الإبادة الأرمنية ومشروع القانون الفرنسي الجديد

آرا أشجيان

يعد إقرار الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان)  في الثاني عشر من تشرين الأول-أكتوبر 2006 لمشروع القانون حول تجريم الإنكار للإبادة الأرمنية لعام  1915 بأغلبية 106 أصوات مؤيدة ومعارضة 16 صوتا، يعد مكملاً للقانون الذي أصدرته فرنسا في كانون الثاني-يناير 2001 بالاعتراف بالإبادة الأرمنية، وانتصاراً لحقوق الإنسان والعدالة التاريخية بالإدانة والاعتراف بأول جريمة إبادة في القرن العشرين لرفع الظلم عن شعب عانى طويلاً من الإبادة والتشريد والإنكار لمآسيه.

وتكمن أهمية مشروع القانون الجديد الذي عرضه الحزب الاشتراكي الفرنسي على البرلمان، والذي ينص على الحكم بالسجن لمدة سنة وغرامة قيمتها 45 ألف يورو (نحو 56 ألف دولار) على من ينكر الإبادة الأرمنية[1]، والذي لا بد له أن يحصل على موافقة مجلس الشيوخ ومصادقة الرئيس الفرنسي ليدخل حيز التنفيذ،  تكمن في أنه يصدر لأول مرة  في العالم وفي دولة رئيسة من دول الإتحاد الأوروبي. ومن المتوقع أن يكون تبني مشروع القانون هذا سابقة في دول أوروبية أخرى اعترفت بالإبادة الأرمنية، وأن تؤدي إلى اعتراف دول أخرى بالإبادة الأرمنية.

ورحبت أرمينيا بقرار الجمعية الوطنية الفرنسية واعتبرته “رد فعل طبيعي للسياسة العدائية التي تنتهجها تركيا”. وقال وزير الخارجية لجمهورية أرمينيا فارتان اوسكانيان في بيان له: “إن إقرار الجمعية الوطنية الفرنسية لاقتراح القانون هذا هو استمرار طبيعي للدفاع المتواصل والمبدئي عن الحقوق والقيم الإنسانية والتاريخية من قبل فرنسا “. وأضاف: “إن هذا القرار هو رد فعل طبيعي على الإنكار المنهجي والعدواني والرسمي للإبادة الارمنية من جانب تركيا”.

أما وزارة الخارجية التركية، فقد أعلنت في بيان صادر عنها: “إن العلاقات التركية الفرنسية القديمة العهد تعرضت اليوم لضربة قاسية بسبب الخطوات غير المسؤولة من قبل بعض السياسيين الفرنسيين بموضوع ادعاءات لا أساس لها “[2]. والشيء الخطير في البيانات التركية هذه البيان الذي صدر عن البرلمان التركي الذي انعقد في 17 تشرين الأول-أكتوبر 2006 لمناقشة مشروع القانون الفرنسي الجديد، والذي شدد على “أن أرمينيا ستدفع <<ثمناً باهظاً>> لاستخدامها جماعات الضغط في فرنسا، وفي دول أخرى ضد تركيا، وان كان لم يذكر ما الذي سيحدث”[3]، على الرغم من عدم وجود أية صلة لأرمينيا بتبني مشروع القانون هذا الذي جاء بجهود الفرنسيين من الأصول الأرمنية، وقد قدمه الاشتراكيون الفرنسيون الى الجمعية الوطنية. وقال وزير الخارجية التركي عبد الله جول خلال اجتماع البرلمان التركي: “نأمل في أن يقف مشروع القانون في منتصف الطريق وان يعود الفرنسيون الى رشدهم”[4] !!

وادعت تركيا أيضا أن مشروع القرار هذا يضر بحرية الرأي والتعبير، متناسية أن المادة (301) من قانون العقوبات التركي يجرم كل من يعترف بالإبادة الأرمنية بدعوى اهانة الأمة التركية. وقد تمت، بموجب هذه المادة، محاكمة كتاب ومثقفين أتراك بارزين، لعل أبرزهم هو الروائي التركي اورهان باموك الحائز على جائزة نوبل في الآداب لعام 2006، والذي اعترف بمقتل مليون أرمني و30 ألف كردي في تركيا. وقد مُنح باموك الجائزة في اليوم ذاته الذي تم فيه تبني مشروع القانون من قبل الجمعية الوطنية الفرنسية.

