في الجيش، ونصحوا الحكومة التركية بالوقوف على الحياد في أية حرب قادمة. لكن الحكومة التركية لم تقبل بهذا الموقف للأرمن، بل طالبتهم بضرورة الاتصال مع أرمن روسيا ليتم تشكيل فرق فدائية أرمنية لمقاتلة الروس في القفقاس وإشغال مؤخرة الجيش الروسي، على أن يقابل ذلك الموقف بمنح الأرمن بعد الانتصارات بالحرب إذناً بإقامة وطن مستقل على بعض الأراضي الأرمنية في كل من روسيا وتركيا. إلا أن الأرمن ردوا على هذا الطلب بأنهم لا يملكون الحق بالاتصال مع أرمن روسيا، وبالتالي ليسوا هم أصحاب قرار بشأن أرمن روسيا، الأمر الذي أزعج الأتراك فعملوا على إيقاع الحوادث. وتم تشكيل لجنة خاصة تتألف من الدكتور بهاء الدين شاكر والوزير شكري والدكتور ناظم، مهمة هذه اللجنة إعداد خطة الاضطهاد وطريقة التنفيذ. وتم تنفيذ الاضطهادات ضد الأرمن بأبشع أشكال العنف، وأدت الفتن والمجازر إلى قتل وتشريد الآلاف من الذين فروا في قوافل متتالية لجأ أكثرها إلى سوريا، وكلفت الأرمن مليون ونصف قتيل.

لقد وجدت الجماعات الهاربة من البطش التركي والشركسي الحماية والرأفة لدى الشعب السوري النبيل، والذي كان هو الآخر يتعرض للإضطهاد من فبل الأتراك. وقد حاول الموظفون السوريون في الحكومة التركية تخفيف الأوامر الصادرة إليهم من القسطنطينية، ووجد أشخاص رفضوا الانصياع لتلك الأوامر مثل حاكم دير الزور السوري (علي سواد باي)، الذي يذكره الأرمن يكل احترام، وهو الذي وضع تحت حمايته آلاف اللاجئين الأرمن في منطقته، وأوجد لهم فرصاً للعمل والكسب. وعندما صدرت إليه الأوامر بترحيلهم إلى داخل الصحراء أرسل إلى القسطنطينية يقول: (إن وسائل النقل غير كافية لترحيل الجماعات. أما إذا كان هدفكم قتلهم وإبادتهم فإنني لا أستطيع القيام بهذا العمل).
وقد عزل (علي سواد باي) على إثر رفضه، وتم تعيين (بذكي باي) المتعطش للدماء كبديل.

العائلات الأرمنية في السقيلبية

خرج من تبقى من الأرمن على قيد الحياة، ومعظمهم من النساء الأرامل والأطفال اليتامى والشيوخ، خرجوا من مدنهم وقراهم تسوقهم السلطات العثمانية في طوابير جماعية عبر جبال طوروس إلى بلاد الشام سيراً على الأقدام، وتم سلبهم كل ما لديهم من مال ولباس، ليلاقوا المصائب والأهوال، فيموت من يموت جوعاً وتعباً، ومن يسلم منهم كان يدخل المدن السورية فقيراً منهكاً. والذين وصلوا إلى الديار السورية (دار السلامة والأمان) أحيطوا بالرأفة والرعاية من قبل الشعب السوري النبيل، واستوطن العدد الأكبر منهم في حلب وفي مدن وقرى الجزيرة السورية، وقصدت أعداد كبيرة منهم الداخل وأقاموا في كسب واللاذقية وإدلب والسقيلبية وحماة وحمص ودمشق.

وعلى الرغم من حالة الفقر التي كانت تخيم فوق ربوع الوطن السوري إبان الحرب العالمية الأولى، إلا أن شهامة شعبنا ومروءة أهلنا أخذتهم لإغاثة الملهوف، ففتح أهلنا في السقيلبية منازلهم أمام طوابير الأرمن المنهكين، وقدموا لهم الطعام واللباس والسكن. وحفظت لنا ذاكرة الأجداد صوراً ووصفاً لحالة هؤلاء الأرمن، صورٌ لأحداث تشيب لهولها هامات الأطفال. أمهات ثكالى فقدن فلذات أكبادهن ولم يتاح لهن دفنهم. أطفال وجدوا أنفسهم دون أب أو أم أو معيل. شيوخ بدّل الزمن والقهر والألم ملامحهم حتى بدوا للعيان وكأنهم أشباح بشرية تتحرك على غير هدى. وطفلة فقدت سربها لتجد نفسها وحيدة مثل غرسة اقتلعت من جذورها وألقي بها خارج بستانها.

