الندوة الدولية الرابعة لتاريخ الطباعة والنشر بلغات وبلدان الشرق الأوسط

الطباعة .. تاريخ حضاري وثقافي وجسر بين التراث والحداثة

كشفت الندوة الدولية الرابعة لتاريخ الطباعة والنشر بلغات وبلدان الشرق الأوسط، والتي ينظمها مركز الخطوط التابع للمكتبة في الفترة من 27 حتى 29 سبتمبر/أيلول “عن أسرار مهمة حول ظهور الطباعة عربيا ودورها في التواصل الحضاري والثقافي العربي ـ العربي والعربي ـ الغربي، وأشكال وتقنيات الطباعة التراثية، والمتاحف الطباعية التراثية، ومطبوعات الجاليات والأقليات، إضافة إلى الطباعة الأرمينية؛ كما ناقشت الخطوط الرقمية الطباعية (التراثية/الحديثة)، والوسائط الطباعية المتعددة (تقنيات النشر والطباعة الحديثة بلغات الشرق الأوسط)، والمتاحف الطباعية الافتراضية/التخيلية، فضلا عن معرض للخطوط والطباعة ضم عددا من أعمال الرواد الأوائل من علماء الأرمن من خلال مجموعة من أوائل وأندر المطبوعات الأرمينية.

* الأرمن والطباعة الفنية

د. مصطفى الرزاز أستاذ الفنون الجميلة بكلية التربية الفنية، جامعة حلوان رأى إلى أن كل من كتبوا عن تاريخ الطباعة الفنية اليدوية في مصر أشاروا إلى أن بدايتها الفعليَّة جاءت مع الثلث الأول من القرن العشرين، باستثناء القوالب الخشبية البارزة التي استخدمها المصريون منذ العصر الفاطمي، والتي تحتوي على زخارف تكرارية هندسية ونباتية وحيوانية، استخدمت في طباعة المنسوجات.

وقال: “يشيرون بكل ثقة إلى أن فنون الطباعة على الورق قد تأخرت في مصر ما يقارب الخمسة قرون؛ حيث يؤرخ لبداية الطباعة الفنية في أوروبا فيما بين منتصف القرن الثاني عشر متمثلة في طباعة أوراق اللعب والصور الدينية. غير أن الباحث ستيتشفيتش قد أفاد في مصنفه عن تاريخ الكتاب بما يخالف ذلك التصور الشائع عن تاريخ الطباعة على الورق وطباعة الكتب في مصر؛ إذ يقرر أن الكتب الأولى المطبوعة بالقوالب الخشبية التي ظهرت في أوروبا قد ظهرت في الوقت الذي توقف فيه إنتاجها في مصر، ويتضح من بحوثه أن مصر عرفت طباعة الكتب بالقوالب الخشبية في وقت مقارب جدًّا لطباعة أول كتاب معروف للصيني “وانج شيه” عام 968، وهو كتاب دورة البوذية Diamond Sutra، ففي اكتشاف يرجع إلى نهاية القرن التاسع عشر تم العثور في آثار مدينة قريبة من الفيوم بمصر على خبيئة تضم حوالي خمسين كتابًا، وكذلك تم العثور عام 1894 على عدة أوراق مطبوعة عبارة عن أحجبة طبعت بالقوالب الخشبية في الفترة من 900 إلى 1350 وهي ضمن مجموعة الأرشيدوق بالمكتبة الوطنية بفينا”.

وكشف الرزاز أن متحف الفن الإسلامي بالقاهرة يقتني مجموعة من الأوراق المطبوعة ترجع إلى ما بين القرنين العاشر والثاني عشر، عثر عليها في الفسطاط والبهنسا والقصير، وهي وثائق دالة على أن المصريين قد عرفوا ومارسوا فن الحفر البارز على الخشب قبل أن يستخدمه الأوروبيون بأربعة قرون ونصف القرن؛ حيث بدأت هذه التقنية في أوروبا فيما بين القرنين الرابع عشر والخامس عشر.