وسيضع مشروع القانون الفرنسي الجديد، بعد إقراره بشكل نهائي، حداً لسياسة الإنكار للإبادة الأرمنية التي تمارسها الدولة التركية خارج تركيا عن طريق دبلوماسييها وسياسييها ومرتزقتها، غير مكتفية بممارسة هذه السياسة داخل تركيا تحت طائل العقوبة بموجب المادة 301 من قانون العقوبات التركي.

إن إنكار الإبادة، بوصفها جريمة بحق الإنسانية، والتستر عليها أو تسويغها يجعل من الشخص أو الأشخاص القائمين بذلك شركاء في الجريمة بحسب العرف الإنساني والقانوني.

إن مشروع القانون الفرنسي الجديد هو انتصار مهم تحققه قضية الاعتراف الدولي بالإبادة الأرمنية التي تصاعدت وتيرتها منذ العام 2005، مع إحياء الذكرى السنوية التسعين للإبادة الأرمنية في ظل تزايد عدد الدول والهيئات الدولية المعترفة بالإبادة الأرمنية، والذي شهد أيضاً اعتراف البرلمان الألماني بالإبادة الأرمنية وحثها لتركيا على تفحّص دورها في مقتل ما يقارب المليون شخص من الأرمن عام 1915[5]. وألمانيا هي الدولة الرئيسة الأخرى في الاتحاد الأوروبي، إلى جانب فرنسا، وهي أكبر الداعمين لدخول تركيا الى الاتحاد الأوروبي، وكانت حليفة للدولة العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى وارتكاب مجازر الإبادة الأرمنية.

وتزداد عزلة تركيا يوماً بعد آخر في قضية إنكار الإبادة الأرمنية على الصعيد الخارجي. أما على الصعيد الداخلي، فقد بدأ مثقفون وكتاب أتراك بالتحدث علناً عن هذه المسألة بعد أن كانت من المحرمات في السابق. وجل ما تخشاه تركيا في مسألة الإبادة الأرمنية وتحاول توجيه وسائل الدعاية تجاهه هو الرأي العام في تركيا[6] والأتراك في الخارج[7]، والذي سيؤثر فيهم حتماً مشروع القرار الفرنسي الأخير كما أثر القانون الفرنسي لعام 2001 بالاعتراف بشكل علني بالإبادة الأرمنية. ويتوقع أن يكون دور الرأي العام التركي حاسماً في مجال الاعتراف الرسمي التركي بالإبادة الأرمنية الذي لا ينتظر أن يكون في المستقبل القريب[8]، لكن أسس هذا الاعتراف بدأت تتشكل في المجتمع التركي نفسه.

وفي أعقاب التصويت على مشروع القانون الفرنسي الحديد من قبل الجمعية الوطنية الفرنسية، قرأت عبر شبكة الانترنت عدداً من المواقف لمسؤولين أوروبيين، فضلاً عن كتابات لصحافيين وكتاب أوروبيين وعرب، تظهر، وللأسف، عدم تفهم عميق لقضية الإبادة الأرمنية وتطوراتها في العالم، لا سيما في فرنسا. فالأرمن في هذا البلد حققوا النجاحات في مجال الاعتراف بالقضية الأرمنية بعد كفاح مرير دام لسنوات طويلة عانوا خلالها من الكثير من الإخفاقات التي كانت تعود بالأساس إلى موقع تركيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وعدم رغبة السياسيين الفرنسيين في التأثير في المصالح السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تربطهم بها. وقد بدأت أولى النجاحات تلوح في الأفق قبل نحو ثلاثة عقود، وفي كل مرحلة كان الأرمن يحققون النجاحات فيها، كان بعض الكتاب والصحافيين يتساءلون عن جدواها في ظل مرحلتها وظروفها !! ألا تكفي للشعب الأرمني معاناته من الإبادة منذ عام 1915، والتي تضاف إليها محنة إنكارها أو تسويغها ؟! (سأتطرق لاحقاًً إلى تطورات الاعتراف بالإبادة الأرمنية في فرنسا خلال العقود الثلاثة الأخيرة).

ولم يمتلك أي من رجال الدولة والصحافيين الذين انتقدوا مشروع القانون الفرنسي، بضمنهم مسؤولو الاتحاد الأوروبي الموالون للأتراك، الشجاعة والنزاهة للاعتراف بحقيقتين أساسيتين، هي: أن فرنسا وعدداً من الدول الأوربية قد منعت منذ سنوات إنكار المحرقة اليهودية (الهولوكوست)، وأن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان قد قضت مراراً بأن مثل هذا المنع لا يعد انتهاكاً لحرية التعبير، ولا يمتلك هؤلاء الشجاعة الكافية لانتقاد قانون مشابه أقر في فرنسا في العام 1990 يمنع إنكار المحرقة اليهودية (الهولوكوست)[9].