فهذه (ماري بالكيان) طفلة في العاشرة من عمرها تمسك بأطراف ثياب أخيها (أرتين) الذي راح يبحث في السقيلبية عن بيت كريم يودعها أمانة فيه، وعندما تم له ما أراد يطبع قبلة فوق جبينها ودمعة فوق خدها، ويودّع القوم ويلتحق برفاقه الأرمن الذين تعاهدوا على مقاومة الظلم والقهر حتى النهاية.

أما (ماري بالكيان) هذه بعد وداعها لأخيها، وكان آخر من تبقى لها من أسرتها، تغدو (ماري العبد الله) نسبة إلى العائلة التي تعيش في كنفها. أحيطت ماري بالحب والرعاية وغدت واحدة من أهل البيت المضيف الذي تعيش فيه. وعندما بلغت سن البلوغ قبلت عرضاً بالزواج من شاب يدعى (أسبر طنوس المكشكش)، وأدى القوم المضيفون ما يمليه عليهم واجب الأمانة، وتنتقل ماري الأرمنية إلى بيتها الجديد محاطة بالحب الذي أثمر وأعطى. (أنجبت ماري بالكيان ابناً وحيداً هو بطرس، وست بنات هن: وطفة ـ آجيّا ـ فريزة ـ سيّدي ـ سعيدة ـ زيزف) وكانت ماري ترى في عيون أبنائها صور وملامح أهلها جميعاً.

وسكنت في السقيلبية عائلة (يوسف كوجايان) المؤلفة من ابنين اثنين هما (أتناس) الذي عرف لاحقاً باسم مطانيوس، و(كيغام) الذي عرف باسم عبد الكريم، ومن اينتين هما (ميرام وشاهان). جاءت هذه العائلة من مدينة (ديريتول) الأرمنية الساحلية في عام 1915.
اشتغل أتناس بحرفة النجارة العربية، وكان يصنع كل ما يحتاج إليه الفلاحون أدوات الحراثة والزراعة، بينما اشتغل كيغام حلاقاً لأبناء السقيلبية ثم ميكانيكيا ومشرفاً على المحركات التي كانت تولد الكهرباء في السقيلبية.

تزوجت ميرام، أو ماري كوجايان، من الشاب بطرس سلوم محفوض وأنجبت له خمسة أبناء ذكور هم عارف، عبدو، رفعت، عادل، وجودت وابنة وحيدة تدعى عارفة. أما شاهان فقد تزوجت من شاب أرمني يدعى (آغوب نارسيسيان) كان يقيم في السقيلبية ويعمل في صناعة الفخاريات.

تزوج كيغام (عبد الكريم) من صبية أرمنية تدعى (أزنيف) وعاشا معاً في بيت تعود ملكيته للوجيه السقيلباوي الشيخ عبد الكريم الرستم. ساعدت أزنيف زوجها في تأمين الحياة الشريفة، فعملت خيّاطة، وشكلت لها هذه المهنة دخلاً يساعد الزوج في إعالة اسرته الكبيرة التي كانت تتألف من أربعة ذكور وست بنات. تزوج الأبناء والبنات عدا الابنة الكبرى التي رفضت الزواج بعد وفاة والدتها، لتعتني بأبيها وأخوتها وأخواتها إلى أن قويت أجنحتهم وراحوا يهاجرون ذكوراً وإناثاً في بلاد الله الواسعة.

