الأرضرومية

لم تكن “ماري” تذكر اسمها الحقيقي، وتشك بذلك، لكنها وصلت إلى قرية “كارادوران” (السمراء) في كسب بذلك الاسم، وهي زوجة “دزيرون صاغجيان”. فهي متأكدة أنها أرضرومية والقرويون يعرفونها بهذا الاسم، العروس الأرضرومية أو ماري الأرضرومية أو ببساطة الأرضرومية.

وكأنها هي وزوجها، لكي يثأروا لبحر الشهداء الذين ضحى بهم شعبهم قرروا استعادة ما فقد نوعاً ما بعدد من الأولاد، وأنجبوا ثمانية أولاد: أربعة صبية وأربع بنات، وسعوا لتأمين المأكل والملبس لأولادهم والتحصيل العلمي أيضاً. من الصعب تأمين لقمة العشي في مكان مثل “كارادوران” (السمراء) حيث الأراضي الصالحة للحراثة لا تحصى، وأن يتعارك المرء ضد الصخر والشجر والطبيعة لكي يؤمن لقمة عيش عائلته، إنه أمر لا يقبله الله، وفي هذه الظروف، كانت عائلة “دزيرون صاغجيان” تعتبر ثرية. في أعلى الجبل يربون عدداً من الماعز والخراف وبقرة أو بقرتين، وينتجون القليل من زيت الغار والدخان والقليل من دبس العنب والتين الجاف والجوز.. وفي عيد الميلاد يذبحون جدياً أو عجلاً، وهو أمر له مغزى. ويأكلون اللحم الطازج ويبقون قسماً منه لأكلة “القاورما”، وهكذا يعيشون، ويتدبرون أمرهم بصندل حذاء وبنطال أو تنورة ومعطف لكل واحد طوال العام.

تقاعس “دزيرون” عن مهامه، ترك هموم أولاده لزوجته الأرضرومية ونزل إلى التراب في الفترة الأكثر حماسة في حياته. في عام 1952، توفي “دزيرون”، فكان يعاني من التهاب في الزائدة منذ ثمانية سنوات والنوبة الثانية طرحته أرضاً. كانت ذكرى مذلات أيام التهجير التي عاشتها ما زالت تحيا في قلب “ماري” وتصعقها من جديد، ففقدت زوجها الذي تعلق بحب زوجته المهاجرة.

* * *

مَن كانت تلك المهاجرة الأرمنية التي فقدت أهلها تحت طعنات الأتراك والأقدار، وتركوا البيت و”أرضروم” ووصلوا إلى المضيق المنسي من قبل الله، كانت تذكر فقط أموراً مريرة، فتلك الذكريات غير مكتملة، فالشيء الوحيد الذي تذكره هو الكاهن “هوسيك”، وتبقي اسمه في ذاكرتها “الأب هوسيك” من مدينة “كارين”، وفقط.

كان ابنها الثالث “ساهاك” يتابع حل لغز أمه، من هي أمه؟ كيف وصلت إلى هناك؟ وأكثر ما يقلق “ساهاك” هو وشوشات رفاقه الذين يسخرون منه دائماً لأن أصل أمه وفصلها غير معروف.

لم تجد أسئلته هنا وهناك سبيلاً، وحتى اسم أمه كان مشكوكاً فيه، الشيء الواضح هو “الأب هوسيك”، ولكن من هو “الأب هوسيك”.

فرح بعض الشباب من “كارادوران” (السمراء) الذين يعيشون في بيروت عندما رأوا كتاب “تاريخ كارين” (كارين هو الاسم التاريخي لولاية أرضروم. المترجمة) للكاتب “عازار تشاريك”، وتذكروا أنه يوجد في قريتهم أرضرومية فأرسلوا نسخة من ذلك الكتاب إلى العروس “اليابانجية”. (وهي تسمية خاصة للإشارة إلى الغرباء في كسب وعنجر. المترجمة). من المؤكد أن “ماري” ستفرح وكذلك سيسعد الشبان لأنهم باعوا نسخة من أعمال الكاتب.