ورأى بعض الكتاب الأوروبيين والعرب أن مشروع القانون الفرنسي الجديد يهدف إلى منع عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، وكسب أصوات الناخبين الأرمن في الانتخابات الفرنسية المقبلة.

والحقيقة، أن أول الاعترافات بالإبادة الأرمنية قي فرنسا بدأت، وكما ذكرت آنفاً، قبل نحو ثلاثة عقود ولا تمت بصلة إلى مسألة عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي. وإن أراد المسؤولون الفرنسيون والأوربيون إيقاف مفاوضات العضوية، فهناك أسباب كثيرة لذلك، عدا قضية الإبادة الأرمنية وحصار أرمينيا، منها قضايا حقوق الإنسان والأقليات قي تركيا واحتلال قبرص وقضايا أخرى راهنة، وهم كانوا سيلجأون أساساً إلى عدم فتح الباب لهذه المفاوضات، وما من طرف دولي يجبرهم على ذلك. ويصرح هؤلاء المسؤولون مراراً بأن تركيا هي في حاجة إلى الاتحاد الأوروبي، وليس العكس.

وقالت مفوضة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي بينيتا فيريرو فالدنر أن مشروع القانون الفرنسي هذا لن يؤثر قي فرص انضمام تركيا للاتحاد[10]. كما صرح رئيس المفوضية الأوروبية جوزيه مانويل دوراو باروزو بأنه لا يمكن توقع انضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي قبل 15 أو 20 سنة، في وقت عبر باروزو فيه عن قلق أعضاء الاتحاد الأوروبي من بطء الإصلاحات في تركيا. وقال باروزو: “إننا قلقون بالنسبة الى الوضع في تركيا لأن وتيرة الإصلاحات بطيئة جداً”، مضيفاً: “اعتقد انه سيكون من الجيد أن تنضم تركيا الى الاتحاد إذا احترمت كل المعايير الاقتصادية والسياسية”، مؤكداً: “هذا لم يتحقق بعد”[11]، مما يعني عدم تأثير مشروع القانون الفرنسي في انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.

كما أكد وزير الخارجية الفنلندي اريكي تيوميويا الذي تترأس بلاده الدورة الحالية للاتحاد الاوروبي أن مشروع القانون الفرنسي شأن فرنسي داخلي وان الاتحاد الأوروبي لا دخل له فيه. وقال الوزير الفنلندي بعد استقباله لوزير الخارجية التركي عبد الله غول في لوكسمبورغ إن لا دخل للاتحاد الأوروبي في هذا القانون وانه لن يؤثر سلبا أو إيجابا على مسار المفاوضات الجارية مع أنقرة حول انضمامها الى الاتحاد. وأكد تيوميويا أن هذا القانون لا يمثل شرطا جديدا لحصول تركيا على العضوية الأوروبية الكاملة.

وأعلن مفوض شؤون التوسيع (في الاتحاد الأوروبي) أولي رهين أن ملف قبرص يمثل احد أهم الملفات في انضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي، وان إصرار أنقرة على عدم الاعتراف بالشطر اليوناني من الجزيرة يمثل عائقا حقيقيا أمام مفاوضات الانضمام[12]. ولم يتطرق رهين الى مسألة الإبادة الأرمنية ومشروغ القانون الفرنسي كعائق أمام مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.

وكان الاتحاد الأوروبي قد حذر من تمرير القانون قائلا إنه قد يمنع الحوار الضروري للتوصل لمصالحة بين تركيا وأرمينيا حول هذه المسألة[13]، ومرة أخرى، لم يتم التحدث عن تأثير مشروع القانون في مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.

أما حجة بعض الكتاب والمحللين السياسيين بأن تبني مشروع القانون جاء لكسب أصوات الأرمن الفرنسيين (400 ألف نسمة)، فهي الأخرى غير منطقية. فالأرمن الفرنسيون يشكلون نسبة ضئيلة من مجموع سكان فرنسا (نحو 60 مليون نسمة عام 2002). وفي إمكان رجال السياسة الفرنسيين إثارة قضايا أخرى تهم الفئات والجاليات الأخرى كثيرة العدد في المجتمع الفرنسي لكسب أصواتها في الانتخابات العامة. فهل من الحكمة السياسية الإضرار بمصالح إستراتيجية وسياسية وفي الوقت الذي وصلت فيه الواردات التركية من فرنسا إلى 5.9 مليار دولار في عام 2005 من أجل كسب أصوات نسبة ضئيلة من مجموع سكان فرنسا تزيد قليلاً على النصف في المائة ؟!