ولفت الرزاز لدور الأرمن المصريين في الطباعة الليثوغرافية الشعبية “حينما نزح الأرمن إلى مصر هربًا من الأتراك كان من بينهم أصحاب مهارة حرفية متمرسون على الطباعة الليثوغرافية، فشاعت في الأسواق الشعبية مطبوعات رسمها فنانون شعبيون مصريون على الحجر وطبعوها بمعاونة الطباعيين الأرمن، وكانت تلك اللوحات تطبع على ورق رخيص بألوان أساسية قوية متراكمة بفعل تحريك القالب الحجري كل مرة؛ وبذلك أصبحت نوعًا شعبيًّا حديثًا للطباعة الليثوغرافية المصورة التي تعبر عن سير الفروسية والأولياء والبراق الشريف مع كتابة وزخارف بيئية مصرية، أيضًا طبعوا لوحات أخرى كتابية خالصة ذات إطارات زخرفية وأشكال رمزية كالكف والهلال والنجوم والأشرطة وأحجبة عليها رموز وجداول سحرية وأدعية دينية، وكانت هذه المطابع موجودة في أحياء حارة الحلبية بالأزهر وشارع محمد علي بباب الخلق”.

المردود الثقافي للطباعة الأرمينية

وتطرقت الباحثة آلاء فهيم أحمد ـ كلية الآداب، جامعة الإسكندرية ـ إلى المردود الثقافي للطباعة الأرمينية في إستانبول في الفترة (1839 – 1878) حيث ارتبطت النهضة الثقافية الأرمينية في الدولة العثمانية بازدهار فن الطباعة خاصةً في القرن التاسع عشر، فمنذ اختراع آلة الطباعة على يد الألماني “جوتنبرج”، وقالت: “أدرك الأرمن مدى الأهمية التي جاء بها هذا الاختراع المتواضع، فما لبثوا أن عملوا على إدخال هذه الآلة إلى الدولة العثمانية خاصة مدينة إستانبول حاضرة الخلافة آنذاك”.

وأضافت “كان للطباعة الأرمينية في إستانبول دورٌ قوي على النهضة الفكرية الأرمينية خاصةً منذ بداية عصر التنظيمات 1839 وحتى مؤتمر برلين وبداية المسألة الأرمينية 1878، فقد ساعد الأرمن العثمانيين على ازدهار دورهم في الصحافة والترجمة وبعض الفنون الأدبية وذلك في إستانبول وغيرها من المدن العثمانية. فمنذ عام 1845، كان للأرمن مطبعتان في إستانبول وثلاث مطابع في أزمير، ثم ما لبث أن تضاعف عدد هذه المطابع مما ساعد على صدور العديد من الصحف والمجلات والدوريات اليومية والشهرية التي كان يصدرها الأرمن في إستانبول وأزمير وغيرها من الولايات الأرمينية”.

وذكرت الباحثة من هذه الدوريات الأرمينية، على سبيل المثال لا الحصر “تلك التي ظهرت في العاصمة العثمانية نتيجة عصر التنظيمات: صحيفة “ماسيس” التي كان يرأس تحريرها “جرابيد أوتوجيان”، وصحيفة “بيي ويحررها هاروتيون سفاجيان”، وصحيفة “هايريك تحرير أربياريان”، إلى جانب الكثير من الصحف الأخرى. هذا إلى جانب الدور الذي لعبته الطباعة الأرمينية في الترجمة، فلقد قامت مؤسسة “داديان إخوان” الأرمينية للطباعة بترجمة العديد من المجلدات والكتب إلى اللغة الأرمينية وطبعها في آلاف النسخ، كما ترجمت التراجيديات الكلاسيكية الأرمينية وتم أداؤها على أول مسرح أسس في إستانبول وكان تحت إدارة “مكرتيش بيشيكتاشليان” (1828-1868).

هكذا تؤكد الباحثة ما كان للطباعة الأرمينية تأثير ومردود قوي على الجانب الثقافي الأرميني وازدهار اليقظة الفكرية والأدبية للأرمن في هذه الفترة.