ذُكر في الكتاب اسم الكاهن الأب “هوسيك كافافيان”، فقد قـُتِل مع كهنة آخرين والأسقف “سمباد” في مكان بقرب أرضروم، وهذا الكاهن الشهيد ليس إلا شقيق “كيري”، أحد المقاتلين الأسطورة، قائد الفرقة الرابعة، وإلى يوما هذا، الشعب الأرمني يحيي ذكرى ذلك القائد المقدام الذي استشهد خلال معركة “ريفاندوز” شمال العراق بأغنية مهداة له، وهي إحدى الأغنيات المؤثرة في الأغاني الوطنية الثورية. وبعد الشقيق الآخر للكاهن “هوسيك” كان قد رسم كاهناً في إيران على اسم  المعمودية لشقيقه “كيري” وسمي “الأب أرشاك كافافيان”.

ها هي العقدة تحل، كان للكاهن “هوسيك كافايان” ثلاثة أخوة، أولهم “كيري” وثانيهم “الأب أرشاك” في إيران، أما الثالث، وبتدبير غريب، شاء حظه أن يصل إلى البعيد، إلى كوريا ومن هناك فقد أثره.

رغم أن “ساهاك” استطاع جمع المعلومات، ولكن من هو “الأب هوسيك”، كانت “ماري” تصر أنها حفيدة ذلك الكاهن. ولكن، من أجل حل العقدة هناك حل واحد، يجب العثور على “الأب أرشاك كافافيان” في إيران وأصله.. لا يمكن الذهاب إلى إيران، فقصد المطارنة في الأبرشيتين طهران وإيران-الهند، ويبحث عن “الأب هوسيك” الذي ذكره “تشاريك” عام 1961.

فلم يتأخر الجواب، وفي أثناء ذلك بدأ القرويون الشك في سلوك “ساهاك”، ماذا يفعل وإلى أين يذهب. كان يعمل بسرية تامة، ويريد حلّ سر أمه والعثور على أهلها ولا يريد أن يسبب لها خيبة  أمل أو مرارة، فسيتأكد من معلوماته ومن ثم يعلم أمه.

بدأ “ساهاك” ينحف غارقاً في همومه وبحثه، كان بعض القرويين يظنون أنه جنَّ وآخرون يصّرون أنه بذهابه مرة في الاسبوع إلى اللاذقية وحلب يعمل بالتهريب، مَن يدري لحساب من يعمل وكم من المال يحصّل.

حتى أخوته بدأوا يشكون، فانزوى به أخوه الكبير “جورج” وهدده سائلاً عن الطريق التي يسلكها أخوه الصغير. استطاع “ساهاك” طمأنته ووعده وعد شرف بألا يقول لأحد، وتابع هو بحثه.

لم تتأخر رسالة مطرانية مدينة طهران الإيرانية، وقد أرفقت برسالة أخرى من “هماياك” ابن الأب “أرشاك” الذي أكد أنه هو ابن أخ الكاهن “هوسيك” و”كيري” المشهور، أما فيما يخص “ماري” في كسب فاقترح أن يكتبوا إلى أختها “أرشاكوهي” التي هاجرت إلى أرمينيا بعد أن تزوجت، والآن عنوان جديد.. ومن أرمينيا، كانت “أرشاكوهي” تؤكد أن والدة “ساهاك” هي ابنة الأب “هوسيك”، وهذا الخلط كان ثقيلاً. ومن جهة أخرى، كانت تؤكد أن اسم الأرضرومية هو فعلاً “ماري”.