كما أن مشروع القانون الفرنسي الجديد طرح من قبل الاشتراكيين الفرنسيين الذين كان لهم دور كبير في إنجاح التصويت عليه، وهو نابع من مواقف مبدئية التزموا بها طوال ربع قرن[14].

وكتب بعض الكتاب العرب مقالات في الصحف العربية رأوا فيها تبني مشروع القانون الفرنسي الجديد في إطار الصراع بين المسيحية والإسلام في العالم اليوم، وهي بعيدة كل البعد عن هذا الإطار، ورأوا مشروع القانون هذا موجهاً ضد تركيا “المسلمة”. وهنا نذكٍّر أن مجازر الإبادة الأرمنية ارتكبها حكام الدولة العثمانية من أعضاء حزب الاتحاد والترقي اليهود والماسون الذين حاربوا أيضاً العرب والمسلمين ورفعوا شعار (عرب خاين .. أرمن كافر)، وارتكب جمال باشا السفاح أبشع الجرائم بحق الوطنيين العرب في بلاد الشام. وقد شارك في جهود التستر على الإبادة الأرمنية وإنكارها طوال السنوات الماضية، الى جانب الأوروبيين حفاظاً على مصالحهم مع تركيا، اليهود والصهاينة في العالم، وذلك للحفاظ على “الموقع الفريد” للمحرقة اليهودية (الهولوكوست) التي ارتكبت من قبل النازيين الألمان أثناء الحرب العالمية الثانية، إزاء الإبادة الأرمنية التي سبقتها بثلاثة عقود، وبسبب العلاقات التركية-(الاسرائيلية) الوثيقة.

وتركيا “المسلمة” اليوم تغتصب لواء الاسكندرونة السوري ولا تعترف بمحافظة الموصل جزءاً من العراق، وتلجأ الى بناء السدود الضخمة على نهر الفرات وتقطع مياهه عن سوريا والعراق، منتهكة الاتفاقيات الدولية في هذا المجال، وهي في تحالف استراتيجي مع (إسرائيل)، وتستعين باللوبي اليهودي في الولايات المتحدة لإعاقة تبني قرار بالاعتراف بالإبادة الأرمنية من قبل الكونغرس الأميركي. وندعو كتاب المقالات هؤلاء، بدلاً من نقل مواقف جهات وكتاب أوروبيين غير محايدين، الى الرؤية والتقويم الصحيح للأمور ودعم كفاح الأرمن العادل ضد جبهة الامبريالية والصهيونية والطورانية. فالعرب يرتبطون بعلاقات تاريخية مع الأرمن، وقد حافظوا على الناجين من مجازر الإبادة الأرمنية ووفروا لهم المأوى وفرص العمل والعيش الكريم. ويحفظ الأرمن في العالم هذا الجميل للأشقاء العرب أبد الدهر.

وتتواجد أرمينيا في خندق واحد مع الدول العربية في مواجهة التحالف التركي-(الإسرائيلي) الموجه ضدها. فبدلاً من أن يقف هؤلاء الكتاب الى جانب تحقيق العدالة التاريخية، والاستفادة من خبرة الأرمن في كسب هذه النجاحات، يلجأون الى مهاجمتها أو إلقاء ظلال من الشك على الإبادة الأرمنية، داعمين بذلك جهود أجهزة الدعاية الرسمية التركية في إنكار الإبادة الأرمنية أو تسويغها. واتهم هؤلاء الكتاب أيضاً البرلمان الفرنسي بالانتقائية وعدم تبني مشاريع قوانين مماثلة تخص العرب والمسلمين.

ونحن، وفي الوقت الذي ندين فيه جميع الجرائم المرتكبة، أياً كان معتقد أو جنسية الضحية أو الجلاد، ندعو الجالية العربية والمسلمة (4 ملايين نسمة) الى العمل من أجل قضاياها العادلة. فلا نتوقع من الجمعية الوطنية أو مجلس الشيوخ الفرنسيين أن يقوما بذلك بالنيابة، وصوت الرأي العام في فرنسا والدول الأوروبية الديمقراطية مؤثر ومسموع.

