تركيا قبل العثمانيين ..

تركيا في آسيا الصغرى

ما خلّف الترك حتى أواخر القرن الثاني عشر وثائق تاريخية مكتوبة . تحسن الوضع قليلا في القرن الثالث عشر ، لكنه تراجع في القرن الرابع عشر بعد تفكك إمبراطورية المغول، لذلك تؤخذ المعلومات من مصادر غير تركية

تشكل هضبة آسيا الصغرى مستطيلا طوله 750 ميلا وعرضه 300 إلى 375 ميلا. وهي منطقة جبلية تتخللها وديان ، وتتميز بفروقات مناخية حادة .

وخطوط الاتصال الرئيسية ، الطبيعية والتاريخية ، (هي دائما ذات اتجاه غربي _ شرقي)، وإن وجدت خطوط أخرى من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي. وقد تغيرت أسماء المدن والقرى عبر التاريخ مما يجعل البحث التاريخي حول المنطقة أكثر صعوبة .
لم تكن آسيا الصغرى في القرن الحادي عشر زاخرة بالحضارة والمدن كما في أيام الرومان ، إذ عانت ، خاصة في المناطق الحدودية زمنا طويلا من الحروب والحروب المضادة والنهب والتخريب ، بين (البيزنطيين والمسلمين). وكانت المناطق الحدودية خالية من الناس أو مسكونة فقط بالغزاة والمرابطين .

وكان البيزنطيون قد لجأوا إلى إسكان بعض هذه المناطق أو إحلال العسكر النظاميين مكان الغزاة المتطوعين .لكن الانقسامات الحادة في الأناضول أضعفت مقاومتها ، كما أن تكتيك الحرب للعسكر البيزنطيين ذوي السلاح الثقيل والمراكز الثابتة كان غير مجد في وجه المقاتلين الترك السريعي الحركة . وكانت معركة “منزيكرت” في 1071 م حدا فاصلا بين مرحلتين من غزو الترك المتواصل في الأناضول .

قبل ذلك يصف (مؤرخو الأرمن) في 1029 م غزاة طوال الشعر ، فرسانا يستخدمون القوس والنشاب ، الذي لم يكن معروفا لديهم . وقد كانت الغزوات من الشرق إلى الغرب لا تتوقف.  لكن التركمان قبل “منزيكرت” لم يكونوا يفكرون بالبقاء في الأناضول بعد غزواتهم . ولم يكن “ألب أرسلان” المنتصر في هذه المعركة ، والذي أسر إمبراطورا بيزنطيا لأول مرة في التاريخ ، يتوقع سقوط بلاد الروم ، بل سيحدث ذلك تدريجيا بفعل تعاقب الأحداث .
يصعب وضع تصور دقيق للأحداث بعد منزيكرت حتى الحملة الصليبية الأولى .فقد بقيت قوات بيزنطية في الأناضول ، حتى أرمينيا شرقا ، لكنها كانت تتصرف على هواها. وكانت هناك أيضا قوات من الترك في الأناضول .وقد راوحت المرحلة بين الحرب والتفاوض بين البيزنطيين والسلاجقة . وبقيت في الذكرى بعض الأحداث بالصدفة ، وأخرى لم تعرف أو نسيت .ولا يوجد سبب للاعتقاد أن “ملك شاه” ووزيره “نظام الملك” عدلا عن سياسة “ألب أرسلان” في عدم ضم بلاد الروم.

لكن الأمر الواضح الآن هو أن البيزنطيين أنفسهم شجعوا الترك على الانتشار في الأناضول لاستخدامهم في (صراعاتهم على السلطة) التي كانت كثيرة ومتواصلة. ولم يكن البيزنطيون ينظرون إلى الترك كأعدء بالطريقة التي كانوا يرون العرب .

وهناك اعتقاد بأن (سليمان السلجوقي) احتل “نيقيا” ثم “قونيا” ثمّ “أنطاكية” بمباركة من الفريق البيزنطي الحاكم . وكان ملك شاه كأبيه غير راغب بضم بلاد الروم .
وقد تمزقت الإمبراطورية السلجوقية بعد موت ملك شاه وتوقف التدخل في آسيا الصغرى  وبقيت الحالة هكذا حتى مجيء الصليبيين .