كانت “ماري” تعتبر نفسها حفيدة الأب “هوسيك”، فهي تذكر ذلك منذ الطفولة، وحقاً، وجدت “ماري” نفسها في بيت عسكري تركي، فلم يكن للعائلة أولاد وهذه ابنة “الكافر” ستبهج بيتهم. وكانت العائلة التركية تعيش في أرضروم، وكان الضابط وبحكم عمله يتغيّب عن البيت، أما “الخانم” فكانت تتباهى أمام ضيوفها وصديقاتها وتكرر أن الابنة التي تبنوها هي حفيدة الأب “هوسيك كيشيش”. أما هي “ماري” الصغيرة فكان تفكيرها ضبابياً، هي تعلم أنها في بيت غريب وتذكر وجود رجل ملتح في باحة البيت السابق، ولا تذكر أكثر من ذلك.

هناك في البيت الجديد كانت محاطة بالمحبة والحنان، ويحضرون لها الملابس الجيدة والحلويات بأنواعها دائماً موجودة، يملأون جيوبها بأنواع كثيرة من السكاكر، ولكنها كانت غير راضية. أين هو الأب “هوسيك” الذي تردد اسمه صاحبة البيت الخانم دوماً. انتقل الضابط إلى مكان آخر بحكم مهمته، وأخذ عائلته معه، وفي البيت الجديد فقدت “ماري” ذكريات مريرة عن مسقط رأسها، وهناك أيضاً كانت الخانم تقدم ابنتها لمن يزورها على أنها حفيدة “هوسيك كيشيش”، فتكرار اسم الأب “هوسيك” من قبل هذه السيدة رسّخ في ذهن “ماري” فكرة أنها حفيدة الكاهن من “كارين”. أما ابنة عمها “أرشاكوهي” فقد تبين من أرمينيا أنها ابنة الأب “هوسيك”، أما “ماري” فكانت تعتبر وتقدم نفسها على أنها حفيدة الأب “هوسيك” حتى الممات.

بيّنت “أرشاكوهي” معلومات أخرى، كان لـ “ماري” أختان، وفي بداية المجازر كانتا دون مأوى، وأتى شاب تركي معجب بالأخت الكبرى “أغافني” وأراد أن يتزوجها، ونجحت “أغافني” بإخفاء أختها الأصغر “لوسنتاك” في مكان آمن، أما هي فلكي لا تكون زوجة تركي شربت السم وانتحرت.

يكشف “ساهاك” لأمه كل المعلومات التي جمعها، فتقلق “ماري” أياماً طويلة وتضطرب نفسيتها، وتتخيل من جديد عذاب الأيام الماضية.

* * *

كان هناك ميتم موجود في “كيساريا” أسسته الإرسالية الأمريكية من أجل الصبية والبنات الأرمن الذين تيّتموا أثناء المجازر، إضافة إلى الحماية والنزل والغذاء كانوا يؤمنون لهم التعليم، لم تكن الحالة مثالية، ولكن كان المئات من الصبية والبنات الأيتام يتعلمون القراءة والكتابة.

هؤلاء الأيتام بأعدادهم الهائلة، سبعمائة أو ثمانمائة، تجمعوا من أماكن مختلفة، وقد عثر على البعض على طريق التهجير، فكان صبية وفتيات أرمن بعد أن فقدوا عائلاتهم يبقون تحت الظلم والانعدام، فيمكن العثور على أيتام كبار وصغار بينهم.

أتوا ببعض الأيتام من عند عائلات أتراك وأكراد أو بدو، وأمكن توزيعهم إلى مجموعتين حسب الأعمار صبية صغار وبنات. فهؤلاء الأيتام اختطفوا من عائلاتهم وصاروا أبناء بالتبني. كان الصغار الأرمن الذين تم تبنيهم محظوظين. ومن الضروري أن يكونوا صغاراً كي لا يتذكروا الأهل والجذور، فيتمتعون بالعطف والحنان والسكاكر والحلي والملابس، ومنهم من تمرد بعد أن أعيد إلى أصله الأرمني، فكانوا يرفضون الانفصال عن “أهلهم” وعن “ماما وبابا”، ويحنون إلى الأب والأم ويعصون ويرفضون العودة إلى أصلهم الأرمني.