ويقوٍّم الصحفي التركي البارز محمد علي بيراند في مقالة له في صحيفة (بوسطة) التركية في 4 أيار-مايس 2005 نشاط الأرمن في المهجر، قائلاً:

“يعمل الأرمن في المهجر بكل جد ونشاط. ولكن لماذا ؟ إن الأرمن في المهجر يعملون من أجل القضية التي يؤمنون بها سواء قبلنا ذلك أو لم نقبله، وجدناه على حق أو لم نجده، كانت هي حقيقة أو كذبة. من ناحيته، يقوم المهجر الأرمني بعمل مؤثر، وهو ناجح إلى أقصى حد”.

وأضاف بيراند: “ولكن ما مصدر هذا النجاح؟ أنهم يعملون كخلية نحل، لا يتركون باباً إلا وطرقوه، وهم منظمون بشكل جيد، ولا يتشاجرون مع بعضهم البعض. وحتى إن تشاجروا، فأن ذلك لا يقف عائقاً أمام عملهم الآخر. ترى أحدهم يبادر، فيتبرع بمبلغ 20 مليون دولار لإقامة نصب تذكاري، في حين يتبرع آخر بمبلغ 50 مليون دولار لتصوير فيلم سينمائي. ويعرف الأرمن في المهجر كيف يضغطون على برلمانات الدول وينجحون في النهاية في جعلها تتبنى القرارات التي ينتظرونها..”.

ويتطرق بيراند إلى نشاط المهجر التركي، فيقول: “أما نحن، فماذا نفعل؟ نحن أيضاً نملك المهجر، إذ يقطن الملايين من الأتراك خارج تركيا، وأن المهجر التركي هو، بلا شك، أكثر ثراء من المهجر الأرمني بكثير، إلا أننا لا نمد أيدينا إلى جيوبنا، ولا ننتظم في عملنا، ولا نبدي نشاطاً مؤثراً. إن العمل الأكثر نجاحاً الذي نؤديه هو الشكوى. إننا نشكو من الحكومة، ومن الأرمن، ومن العالم الغربي”.

ويختتم بيراند ملاحظاته للأتراك بالقول: “الآن ابدءوا محاسبة أنفسكم واطرحوا السؤال الآتي: ماذا فعلنا حتى الآن أكثر من مجرد انتظار كل شيء من الدولة. وما عدا البعض، لم نتمكن من إبداء أي عون لها. وإذا كان الأمر كذلك، التزموا الصمت وتحملوا هذا الألم. ولكن إن كانت لكم بحق النية، مدوا أيديكم إلى جيوبكم وابدءوا العمل وتوقفوا عن العادة المستديمة للشكوى من الدولة والأرمن والأجانب”[15].

وكان وزير الداخلية الفرنسي نيكولا ساركوزي قد وضع أمام تركيا ثلاثة شروط لتحاشي التصويت على مشروع القانون. وخلال حديث هاتفي أجراه ساركوزي مع رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان، قال: “إن الشرط الأول هو أن يصار الى إنشاء لجنة ثنائية بين أرمينيا وتركيا تتمتع بالتمثيل المتساوي للبدء بعملية الاعتراف بالتاريخ. والشرط الثاني هو أن تفتح تركيا حدودها المغلقة مع أرمينيا. وثالثا أن تلغي تركيا قانون العقوبات الذي يمنع التحدث عن الإبادة” (في إشارة الى المادة 301 من قانون العقوبات التركي). وأضاف ساركوزي إن انضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي ليس مضمونا حتى وان قبلت الاعتراف بإبادة الأرمن” ، مشيرا الى أن “هذا ليس شرطا مسبقا لدخول أوروبا، لان  اعتراف أي دولة بماضيها، كما فعلت ألمانيا، هو اقل ما يمكن أن تفعله لتدخل الى أوروبا”[16]. وكان الرئيس الفرنسي جاك شيراك قد قام بزيارة رسمية هي الأولى لرئيس فرنسي الى أرمينيا في أيلول-سبتمبر 2006 دعا خلالها تركيا الى التأمل في ماضيها والإقرار بإبادة الأرمن قبل انضمامها الى الاتحاد الأوروبي.[17]

وتأتي دعوة الرئيس الفرنسي هذه لتركيا لتتصالح مع ماضيها، وليست، كما اعتبرها البعض، شرطاً جديداً تضعه فرنسا (أو الإتحاد الأوروبي) أمام انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي. وقد ناقض هذا البعض نفسه بعد إقرار الجمعية الوطنية الفرنسية لمشروع القانون حول تجريم الإنكار للإبادة الأرمنية لعام  1915 عندما قال أن الرئيس شيراك (يعارض) مشروع القانون هذا ولن يصادق عليه. فكيف تتوافق دعوة الرئيس الفرنسي لتركيا بالاعتراف بابادة الأرمن، وهو يضع “شرطاً” جديداً لمنع انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي بحسب هؤلاء، مع (معارضة) شيراك لمشروع القانون هذا الذي من المفترض أن يعزز “الشرط” الجديد الذي وضعه ويعيق انضمام تركيا للاتحاد ؟!