وفي هذا الوقت ظهر تهديد آخر من الترك الآتين من أوروبا والذين كانوا يسكنون مناطق الدانوب الأسفل . وفي ملطية في قلب الأناضول ومركز مواصلاتها ظهر “دانشمند نامه” .
لم يأبه الترك في الأناضول لمرور (الحملة الصليبية الأولى) ، لكن هذه الحملة قطعتهم عن البحر وحصرتهم في الهضبة .

وفي الوقت نفسه أدى نشوء الممالك الصليبية والأرمنية إلى قطع الصلة (بين ترك الأناضول والعرب المسلمين) في مصر وبلاد الشام .وقد تشكل المجتمع الإسلامي _ التركي في آسيا الصغرى خارج المجال العربي الإسلامي، وكانت لذلك أثار هامة سنراها فيما بعد. وقد وقعت معركة “الخابور” في عام 1107 بين سلاجقة الروم بقيادة السلطان “قلج أرسلان” من جهة وسلاجقة الشرق بقيادة السلطان “محمد” .

وقتل السلطان قلج أرسلان في هذه المعركة . وقد تحرر ترك الأناضول بعد هذه المعركة من تدخلات سلاجقة الشرق ، وبقوا معزولين في الأناضول ، نسبيا ، لمدة قرن من الزمان ولم تحدث عندهم تغييرات تذكر خلال تلك الفترة. ولم يمنع صعود (دولة الدانشمند) وعودة بعض القوى الأمبراطورية البيزنطية بين عامي 1110 و 1141 من استمرار المنازعات والحروب على جميع الأصعدة.

وقد كان أباطرة البيزنطيين يرون في الفرنجة الصليبيين أعداء أشد خطورة من الترك .
أنشأت تحالفات تركية _ صليبية _ تركية .وقد قتل سلطان السلاجقة على يد أتباعه عندما قدم تنازلات للبيزنطيين لم تكن مقبولة لديهم . وكان قادة الترك يلجأون للبيزنطيين أحيانا، كما كان قادة البيزنطيين يلجأون للترك طلبا للنجدة

وفي النصف الثاني من القرن الثاني عشر تضاءل حجم الدانشمنديين بسبب موت أميرهم محمد ، (وخلاف أولاده على الوراثة) ، فتحول “مسعود السلجوقي” إلى لعب دور الحكم بينهم . مع وصول (الحملة الصليبية الثانية) كانت العلاقات بين البيزنطيين والصليبيين سيئة, فقد كانت لدى الصليبيين صورة مبسطة ساذجة أقنعوا بها الأوروبيين , عن العلاقات البيزنطية التركية , (فلم يتفهموا أوضاع البيزنطيين) , ولم يروا أنه ما كان لدى ترك آسيا الصغرى اهتمام بالقدس , وكانت لديهم الفكرة الخاطئة بأن جميع المسلمين موحدون في حين لم يكن المسيحيون موحدين.

ولم يعر الصليبيون اهتماما للإغريق الذين تبادلوا المساعدة مع الترك الذين كان هدفهم الأساسي هو السلم مع القسطنطينية

وقد كانت التحالفات بين مختلف الأطراف تتبدل دائما, كذلك الانسحابات كانت متبادلة .
لم تكن مختلف الأطراف تسعى إلى مواجهة شاملة . لكن المواجهة الكبرى حصلت في عام 1176 في “ميريوكينالون” بين البيزنطيين بقيادة إمبراطورهم والسلاجقة بقيادة “قلج أرسلان”. وكان النصر حليف السلاجقة.

وكانت هذه المعركة توازي في أهميتها معركة “منزيكرت” التي حدثت قبل حوالي مئة عام. فقد تبرهن نهائيا أن وجود الترك في الأناضول ليس سطحيا ولا مؤقتا أو يمكن تجاوزه، بل هو أمر يجب التعايش معه .والمغزى الآخر لهذه الحرب كان أيضا انهيار المشروع الفرنجي البيزنطي الكبير . ومرة أخرى، فرضت الحرب على السلطان السلجوقي ولم يسع إليها .