ورغم انقضاء أكثر من ستين عاماً على إقامة السيد كيغام في السقيلبية، إلا أنه لم يتمكن من إتقان اللغة العربية كما يجب، وبقي حتى آخر لحظة في عمره يخاطب الذكر كأنثى والعكس بالعكس، وأذكر جيداً أنه بعد تقاعده من وظيفته كان يزورني بسبب جيرتنا وبسبب العلاقة الحميمة التي كانت تربطه مع أهلي، وكان يرتاح لكل من يخصه بحسن الاستماع، كان يردد كلاماً موزوناً بنبرة صوتية ذات إيقاع وموسيقى، وأدركت أنه يردد الشعر باللغة الأرمنية لكنني لم أفقه كلمة واحدة مما كان يقول. وذات مرة شعرت برغبته الشديدة لأن يسمعني أشعاره لكنني اشترطت عليه هذه المرة أن يترجم قدر المستطاع.

بذل السيد كيغام جهداً كبيراً في الترجمة، لكن قصيدته بدت لي طلسماً أكثر غموضاً من من حجر الرشيد في دمياط. ومن خلال حركات يديه وملامح وجهه وقيامي بتنقية وتعرية وفرز الكلمات العربية عن الأرمنية أظن أنه أراد أن يقول: إن الشجرة عندما تقتلعها من أرضها تبقى ضعيفة حتى وإن غرستها في أرض جديدة.

تذكرني قصيدة السيد كيغام بحكاية باسمة مفادها أن أرمنياً سأل صاحبه الحلبي: أين كنت؟ فأجاب: كنت في المركز الثقافي أستمع إلى محاضرة عن المتنبي، فهز الأرمني رأسه معبراً عن حب وإعجاب بالمتنبي. قال له صاحبه الحلبي: هل تعرف الشاعر المتنبي؟! أجاب الأرمني: مَلوم، مَلوم [معلوم] أنا بعرفو، المتنبي شاعر عربي كبير بِؤل [يقول]: بابور بيروح من هون، هوا بيجي من هون (يريد من ذلك الاشارة إلى بيت المتنبي: ما كل ما يتمنى المرء يدركه … تجري الرياح بما لا تشتهي السفن).

ويذكر أبناء السقلبية ومنطقة الغاب ذلك الطبيب البيطري الأرمني الذي كان يدعى (مراد أبو كيورك) وزوجته (جرار)، ويذكرون الخدمات الجليلة التي قدمها لأبناء الريف من حيث الاعتناء بصحة دوابهم وماشيتهم وهي أعز ما يملكون لأنها تساعدهم في إنجاز أعمالهم المختلفة (حراثة، جر، نقل) وفي تأمين غذائهم.

ناظاريان قراقوس

خرج من أرمينيا مع من خرجوا ولم يبلغ العاشرة من العمر، كان يبكي كلما عاودته الذكرى الأليمة، ذكرى أخيه الأصغر ابن السنوات السبع، وهو كل ما تبقى له من عائلته التي أبيدت على يد الأتراك. يذكر أنهما وصلا إلى أرض الجزيرة السورية مع الحشود الكبيرة وفجأة فقد شقيقه. صرخ، بكى وناح على أخٍ وحيدٍ فقده فجأة وفقد كل أمل بالعثور عليه.
يَذكر ناظاريان أنه في حلب التقى مع وجيه وسيم سقيلباوي يدعى الشيخ عبد الكريم الرستم، وقد عرف حكايته مع أخيه، فرأف به وتحنن عليه واصطحبه برفقة مجموعة من العائلات الأرمنية إلى بلدة السقيلبية وأحاطه برعاية أبوية وقدّم له كل ما يحتاج إليه من لباس وطعام وسكن وخرجية لشراء ما يلزمه، وأوصى العائلات الأرمنية التي أحضرها معه كي تعتني باليتيم، وعاش ناظاريان في كنف تجمّع أرمني صغير في بيت الشيخ عبد الكريم الرستم، وعمل معهم في قطاف العنب وتقطيره (صناعة العَرق)، وكان الشيخ عبد الكريم الرستم يبيع انتاجه من العَرق في الأسواق السورية واللبنانية. وعندما بلغ ناظاريان سن الشباب زُوّج من فتاة أرمنية تدعى (خاتون)، أنجبت له ولداً وحيداً هو (كيرو). وكان كيرو كثير الشبه بعمه الضائع والذي كان يدعى ابراهيم قراقوس.