كما أظهرت تعليقات بعض المسؤولين الأوروبيين والأميركيين جهلاً بالدستور الفرنسي، إذ “يتأمل” هؤلاء في عدم قيام مجلس الشيوخ أو الرئيس الفرنسي بتبني مشروع القانون. فبموجب هذا الدستور، يتمتع كل من مجلس الشيوخ والجمعية الوطنية بسلطة تشريعية متساوية, وبإمكان مجلس الشيوخِ تأخير وليس منع إقرار التشريعِ. وإذا اختلف المجلسان على مشروع قانون معين، يترك اتخاذ القرار النهائي للجمعية الوطنية التي يمكن أن تقبل النص المعدل لمجلس الشيوخ، أو أن تقوم، بعد فترة محددة، بإقرار نص آخر. وهو ما يذكرنا بالقانون الفرنسي بالاعتراف بالإبادة الأرمنية الذي أقر عام 2001، واستغرق إقراره أكثر من سنتين ونصف السنة، كما سأبين لاحقاً.

وإذا كانت هناك نية بعدم تمرير مشروع القانون، لكان من الأفضل مشاركة جميع نواب الجمعية الوطنية وعددهم 577 في التصويت، بضمنهم نواب الحزب الحاكم، وإفشال تبني مشروع القانون من قبل الجمعية الوطنية، بدلاً من تبنيها وجعل إعاقتها صعبة لاحقاً.

تطورات الاعتراف بالإبادة الأرمنية في فرنسا

في 11 شباط-فبراير 1973، تم افتتاح نصب الإبادة الأرمنية في مدينة مارسيليا الفرنسية. واحتجاجاً على حضور الوزير الفرنسي (جوزيف كوميتي) لحفل الافتتاح، استدعت تركيا سفيرها لدى باريس الى أنقرة[18].

وفي عام 1979، أعطى عًمدة باريس آنذاك جاك شيراك (رئيس الجمهورية حالياً) موافقته على بناء صرح تذكاري في العاصمة الفرنسية يخلد ذكرى الضحايا الأرمن عام 1915 في ساحة تقع على مقربة من مقر الكنيسة الأرمنية في باريس[19]. وفي 13 كانون الأول-ديسمبر 1980، أفتتح في مدينة مارسيليا الشارع المسمى (24 نيسان-أبريل 1915)، بعد أن تم افتتاح شوارع تحمل الاسم ذاته في مدن فرنسية عديدة مثل فيين، وديسين وغيرها.

وقبيل انتخابه رئيساً للجمهورية، صرح فرانسوا ميتران أن فرنسا تعنى بشكل مباشر بالقضية الأرمنية، منتقداً حكومة الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان، بسبب “عدم الاعتراف بمجازر الإبادة الأرمنية والقضية الأرمنية”، قائلاً:

“ينبغي علينا، كاشتراكيين، المطالبة باعتراف فرنسا بمجازر الإبادة الأرمنية لعام 1915، والعمل من أجل حل هذه القضية بشكل عادل”. وفي نيسان-أبريل 1981، زار ميتران النصب التذكاري للإبادة الأرمنية في مدينة مارسيليا[20]. وتوترت العلاقات التركية-الفرنسية بشكل أكبر في نيسان-أبريل 1981، عندما أعلن وزير الداخلية الفرنسي كاستون ديفير خلال حفل أقيم في مدينة مارسيليا لمناسبة ذكرى الإبادة الأرمنية: “إن الحكومة الفرنسية تعترف بالإبادة التي راح الأرمن ضحيتها”[21].

من جهته، أعلن وزير الدفاع شارل ايرنو في مدينة ليون في 24 نيسان-أبريل 1981: “إن الاعتراف بالإبادة الأرمنية واجب لا ينبغي تأجيله، وخطوة في اتجاه السلام، وفعل من أجل تحقيق العدالة لسبعة ملايين أرمني في العالم”. وذكّر ايرنو الحزب الاشتراكي والرئيس ميتران بضرورة تنفيذ الوعود التي أعطيت للفرنسيين من أصول أرمنية بمتابعة القضية الأرمنية”[22]. وأدى هذا الإعلان الى هرج ومرج كبيرين في الصحف التركية، واستدعى وزير الخارجية التركي سفير فرنسا لدى أنقرة، وساءت العلاقات بين البلدين الى حد كبير.