من ناحية أخرى، صعد في هذه الفترة نجم صلاح الدين الأيوبي في الشام والجزيرة ومصر  وكان قلج أرسلان مضطرا لمساعدة خصومه .وعندما مات الإمبراطور البيزنطي في 1180، وبعد معركة ميريوكينالون ، ظهرت بجلاء قوة الاختراق التركماني وصعوبة مواجهته .

ثم جاءت (الحملة الصليبية الثالثة) بعد أن حقق الترك انتصارات متتالية في الأناضول .
عندما حقق السلاجقة أقصى النجاح لدولتهم في القرن الثاني عشر اهتزت هذه الدولة بسبب هذا التوسع نفسه . يكمن السبب خارج الدولة وخارج آسيا الصغرى أيضا .

فقد أدت القلاقل الناتجة عن حركة التركمان الواسعة في خراسان إلى ردة فعل خوارزمية وصلت آثارها البعيدة إلى أذربيجان وأرمينيا وآسيا الصغرى.

وما هو أكيد أن قتالا نشب في ديار بكر وديار ربيعة بين التركمان بقيادة رجل يسمى “رستم” وبين الأكراد .وقد ذبح التركمان الأكراد ومضوا في ارتكاب المذابح في جورجيا وصولا إلى كبادوقيا ، ولم يميزوا بين الأديان في ارتكاب المذابح ، ووصلوا إلى كيليكيا في شتاء 87/1186 وإلى شمالي سوريا وممالك الفرنجة .

وقد جابههم الفرنجة وقتلوا رستم. لكن التركمان استمروا في ارتكاباتهم بعد مقتله .
وعند بلوغه سن السبعين قسم قلج أرسلان أراضي الدولة بين أولاده وأخيه وابن أخيه، وبلغت القسمة إحدى عشرة حصة . وحاول الابن الأكبر “قطب الدين” السيادة مكان أبيه والسيطرة على العاصمة “قونية”، ونجح في فرض نفسه على والده.

صادف هذا الأمر مرور الحملة الصليبية بقيادة (فريدريك بربروسا) الذي اتصل بالسلطان وأخذ وعدا منه بعدم التحرش ، كذلك اتصل قطب الدين به لنفس الغرض . لكن ذلك لم يمنع التركمان من التحرش بقواته. فقد كان لديهم ميل طبيعي لمهاجمة جيش بربروسا، بغض النظر عن افتقارهم للانتظام. وفي نفس الوقت كان قلج أرسلان يهنئ صلاح الدين على استعادته القدس في 1187 م، وخطب ابنته لابنه قطب الدين . فحاصر الصليبيون “قونيه” ، وحاول قلج أرسلان التفاوض ، واضطر إلى إعطاء بربروسا رهائن ، يستعادون عند وصوله إلى “كيليكيا” ، لكن هذا غرق في أحد أنهارها في عام 1190 م .

واضطر قلج أرسلان للهرب من “قطب الدين” الذي كان يصطحبه في إحدى غزواته ضد أخيه “نور الدين” ، وهام على وجهه ، (حتى وفاته عام 1191) وعمره 77 عاما معتبرا ابنه “كيخسرو” خليفته .ولم ينجح هذا في إقناع إخوته بسيادته عليهم إلا بعد هربه ثم موت “قطب الدين” ثم موت خليفته “ركن الدين” واتفاق الأمراء على استعادة “كيخسرو” .ولا لزوم لتكرار أن أزمة الدولة السلجوقية لم تؤد إلى إبطاء نشاطات التركمان ولا إلى الانهيار على الحدود مع البيزنطيين. بل العكس هو الذي حصل ، إذ كانت لدى البيزنطيين انقساماتهم أيضا .

وكان هؤلاء يحتاجون إلى السلم مع السلاجقة كي يستطيعوا مواجهة اللاتين .

فصارت الانقسامات البيزنطية أيضا عاملا مساعدا للسلاجقة . وكان هؤلاء يحاولون الوصول إلى منافذ على البحر .