المطبوعات الحجرية بالمغرب

وناقش الباحث المغربي الحسن تاوشيخت ـ المكتبة الوطنية للمملكة المغربية ـ المطبوعات الحجرية بالمغرب حيث اعتبر أنها مرحلة وسطى بين الكتابة المخطوطة والطباعة السلكية أو الحديثة، وقال “ظهرت الطباعة الحجرية بالمغرب الأقصى خلال القرن 19؛ نتيجة للبعثات العلمية التي أُرسلت إلى بعض الدول العربية وخاصة مصر، وكان لظهور هذه الطباعة دور أساسي في توسيع دائرة المعرفة والنشر، فبرزت إلى الوجود مطابع متخصصة وبمدينة فاس بشكل خاص، وقد عملت على طبع مجموعة من المؤلفات التي كانت تعتبر من النوادر والخاصة جدًّا”

الطباعة وحركة الإصلاح المغربي

وفي الإطار نفسه تاريخ دخول الطباعة بأنواعها إلى المغرب سواء كانت طباعة حجرية أو غيرها أشار د. المهدي بن محمد السعيدي من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة ابن زهر، أكادير إلى أن دخول الطباعة إلى بلاد المغرب تأخر عن غيره من البلاد العربية؛ لذلك كانت المطبعة الأولى الوافدة إلى البلاد هي المطبعة الحجرية التي نقلت من مصر بواسطة أحد علماء المغرب وهو الطيب بن محمد التملي الروداني قاضي تارودانت إحدى البلدات في الجنوب، حينما استقدم محمد القباني ليشتغل لديه على مطبعته بأجر معلوم اتفقا عليه وهم بالمحروسة، وقد دخلت المطبعة الحجرية إلى المغرب في وقت أفل فيه نجمها بمصر وبدأت المطبعة السلكية تحل محلها وتلقى رواجًا كبيرًا لجودة مطبوعاتها وسرعتها… ولعل سبب اصطفاء هذه الآلة الطباعية بالذات وقدومها من مصر وليس من أوروبا القريبة، يرجع إلى الجو السياسي السائد بالمغرب في القرن 13هـ/ 18م والمبني على سياسة الاحتراز من التدخل الأوروبي في البلاد المغربية بعد تعرض الجزائر ثم تونس للاحتلال الفرنسي، والتحرز من كل ما يأتي من الغرب من سلع وآلات.

الانعكاسـات السياسية والثقافية للطباعة

وتناولت د. لطيفة الكندوز من جامعة محمد الخامس بالرباط الأبعـاد والانعكاسـات السياسية والثقافية والاجتماعية للمطبـعة بالمـغرب حيث قالت “لم يقتصر دور المطبعة في المغرب على الجانب التقني الصرف، المتمثل في نشر الكتب وتوثيقها والحفاظ عليها فقط، بل كانت لها بالإضافة إلى ذلك عدة أدوار فعالة ومختلفة، وأبعاد وانعكاسات كثيرة، شملت عدة مستويات خصوصًا السياسية والاجتماعية والثقافية”.

وأضافت “أسهمت الطباعة بدور كبير في التنمية الثقافية بالمغرب؛ حيث تمكنت المطبوعات من تنشيط الحركة التعليمية وتطويرها، فغيرت من النهج التعليمي التقليدي، ووسعت من دائرة التعليم، وطوَّرت برامجه ومناهجه، وساعدت على تكوين المدرسة المغربية العصرية؛ مما ساهم في توسيع المدارك الثقافية وانفتاحها على تيارات فكرية جديدة”. وتابعت: “كما فتحت الطباعة آفاق التواصل الثقافي والحضاري بين المغرب والخارج، فبواسطتها وصلت أصداء الدعوة الإصلاحية من الشرق، مما كان له انعكاسات على الكتابات المغربية لاسيما في تناولها لقضية إصلاحات التعليم والمجتمع المغربي، وعن طريق الكتب والجرائد التي كانت تستورد من الشرق، خصوصًا الكتب المصرية واللبنانية، وكذا بواسطة أعضاء البعثات التي درست في جامعات مصر وسوريا ولبنان وفرنسا، اطلع المغاربة على النهضة العربية، وعلى الكفاح ضد المستعمر بالدول الإسلامية، مما كان له الأثر الكبير فينقل المعارف وتبادل الأفكار الإصلاحية بين المغرب والمشرق”.

