سردية “هاغوبيان” الباطنية لوحته موشومة بالغرابة والقسوة

للوحة الأرمنية تركيبها “السيميائي” الخاص بها، كما لها سرديتها الباطنية التي تحول فضاء الاحلام الى شاشة من المرئيات (الفانتازية)، إنها لوحة تدور على محور ذاكرتها الموشومة بالغرابة والقسوة والإيمان بوجود “ليتورجيا” تنتسب إلى عالم لم يخرج إلى اليقظة بعد. فهو لم يزل يستلهم أجواءه الأثيرية المطبوعة على حالتي السكون والحركة.

منذ لوحة باريس بوردون الفينيسي الذي عاش ما بين 1500-1571 والتي أسماها تكريم مطران البندقية، حتى حدود العالم الديكوري المدهش للفنان دانيال بورن، الذي عاش ما بين 1938-،2010 مروراً بسوريالية (بول ديلفو) 1897-1994 فإن النزعة الفانتازية في اللوحة التي تستحضر الماضي كشاهد يغطي الحضور المتين للحاضر القاسي، لم تنزل عن موقعها الغريب، الذي ما برحت تقدم لنا نفسها من خلاله كقوة تعبيرية قابلة لشتى التأويلات.

من هنا نتعامل مع معرض الفنان الأرمني هاروتيون هاغوبيان، بطريقة استقرائية اخرى، تقوم على قاعدتي الجمع والتفسيخ.

إننا نجمع المسطح التصويري عند الفنان بوصفه جملة مفيدة مكتملة تنهض من المقدمة إلى الأعماق الكثيرة، إلى الجوانب الحيوية، لتصير مشهداً متماسكاً يعلن طاقة التشكيل وسيطرة الرسام على لوحته تأليفاً وبناءً متوازياً، فكل لوحة عند هاغوبيان هي اكتمال متوازن، يعلن عن قوته التعبيرية كعنصر من عناصر الروح الأكاديمية التي تستهدف حالة الرسم وتسعى إليها، لكي تخاطب عبرها العين المتلقية الباحثة عن طاقة المنفذ الفنان .

أما الجانب الثاني من الاكتمال الذي يسعى اليه الفنان فهو تلك الرغبة الجامحة، في ابراز الروح الفانتازية – يتصورها البعض نزوعاً سوريالياً التي تستعيد عناصر الماضي، من إكسسوار وديكور محيط، وبناء عمقي يحول اللوحة إلى مشهد مسرحي حي.

ولكن هل أقام الفنان حواراً مع المتلقي، أم قدّم حالة جذل للعين التي تطالع لوحته مطالعة بصرية، قبل أن تبدأ بدراستها دراسة عقلية؟

هنا الإشكالية في أغلب أعمال الفنانين الذين اشتغلوا أو ما برحوا يشتغلون على خاصية الماضي الحاضر، أو الحاضر المحمول على عربة الماضي، فالفن بقدر ما هو إعادة تركيب للذاكرة البصرية حسب ما يسعى الفنان إلى تحقيقه، فإنه مشهد مدموغ بخاتم مستقبلي بإمكانه وحده إخراج العمل الفني التشكيلي من سرديته الوصفية، أو من جماليته المستعارة من عوالم عصور النهضة وما بعدها.

وتطبيقاً عبر القراءات البصرية لبعض الأعمال، سنرى بأن استحضار الفنان للجسد العاري في بعض اللوحات جاء أقرب إلى إعلان دفاعي عن طهارة الجسد المنذور للعالم الذي زرع فيه، فيما الحضور الأيقوني لبعض المفردات، سوف يبدو إشادة بطبيعة انتماء الذاكرة التشكيلية للفنان. لكن لو تعاملنا مع اللوحة كوحدة تعبيرية فإننا سنصل إلى قدر من التعامل الديكوري المحايد مع العالم الخارجي الذي يتجه صوبه الفنان.

إن هاروتيون هاغوبيان فنان متين يعرف ماذا يريد أن يقدم في معرضه الجديد في الغاليري في صالة زمان، أنه وبكل بساطة يسعى إلى مهادنة الأذواق السائدة، لكنه يناقش بالسر ذوي الأسئلة الفاحصة، لأن لوحته في النهاية ليست جواباً، بل هي سؤال خطير ومهم يفتش عن معنى الأثر الإنساني على أي معتقد أو أي مكان.

لذلك أرى أن لوحة الفنان هاغوبيان هي لوحة أدبية بامتياز، وهي تهدف أصلاً إلى تحقيق نتائج تؤدي إلى كشف العالم العضوي، سيما من خلال دمج الفنان في لوحته، أو على مستوى مسطحه التصويري، بين الفن التشييدي The Constructive Art، وبعض من المفردات السوريالية، فإذا كان الفن التشييدي والهندسي كما يرى ذلك هربرت ريد يؤكد القيم التشكيلية وهو بالتالي من الفنون الموضوعية الخالية من الدلالات السياسية، لكنها مملوءة بالإشارات الكافية، فإن الفن الثاني السوريالي ضمن مفرداته، وفي اللوحة بالذات يهدف حتماً إلى كشف وتحفيز العالم العضوي، ودفعه إلى الواجهة لكي يطرح قضية الدهشة أو الغربة كسؤال فرعي جديد.

هذا المعرض ليس معرضاً سهلاً، ولا يجب أن نرى في أفكار الفنان هاغوبيان إلا حالة تحفيز لذاكرتنا، لكي تتعامل مع الروح الفانتازية بقدر من الطهرانية والإدراك، بأن فصول الحضور الإنساني على مسرح اللوحة، وعبر الإبداع، سيبقى حضوراً مشروطاً بالانتماء إلى أصوله الجمالية الأولى.

الفنان في سطور

ولد الفنان هاروتيون هاغوبيان عام 1961 في أرمينيا.

عام 1991 تخرج من معهد يرفان للفن.

عام 1992 بدأ يرسم في مجلة للأطفال.

عام 1998 عضو في جمعية الرسامين الأرمن.

المعارض الشخصية ابتدأت منذ عام 1991 حيث عرض في أرمينيا وفي موسكو عام 1993، ثم أقام معرضه الفردي بباريس.

عام 1995 عرض في وارسو وعام 1996 في أمستردام، وفي عام 1998 في أرمينيا.

عام 2009 استضافته جامعة هايكازيان ببيروت ليعرض في صالتها.

يعرض عام 2011 في بيروت بصالة زمان.

عمران القيسي

الخليج

Share This