وعندما كبر كيرو واشتد عوده قليلاً فُجع بموت أمه خاتون، وعاش وحيداً مع أب أرمل، وقد أصبحا بحاجة ماسة إلى من يرعاهما ويساعدهما في تدبير شؤون حياتهما.ظن كيرو أن الحل يكمن في زواجه من الفتاة العربية السقيلباوية التي يحبها قلبه، لكن الوالد لم يوافق على زواج ابنه الوحيد كيرو من الصبية المقترحة (وكان اسمها تركيه) وطلب منه أن يبحث عن فتاة أرمنية. تزوجت (تركيه) من شاب آخر، وبد أيام قليلة خرج أبناء السقيلبية في موكب جنائزي مهيب حزين، وهم يحملون جثمان الشاب العاشق اليتيم كيرو بن ناظاريان إلى مثواه الأخير.

ومرت الأيام الطوال وناظاريان يبكي من رحلوا. لقد عاد وحيداً كما بدأ وحيداً، لكن العناية الإلهية رأفت لحال ناظاريان فقادت إليه مفاجأة سارة، والمفاجأة تكمن في الحكاية الدرامية التالية:
تقول الحكاية أن جماعة من عشيرة (عرب المفضي) أصدقاء الوجيه السقيلباوي السيد عزيز بن جرجس فروح [1891|1970. شغل مهمة مختار السقيلبية اعتباراً من سنة 1962 وحتى وفاته. اتصف بالشجاعة والنجدة ودقة التصويب بالسلاح] حضروا إلى السقيلبية بغرض شراء القمح، وبعد استراحة للضيافة قال السيد عزيز بن جرجس فروح لضيوفه: هيا لنذهب ونشتري القمح من عند ناظار وكيل الشيخ عبد الكريم الرستم، فهو رجل مستقيم وأمين وقد يراعينا بالسعر. أخذت الرعشة والحيرة واحداً من أولئك الضيوف الأعراب، فتوجه بالسؤال إلى السيد عزيز: هل ناظار أرمني؟! نعم.. كيف عرفت؟ هل يعيش هنا منذ زمن بعيد؟! نعم.. يعيش هنا منذ أيام سفر برلك، جاء إلى هنا طفلاً وهو اليوم رجل مكتمل، حسرتي على ناظار، ماتت زوجته ثم فجع بموت ابنه الشاب الوحيد “كيرو”. ويتابع السيد عزيز: الله سبحانه وتعالى يجرب المؤمنين ليختبر إيمانهم، وناظار رجل شديد الايمان بالله، فتقبّلَ حكمة الباري تعالى دون تأفف أو تذمر، وسلّم أمره ولاذ برحمة الله. صُعق الأعراب لما سمعوا عن مأساة ناظار، فكبّروا وقالوا: الله أكبر.. لا إله إلا الله. ويرد السيد عزيز على تكبيرهم بقوله: “الدنيا ملياني بالمآسي.. وألله يكون بعون ها الرّجال الآدمي.. الطيب ناظار. وهلّق خلّونا نمشي ونشتري حاجتكم من عندو”. لكن الأعرابي يصر على مزيد من الأسئلة: يا عم عزيز هل تعرف ناظار عن قرب، وهل أنت صديق له؟ أجاب السيد عزيز فروح: “نعم.. الرجّال صديقي وأنا بحبو وبحترم شهامتو وصدقو واستقامتو وأمانتو. رجل قنوع بالذي كاتبو الله عليه”. يا عم هل حدثك ذات مرة عن أسرته؟ “يا حسرتي عليه مالو حدا.. حكى لي مرة بأنو كان إلو أخ صغير أصغر منو بسنتين وضاع منو وراح.. وبيعتقد أنو مات”. يا عم هل ذكر لك اسم أخوه؟ ” نعم أخوه كان اسمو ابراهيم قراقوس”… صاح الأعراب بصوت عالٍ: الله أكبر.. الله أكبر!

واقترب أحدهم من السيد عزيز فروح وقال له: يا عم عزيز، وحياة سيدنا محمد أنا هو ابراهيم قراقوس.. أنا أخو ناظار.. أنا لم أمت، وهؤلاء هم إخوتي، وأنت بتعرف أنهم من عرب الغازي.. أنا ابراهيم قراقوس واسمي اليوم ابراهيم المفضي.