الطباعة جسر بين الحداثة والتراث

الباحث صلاح مصيلحي علي عبد الله من جامعة البحرين تناول دور الطبعة في التواصل الثقافي والحضاري وقال “كان للكتاب العربي قصة طويلة شغلت الناس، وتاريخ حافل ملأ الدنيا منذ نزوله من السماء وانتشاره في آفاق الأرض؛ لتتعلم منه شعوب كثيرة ما لم يكونوا يعلمون، ولما اتصلت الحضارة الإسلامية بغيرها من الحضارات التي أوشكت على الأفول استفادت من علومها، ونقلت كتبها إلى لغتها ثم درستها وزادت عليها جديدًا مبتكرًا؛ وفي ضوء ذلك يحاول هذا البحث أن يبين كيف كان ظهور الطباعة نقطة تحول بين عهدين: عهد جمود العالم الإسلامي، ثم عهد يقظته، فقد كانت حياتنا الثقافية وسبل تخاطبنا شيئًا آخر غير الذي عرفناه بعد أن حمل نابليون مطبعته إلى مصر، فقد عجَّلت بحركة التقدم ونشرت الثقافة التي تعني إعادة كتابة التراث الإسلامي بصورته الحقيقية وخصائصه الأساسية التي لا تحتمل الخلاف حولها، عن طريق الفحص والتدقيق والاستكشاف؛ لتعود الحياة إلى التراث ليستقر في عقول الناس وصدورهم، فتتحول الكتب والمراجع إلى غذاء روحي وفكري ويومي يعيشه الناس ويتواصلون من خلاله، في عملية بناء جسور بين الماضي والحاضر، وتمتد إلى المستقبل الذي بدأت ملامحه تضيع منا، وقد أسهمت الطباعة في تعريف العالم بعطاء الثقافة والفكر العربي على مدى العصور”.

المطبوعة واشتعال الحرب الباردة

وكشف الباحث أحمد جلال بسيوني ـ كلية الآداب، جامعة دمنهور ـ عن أن الكلمة المطبوعة كان لها دورًا بارزًا في الجانب الإعلامي. على أهم النتائج التي ترتبت على انتهاء الحرب العالمية الثانية، ما عُرف باسم “الحرب الباردة”، وهي الحرب التي تناوب فيها المعسكران: الغربي بزعامة الولايات المتحدة، والشرقي بزعامة الاتحاد السوڤيتي الصراع للسيطرة على مقدرات العالم وشعوبه بصورة جديدة جدًّا في التاريخ، تجنب كلا الفريقين فيها “الحرب الساخنة”؛ لأنه في حالة اندلاعها ستكون كفيلة بتدمير العالم؛ ولذا فقد استبدل المعسكران الكبيران تلك “الحرب الساخنة” بـ “الحرب الباردة”.

وأضاف “كان المعسكران الكبيران متفقان ضمنًا على أنَّ التراشق بالكلمات أفضل بكثير من التراشق بالصواريخ النووية، فبعد أن كانت دعايات الكلمات المطبوعة سببًا في نشوب الحرب الساخنة في الماضي، أصبحت هي المبرر لهذا الإنفاق المهول على التسلح في كلا المعسكرين بدعوى الخوف من الآخر. ومن هنا فقد حاول كلا الطرفين التفنن والإبداع في توظيف الخطب، أو المقالات، أو التقارير لخدمة الأهداف السياسية والإستراتيجية، وبالتالي كان أحد الأشخاص من هذا الجانب أو ذاك يلقي بخطبة، أو يكتب مقالاً، سرعان ما تتلقفه الصحف وتنشره، ثم تقوم عليها الدراسات والأبحاث والندوات والمؤتمرات لتحليله، فيرد عليه الجانب المقابل بالمثل، فباتت هذه الكلمات إحدى أهم الأسباب التي اندلعت بسببها ما بات يعرف بالحرب الباردة”.

ميدل ايست أونلاين

محمد الحمامصي

Share This