وهناك قسم من الأيتام، الأكبر سناً، كانوا يأخذون من قبل عائلات تركية وكردية وبدو كخدام أو مساعدين في البيت، فحال هؤلاء بعيدة عن حال الأيتام المذكورين فيما سبق، فالعمل المتعب والغذاء غير الكافي والضرب كان حليفهم، وحتى أن قتلهم كان حلالاً على أصحابهم، وغالباً ما كانوا يثأرون من مرارة وضعهم عبر الأيتام الأرمن كونهم أنصاف عبيد عند غيرهم، فهؤلاء كانوا لا يعرفون الله وأكثر كفراً.

كان ممثلو مجلس الملة ومسؤولو الميتم في “كيساريا” يعملون بكدّ لجمع الأيتام الصبية والبنات الذين يمكثون عند العائلات المسلمة. ولم يكن العمل سهلاً، بل على العكس، فالكثير منهم كانوا يرفضون الافتراق عن متبنيهم وآخرون لا يريدون التخلي عن مساعديهم، فيجب العمل بألا يتأذى الأيتام. واتخذت وسائل عديدة، فكان للجيوش الحليفة المنتصرة، وخاصة المسؤولون الانكليز دور كبير في أعمال جمع الأيتام، كانوا يجمعونهم من أماكن مختلفة عن طريق تقديم الذهب والتهديد ووسائل أخرى. وفي “كيساريا”، كانت ثمة سيدات يعملن في جمع الأيتام، يدخلن بيوت الأتراك والأكراد كخادمات، يغسلن الغسيل ويبحثن عن وجود أيتام أرمن في تلك البيوت، كان ذلك عملاً خطيراً، فعليهن الحذر والحيطة وجمع المعلومات الدقيقة، وعندما يتأكدن من وجود يتيم أرمني أو أيتام داخل بيت ما يبدأ الجنود الوطنيون والانكليز بعملهم. أحياناً كانوا يخطفون الأيتام وأحياناً أخرى كانوا يشترونهم بالمال، لكن الأغلب أنهم يهددون أصحاب البيوت ويعودون بأطفال أرمن تترّكوا أو صاروا أكراداً بالكامل. وكان هؤلاء المتبنين يبكون ويرفضون الافتراق عن عشهم وأهلهم.

وفي المياتم، كان لابد من العمل طويلاً حتى يعتاد الأطفال الأرمن على الجو الجديد، فكانوا يتمردون ويتعاركون ويطلبون العودة إلى “بيوتهم”.

وكذلك كانت حالة “ماري كافافيان” فقد تأقلمت مع الجو العائلي التركي، في وعيها فقط هي حفيدة الأب “هوسيك”، الأمر الذي أوحت به أمها التركية بشكل غير مباشر كان يؤكد أصلها الأرمني. فالخادمة التي تغسل في بيت الأتراك تؤكد هوية “مريم” بعض الشيء. فتم أخذ حفيدة الكاهن الأرضرومي الأب “هوسيك” من تلك العائلة ونقلت إلى الميتم.

لا تتذكر متى انتقلت إلى لبنان، وصارت “ماري” طالبة مجتهدة في ميتم “جبيل”، درست اللغة الأرمنية ووصلت إلى الاعدادية، وبعد أن كبرت كان لا بد من نقلها إلى عائلة، فلا يمكن إبقاء الأيتام في الميتم إلى الأبد. ومثل الآخرين أعطيت إلى عائلة أرمنية، وحالفها الحظ أن وقعت على عائلة “دزيرون ياراليان”، و”دزيرون” كان من “كارادوران” (السمراء)، وبصدر رحب استقبل “ماري” التي لا تذكر شيئاً عن ماضيها سوى أنها من “أرضروم” وحفيدة الأب “هوسيك”..