وفي مطلع القرن الثالث عشر تجاوزت الدولة السلجوقية أزمتها واستطاعت تحقيق تقدم إضافي ، وبلغت قمة توسعها في الأربعين عاما القادمة .

عقد “كيخسرو” اتفاقا مع (لاسكاريس البيزنطي) عند اعتلائه العرش ومضى في إنعاش سياسة أسلافه الشرقية وفي محاولة إيجاد منافذ على البحر .لكن المشاكل التي آثارها التركمان أدت إلى مواجهة بين كيخسرو ولاسكاريس ، انتصر بنتيجتها كيخسرو لكنه قتل في المطاردة بعدها وذلك في عام 1211 م .

واضطربت الأمور بسبب الخلاف على وراثة العرش بين أبنائه الثلاثة وانتصر “كيكاوس” بدعم خارجي (من مغيث الدين حاكم أرضروم وليو الأول ملك أرمينيا وظاهر الدين أمير الدانشمند) ودخل “قونية”.

وعقد كيكاوس صلحا مع لاسكاريس لم يعتبره الطرفان مهما ,إذ كانت بنوده عادية , لكنه دام خمسين عاما. وكانت الاضطرابات التي حلت بالعالم الإسلامي تفرض نفسها :
حركات التركمان والغزوات الخوارزمية ثم المغولية وصعود الدولة الأيوبية .

وفي عام 1220 مات “كيكاوس” بينما كان يهيئ لحملة في الشرق .وخلفه أخوه “كيقباذ” دون صعوبة . وهو الذي يحفظ له التاريخ صيتا أكثر بريقا من سلاطين السلاجقة الآخرين .

وقد حقق “كيقباذ” انتصارات على شواطئ البحر الأسود الشمالية . واستطاع توحيد آسيا الصغرى والتوسع في الجزيرة العليا وفي شمال الشام وكان انتصاره الأكبر ضد “جلال الدين” منكوبرتي ، ابن خوارزمي شاه محمد الذي أخرجه المغول من بلاده .

لم ينهزم جلال الدين من قبل في وجه أي قوة غير مغولية ، مما أعطى كيقباذ السمعة بأنه السلطان الذي لا يقهر .

وقد توسعت إمبراطورية سلاجقة الروم لمواجهة المغول، كما توسعت من قبل الإمبراطورية البيزنطية شرقا لمواجهة الترك ، ولقيتا المصير نفسه .

كان “كيقباذ” في أوجه قوته سلطان آسيا الصغرى دون منازع. وقد خضعت له الدول المسيحية المجاورة . وفي آخر أيامه ظهر الخطر المغولي ، (لكنه توفي في عام 1237).

ونشبت حرب دامية لتقرير من يرث العرش ، وانتصر فيها “كيخسرو” رغم أن الأب كان قد أخذ البيعة لابنه الاخر “عز الدين”. وقد حقق كيخسرو سلطة تعادل ما حققه أبوه . لكن ثورة (بابا إسحق) أضعفت السلاجقة في الوقت الذي وصل فيه المغول .

فقد ثار بابا إسحق عام 1240 معلنا أنه رسول الله ، وسيطر على مناطق واسعة وتبعه كثير من التركمان وغيرهم ، واستمرت حركته حوالي عامين أو ثلاثة ، وقبض عليه وقتل لكن حركة أتباعه استمرت .

لا نعرف ما هي تعاليم بابا إسحق ولا ما هي أهدافه ، ولا نعرف أيضا مدى تأثير أحداث الشرق وهرب الخوارزمية وأثرها على التركمان ، لكن هذه الحركات استدعت حشد الجيوش لإخضاعها في حين أنه كان يجب أن تكون هذه الجيوش في مكان آخر .
فقد صادف مجيء المغول فترة ضعف السلاجقة .

ففي يوم واحد من عام 1243 أزيل جيش السلاجقة من الوجود في معركة قرب “أرزنجان” ، وحدث تحول في تاريخ آسيا الصغرى ، تحول لا عودة عنه.

بقلم: زياد هواش

أيلول / 2011

Share This