كيف يصدّق السيد عزيز فروح بأن ابراهيم المفضي البدوي المسلم هو نفسه ابراهيم قراقوس المسيحي الأرمني؟!.. الأرمني الذي يتكلم باللهجة البدوية؟!.. هل هذا أمر يقبله العقل؟! هل في الأمر إنّ؟! هل يعقل أن هناك قصة ثأر مع ناظار الطيب؟! هل.. هل.. هل؟

أسئلة محيرة تزاحمت في رأس السيد عزيز فروح.. أسئلة تنطوي على ظنون وشكوك! إنّ لفي الأمر ريبة. ويتوجه الأعرابي ابراهيم المفضي باندفاع وشوق: يا عم عزيز ساعدني بالتعرف على أخي ناظار أرجوك يا عم عزيز أرجوك!. فردّ السيد عزيز فرّوح: “خلونا نمشي ونشوف شو الله مقدّر علينا”. ومضى القوم قاصدين بيت ناظار. في الطريق كانت الحيرة تأخذ بالسيد عزيز، وكان يردد في نفسه: “سامحني يا رب بيجوز ها الجماعة ألهم ثأر عند ناظار، لكن والله العظيم روحي ولا روحو”. وعندما وصل القوم إلى البيت المقصود صاح السيد عزيز فرّوح: “يا ناظار جايين بدنا من عندك قمح لها الجماعة الأوادم”. يرحب ناظار بالسيد عزيز وبالذين معه. وعندما وقع نظر ابراهيم المفضي (ابراهيم قراقوس) على أخيه ناظار اندفع إليه غريزياً على عجل، وعانقه وراح يقبّله ويذرف الدمع بين يديه. صُعق ناظار بما رأى وارتد إلى الوراء وقد أخذ وضع استعداد للمواجهة، وبلهجة عربية أرمنية صرخ: “شو بيعمل أنت ولن؟!”. ويتدخل السيد عزيز فرّوح بالوقت المناسب مخاطباً ناظار قائلاً: “يا ناظار يا أبو كيرو هدا ما هو ولن.. هدا أخوك ابراهيم المفضي، هدا أخوك ابراهيم قراقوس”. ويرد ناظار: “أخوي.. كيف بيكون هدا أخوي.. مانك شايف هاد بدوي!” فيقول له السيد عزيز فرّوح: “يا ناظار.. يا أبو كيرو طوّل بالك، الرجّال عم بيقول بأنو هوي أخوك ابراهيم، وحكى لي بأنو ضاع منك ولاقوه جماعة أوادم من عرب الغازي وأخذوه وربّوه عندهم وصار واحد منهم.. شو بتقول يا ناظار؟”.

كلمات السيد عزيز فرّوح هدأت من روع ناظار تجاه المفاجأة، فراح يتأمل ويتمعن متفحصاً ملامح أخيه، وفجأة يتذكر.. لا شك أنه تذكر أمراً هاماً.. يدنو من ابراهيم المفضي ويرفع ثوبه من فوق كتفه الأيسر ويتفرس في موضع يكمن فيه السر. إنها علامة شهوة (وحمة) سوداء كان يراها بأخيه كلما كان يستحم.. يعانق ناظار أخيه ابراهيم المفضي (ابراهيم قراقوس) وقد تأكد له الأمر.. وراح ناظار يبكي ودموعه تبلل كتف أخيه.
هذا ما حصل فعلاً بعد أكثر من أربعين عاماً على فرقة الأخوين.

ما أشبه حكاية ناظار بحكاية يوسف بن يعقوب، وما أشبه اليوم بالأمس!!
الحكاية طويلة وسأكتفي بهذا القدر منها (يمكنك عزيزي القارئ أن تقرأ في عينيّ كل أرمني في وطني حكاية مأساة!!..).

لقاء ناظار قراقوس مع أخيه ابراهيم المفضي أخرجه من بئر أحزانه، فراح يبحث عن السعادة التي هربت منه طويلاً، واقتنع بفكرة الأصدقاء، فتزوج من أرملة سقيلباوية هي السيدة (آجيّا بنت خليل نعمة) التي غمرته بحنانها وعوضت عليه بؤس وحرمان السنوات الطوال الماضية، وأنجبت له ابنة وحيدة هي (وردة) فكانت وردة بحق، ملأت دنيا الوالدين شذىً وعبقاً وهناء.