من الصعب أن يعيش المرء في كسب دون لقب، فالفتاة التي أتى بها “دزيرون” وصارت شابة تعمّدت باسم مستعار “الأرضرومية”، وهكذا كان حتى ممتاها. بطبيعة الحال، لا يستطيع “دزيرون ياراليان” صاحب العائلة وعدد أفرادها الكثر أن يبقي “ماري” عنده طويلاً، يجب أن يزوّجها، ولم يستصعب إيجاد عريس لها، فابن عمته “دزيرون صاغجيان” سيرعى الأرضرومية ويصبح زوجاً صالحاً لها.

في تلك الأيام، كان مقياس مستوى الأعراس في كسب هو عدد صواني البقلاوة التي تقدَّم لأهل العروس وأقربائها، فإن أخذوا عدة صوان هذا يعني أن العرس متواضع. كان عرس الأرضرومية “ماري” جليلاً لأن أهل العريس أتوا بأربعين صينية حلويات، فالحالة المادية لـ”دزيرون صاغجيان” جيدة، وكان عدد المدعوين من أقرباء وأصدقاء كبيراً، وقد أقيمت الاحتفالات قبل اسبوع من الزفاف، أما الليلة التي سبقت الزفاف فقد احتفلوا حتى الصباح وشارك فيها أهالي “كارادوران” (السمراء) العائدون من التهجير للتو.

لقد جهّز “دزيرون ياراليان” ابنته كوالد العروس بكل ما استطاع، حسبما تقضي العادة في تلك الأيام. وصار عرس “دزيرون” و”ماري” حديث القرية لفترة طويلة كمناسبة فريدة.

تعاون العرسان الجدد وصارا أصحاب عائلة عدد أفرادها كثر. وبعد سنوات، كانت عشر معالق كبيرة وصغيرة تضرب في القصعة الموجودة فوق الغطاء على الأرض، وقت كل غذاء وفي المساء. لم تكن الحياة سهلة، ولكنها كانت تستمر بفضل العمل والكد. فكانت “ماري” تتدبر أمور الملابس، فرغم أصابعها المتخشنة من الأعمال القروية الصعبة كانت تغيّر ثياب الكبار وتفصّلها من جديد للصغار وتأخذ الصوف من الخراف وتغزله وتحيك ملابس صوفية.

يتميز كل شهر أو فصل في السنة بأعماله الخاصة، ففي الصيف هناك صفّ وتنشيف التبغ وثم التين وقطف العنب من أجل الزبيب والعصير والخل، أما في الخريف، قطف الزيتون وثم الغار وطهي الزيت، وفي الربيع، قلع الحشيش والقطاف، وتقشير القمح حيث كانت تساعد زوجها، وثم تحضير البرغل وتنقية المطحون لنقله إلى المطحنة. وكل يوم، تعليف البقر والخاروف وحلبهما، ترويب اللبن وصناعة الجبن والشنكليش.

كان عمل “دزيرون” و”ماري” شاقاً مثل جميع القرويين، ولكن الحمد لله، العائلة كبيرة والأولاد يكبرون ويحصّلون تعليمهم، والبعض تقدم في تعليمه حتى التخصص، وانشغل الكبار في العمل في صغر سنهم.

الحمد لله رغم الأعمال المضنية الموكلة لـ “ماري”، ولو لم يصفعها القدر من جديد لما كانت اشتكت من حظها. لم يكن “دزيرون صاغجيان” أباً للعائلة فحسب بل كان زوجاً وأباً لـ”ماري”. لقد يتمت الأرضرومية من جديد وهذه المرة في كسب، وبقيت هموم وحمل العائلة الكبيرة على أكتافها، وأصبحت هي الأم والأب، وأولادها ما زالوا صغاراً.