وفي 18 أيلول-سبتمبر 1981، نقلت صحيفة (اللوموند) الفرنسية نص التصريح لوزير العلاقات الخارجية الفرنسي كلود شيسون الذي قال فيه: “إن الحكومة (الفرنسية) لا تشاطر موقف السلطات التركية اليوم بأن أحداث عام 1915 لم تكن عملية إبادة للسكان الأرمن في الأناضول الشرقية، بل إخماد لحركة تمرد ترافقت مع هجوم الجيش الروسي”. وأعرب شيسون في 18 تشرين الثاني-نوفمبر 1981 في صحيفة (الفيغارو) عن أسفه، لأن أنقرة تستمر بإنكار واقع إبادة الأرمن [23].

ودعا وزير الدفاع شارل ايرنو الى الاعتراف بالإبادة الأرمنية من قبل الأتراك أنفسهم في المرتبة الأولى، حسب ما نقلته صحيفة (اللوفيغارو) في 11 كانون الأول-ديسمبر 1981[24].

ولرد الهجوم الذي شنته الصحف التركية، كتبت (باري ماتش) في 4 تشرين الثاني-نوفمبر 1981 أنه كان يقطن في تركيا في عام 1917 مليونان و400 ألف أرمني، بقي منهم 65 ألفاً فقط في عام 1927. وبعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب وقيام <<الدكتاتورية العلمانية>> الكمالية، تم إكمال مخطط <<تسكين الأرمن>>.. وفي الواقع، تم محو أرمينيا التركية من الخارطة الجغرافية”[25].

وفي 7 كانون الثاني-يناير 1984، شجب الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران في مدينة فيين جريمة الإبادة المرتكبة بحق الأرمن، وهي، بحسب وصفه، حقيقة تاريخية لا تقبل الجدل[26].

وفي 29 أيار-مايس 1998، وافقت الجمعية الوطنية الفرنسية بالإجماع على مشروع قانون تقدم به الاشتراكيون يؤكد أن فرنسا تعترف بشكل علني بحصول عملية إبادة للأرمن[27]. وفي 8 تشرين الثاني-نوفمبر 2000، تبنى مجلس الشيوخ الفرنسي مشروع القانون بـ (164) صوتاً مقابل (40) وامتناع (4) عن التصويت[28].

وفي 18 كانون الثاني-يناير 2001، وافقت الجمعية الوطنية الفرنسية، وبالإجماع كما كان متوقعاً، برغم الضغوط والتحذيرات الرسمية التركية، على مشروع القانون. وأصبح مشروع القانون ساري المفعول، بعد أن وقعه الرئيس جاك شيراك في 29 كانون الثاني-يناير 2001، ونشر في اليوم التالي في الجريدة الرسمية. ويتضمن القانون، المنبثق من اقتراح برلماني، مادة واحدة تنص على أن فرنسا تعترف بشكل علني بإبادة الأرمن عام 1915، من دون الإشارة الى أن الأتراك مسؤولون عن المذابح التي وقعت في ظل الإمبراطورية العثمانية، ومثّل نشر القانون في الجريدة الرسمية المرحلة الأخيرة في عملية برلمانية استغرقت عامين ونصف العام لاعتراف فرنسا بإبادة الأرمن في عام 1915[29].

وقال رئيس الحكومة التركية بلند اجويد، في معرض رده على مصادقة الرئيس الفرنسي شيراك على القانون الجديد: إن حكومته ستعيد النظر مرة أخرى في علاقاتها بفرنسا. من ناحية أخرى، دانت تركيا قراراً أصدرته بلدية العاصمة الفرنسية بتشييد نصب تذكاري يخلد الضحايا الأرمن. وعبرت وزارة الخارجية التركية عن “أسفها” لقرار البلدية الذي وصفته بأنه “خاطئ”، وقالت: إن هذا القرار يعتبر صفعة جديدة للعلاقات بين البلدين. وكان عمدة باريس جان تيبيري قد قال: إن النصب سيكون على شكل تمثال للراهب والمؤلف الموسيقي الأرمني كوميتاس الذي عاش مذابح الأرمن ومات في فرنسا عام 1935، وقُرر أن يدشن النصب في العام 2002[30].

وبهذا تلقت تركيا في يوم 30 كانون الثاني-يناير 2001 صفعة مزدوجة من صفعات حركة الدفاع عن القضية الأرمنية، حينما أُقرّ التشريع الفرنسي في شأن الإبادة الأرمنية، واتخذت بلدية باريس قراراً بتشييد النصب التذكاري لضحايا الأرمن.