تزوجت وردة من ابن خالها السيد حنا سليم نعمة، وزارت عمها ابراهيم المفضي أكثر من مرة، وقد احتفى بها وأكرمها وتمنى عليها أن تعود إلى زيارته في عشيرته بين وقت وآخر.
أعرف ناظار جيداً، ومَن من أبناء السقيلبية لا يعرف السيد ناظار؟! كم من مرة رصدنا غفوته أثناء القيلولة عند الظهيرة لننقض على أشجار اللوز في كرمه، لكنا لم ننجح في كل مرة، فلسعات بريمه (عقاله) الثخين تدفعنا حتى بعد انقضاء سنوات طويلة إلى أن نحكّ جلودنا موضع اللسع، ونذكر عندما كان يلاحقنا وعقاله في يده اليمنى كان يصيح قائلاً: “أنا ناظار ضرّاب البريما.. أنا ناظار لعبد الكريما”. فرحمة الله عليه وأرجو من الباري تعالى أن يعوضه عن الشقاء بنعيم أبدي.

ـ جاء إلى السقيلبية حنا الأرمني أبو كربيت مع أولاده (غربيت وابراهيم واسحق ويعقوب) للإقامة، وعملوا في بداية الأمر في الفلاحة والزراعة، ثم تحولوا إلى الميكانيك.
ـ جاء إلى السقيلبية ابراهيم قازان (ابراهيم مكريدج) وشقيقه ميهوب مكريدج الذي مات أثناء محاولته إصلاح مضخة عملاقة على نهر العاصي، فابتلعته المضخة و…
ـ ويذكر أبناء السقيلبية أسرة أبو سركيس ومهران وآغوب، وقد عملوا جميعاً في النجارة وصناعة الأدوات الزراعية. وهرانت ذلك الشاب الذي تخصص بصيانة المضخات العملاقة. وأبو خاشير ذلك الحداد الذي أدخل صناعة أسلحة الصيد إلى السقيلبية (البواريد الدكّ).
ـ ونذكر أيضاً مرّوش كربيت التي تزوجها فهد اسبر، وأنجبت له ابنة وحيدة اسمها فريدة التي تزوجت من شاب أرمني وسافرت معه إلى أرمينيا الروسية.

خاتمة
من أقوال بعض الأدباء الأرمن ما جاء في كتاب (صفحات من تاريخ الأمة الأرمنية):

تقضي المروءة بأن نسجل للعرب عامة وللسوريين بخاصة ما أظهروه من شهامة وعطف أيام محنتنا. لن ينسى الأرمن هذا الموقف مدى الحياة، فقد آووا في بيوتهم الكثيرين من اليتامى والمشردين الأرمن إلى أن انقشعت الغيمة، وقد أقدم السوريون على هذا العمل الإنساني الجليل بدافع من ضمائرهم رغم فداحة المسؤولية التي عرّضوا أنفسهم لها.
وقال البطريرك كاراكين النائب الاستشاري لرأيس مجلس الكنائس العالمي:
أنا شخصياً لن أنسى أنني ولدت على الأرض السورية المباركة، وأنني قضيت أربعة عشر سنة من طفولتي في كسب، هذه المنطقة الخلابة في سورية.

لقد اندمجت حياة شعبنا بحياة سورية بعد أن لقي مئات الآلاف من الأرمن حتفهم في الصحراء السورية، وخاصة في منطقة الجزيرة ودير الزور إثر الإبادة المريعة التي نظمتها الإمبراطورية العثمانية عام 1915 وحكومة تركيا الفتاة إبان الحرب العالمية الأولى، وكم من الشهداء الأرمن الأبطال المدفونين وقبورهم مجهولة.

لا يوجد أرمني في العالم يتجاهل أن شعبه استعاد نفحة حياته الجديدة في أحضان الأم السورية، فأصبحت سورية بالنسبة لشعبنا مهد الانبعاث الجديد، فإن والديَّ بعد نجاتهما من أيدي السفاحين الأتراك في حماة عادا ونظما حياتهما في كسب.

Share This