ابنها البكر صار مزارعاً، “ساهاك” و”جانو” صارا رعاة قطيع، وغالباً ما كانت “ماري” وابنتها “آنا” تساعدان ابنها المزارع. في حين كان “جورج” يحرث الأرض بالثيران، كانت أمه وأخته تحفران الزوايا أو الأماكن الضيقة بالمعول الثقيل لكي يدخل نيرها. كان عليها مساندة ابنها وتشجيعه، فهو صبي وفي مقتبل عمره، كان يعمل منذ الصباح وحتى المساء يحرث ماسكاً مقبض المحراث فتظهر البثور على يديه. كان يتمرد من القدر الذي يواجهه، فترشده “ماري” الأرضرومية وتشجعه لمواجهة الصعوبات والمحن. فلها باع في الماضي عندما فقدت أهلها وبيتها ووطنها، لايوجد حل آخر، لا بد من الكفاح.

كانت تؤدي وظائفها الموكلة إليها بأفضل شكل، عينٌ تدمع وعينٌ تبتسم لأنها أوصلت أولادها إلى مستوى ما. فالأولاد الثمانية صار لديهم بيوتهم، وأحفاد “ماري” بالعشرات يملؤون حياتها. ستنسى الآن يتمها ولن تستسلم وستساعد أولادها لتغطية حاجات أحفادها، تساعد هذا بطبخ الكشك وذاك لتحضير الزبدة والآخر لخبز العجين، كانت راضية وسعيدة والحمد الله. بعد أن فقدت أهلها ها هي تملأ حياً بأكمله بالأولاد والأحفاد وتهبهم للوطن، فقد أشبعتهم بحب الله وحب الوطن.

وبعد سنوات، مُنحت “ماري الأرضرومية” لقباً جديداً، فكان أحفادها يدعونها بالـ”الجدة الغنية”، فأولادها من أوروبا وكندا كانوا يرسلون لها المال وهي بدورها تعطي منه مبالغ لأولادها وعلى الأخص لأحفادها.

وكان للأحفاد “جدة فقيرة” أيضاً، وهي ابنة حماها، أي أخت “دزيرون” التي أخذت على عاتقها رعاية أخوتها وأخواتها بعد العودة من التهجير. فبعد وفاة “دزيرون” كانت تساند كنتها “الغريبة”، وأمضوا حياتهم معاً حتى الممات، فرغم تناقض شخصيتهما تماماً كانتا تكمّلان بعضاً وبقيتا دون افتراق.

وبعد سنوات، في الوادي الكبير المسمى “كارادوران” (السمراء) بعيداً عن مسقط رأسها رقدت “ماري الأرضرومية” إلى جانب حبيبها “دزيرون” في إحدى الزوايا. وفي عام 1990، استحقت حفيدة الأب “هوسيك” أو ابنته، قريبة قائد الفرقة الرابعة “كيري”، بعيداً جداً عن “كارين”، على التراب الذي ألقاه أقرباؤها على قبرها في تلك الزاوية.. في حين أن أقرباء آخرين لم يستحقوا حتى حفنة من التراب في تلك الأيام التي مضت ومضت..

وبعد عدة أشهر من وفاة “الجدة الغنية” تبعتها ابنة حماها “الجدة الفقيرة”، التي كان تحمل نفس الاسم “ماري-مارال”.

واليوم، أحفاد الأرضرومية موزعون من كندا حتى بلجيكا، وهناك في الغربة كان لـ”ماري” صهر غريب، ومن كسب حتى بيروت والإمارات العربية .

فالجيل الذي ولد بعد “ماري الأرضرومية” الناجية من المجازر أو التتريك يعيش ويتكاثر في ظروف جديدة..

* * *

لكن مغامرة هذه الأرمنية لن تنتهي هناك. حتى الرقاد في قبرها لن يكون مريحاً، فقبل عدة سنوات انزلق القسم الأكبر من مقابر القرية بسبب الانزلاقات الترابية، وفقدت مقابر “ماري الأرضرومية” و”دزيرون”، مما سبب عذاباً ووجعاً جديداً لأحبائهما وخاصة لأولادهما..

* * *

روى لي هذه المغامرة ابن الأرضرومية “ساهاك صاغجيان”.

من كتاب (شهادة مدى الحياة)

لكيفورك أبيليان وترجمة د. نورا أريسيان

Share This