[1] وهي العقوبات نفسها المفروضة على من ينفي قيام النازيين بإبادة اليهود إبان الحرب العالمية الثانية.

[2] http://www.ancme.org/ArticleD.aspx?id=280

[3] http://arabic.rnw.nl/data/2006/news/1710200656.htm

[4] Ibid.

[5] اقرأ مقالتي تحت عنوان: البرلمان الألماني يدعو الحكومة التركية للتحقيق في الإبادة الأرمنية.

http://ara-ashjian.blogspot.com/2006/03/blog-post_114373693031769326.html#links

[6] اقرأ مقالتي تحت عنوان: المجتمع التركي والإبادة الأرمنية.

http://ara-ashjian.blogspot.com/2006/05/1.html#links

[7] اقرأ مقالتي تحت عنوان: خبر وتعليق..غول: نحن نعمل من أجل كشف الحقيقة في شأن الإبادة الأرمنية المزعومة.

http://ara-ashjian.blogspot.com/2006/03/blog-post_19.html

[8] اقرأ مقالتي تحت عنوان: متى ستعترف تركيا بالإبادة الأرمنية؟!

http://ara-ashjian.blogspot.com/2006/03/blog-post_114277053617981759.html

[9] http://www.collectifvan.org/article.php?r=4&&id=4873

[10] www.alhurra.com/NewsArticleDetails.aspx?ID=1031408

[11] http://www.asharqalawsat.com/details.asp?section=4&issue=10184&article=387593

[12] http://us.moheet.com/asp/show_g.asp?pg=12&lc=335&lol=1844002

[13] http://news.bbc.co.uk/hi/arabic/world_news/newsid_6053000/6053820.stm

إن إعلان عدد من السياسيين الأتراك وبعض المسؤولين في الإتحاد الأوروبي بأن تبني مشروع القانون الفرنسي الذي يمنع الإنكار للإبادة الأرمنية سوف يمنع المصالحة بين تركيا وأرمينيا يدخل ضمن الأساليب (أو التكتيكات) التي يستخدمها ناكرو الإبادة. وقد أورد البروفسور غريغوري ستانتون رئيس منظمة (Genocide Watch) اثنتي عشرة طريقة لإنكار الإبادة في دارفور بالسودان، وهي تنطبق على جميع حالات الإبادة. وهذه الأساليب، هي: 1. التشكيك في الإحصائيات وتقليلها 2. مهاجمة دوافع الاهتمام لمخبري الحقيقة 3. الادعاء بأن الوفيات كانت غير مقصودة 4. التأكيد على كون الضحايا غرباء 5. تسويغ الوفيات بأنها ناتجة عن الصراع القبلي 6. إلقاء اللوم على “القوى الواقعة خارج نطاق السيطرة” في ارتكاب أعمال القتل 7. تجنب استعداء مرتكبي الإبادة الذين يمكن أن يتركوا ساخطين “عملية السلام” 8. تسويغ الإنكار بوجود المصالح الاقتصادية الحالية 9. الادعاء بأن الضحايا يتلقون معاملة طيبة 10. الادعاء بأن ما يجري لا يتفق مع تعريف الإبادة 11. إلقاء اللوم على الضحايا 12. القول بأن السلام والمصالحة هما أكثر أهمية من إلقاء اللوم على الناس بارتكاب الإبادة. راجع:

http://www.genocidewatch.org/SudanTwelveWaysToDenyAGenocidebyGregStanton.htm

[14] سأبين ذلك لاحقاً عند الحديث عن تطورات الاعتراف بالإبادة الأرمنية في فرنسا.

[15] اقرأ مقالتي تحت عنوان: “مقالة وتعليق- الصحفي التركي البارز بيراند يقوّم نشاط المهجر الأرمني-بيراند: نحن لا نعرف كيف نمد أيدينا إلى جيوبنا”.

http://ara-ashjian.blogspot.com/2006/10/blog-post_31.html#links

[16] يدعم هذا ما ذهبت إليه آنفاً حول عدم وجود صلة بين تبني مشروع القانون الفرنسي الجديد ومفاوضات الانضمام للاتحاد الأوروبي.

[17] http://www.ancme.org/ArticleD.aspx?id=280

[18] زافين مسرليان، في شأن المسألة الأرمنية، بيروت، 1978، ص 111(باللغة الأرمنية).

[19] ج. كيراكوسيان، الأتر

Share This