حقيقة أردوغان

د. عبد الحميد سلوم

عندما تولى الأكاديمي أحمد داوود أوغلو في أيار 2009 حقيبة الخارجية التركية خلفاً لمواطنه علي باباجان وصفه دبلوماسي تركي “عتيق” بأنه الرجل القادر على “تعبئة النبيذ القديم في زجاجات جديدة” .. فأحمد داوود أوغلو سبق وأكد في كتابه (العمق الاستراتيجي Strategic Depth ) الصادر عام 2001 أن تركيا قد أصبحت بلداً مفتاحاً في المنطقة وأنها خدمت كقاعدة متقدمة لحلف الناتو خلال الحرب الباردة واستخدامها اليوم لموقعها الجيواستراتيجي والجيوبولتيكي وخاصة في الشرق الأوسط سوف يجعل منها لاعباً عالمياً !! إذا تركيا بمعنى أخرا تبحث عن دور لها بعد الحرب الباردة وهو يقترح السبل للعب هذا الدور !!!

هذه النظرية تُناقض النظرة القديمة التي سادت لزمن لدى الساسة الأتراك الذين إعتبروا موقع تركيا الجغرافي وتاريخها هما المشكلة الكبرى ، ولكن ربما من يقولون حاليا : أننا نعيش في أضعف جزء من العالم مُحَاصَرين دوما بكافة أشكال الصراعات ، غير أننا نرى اليوم موقعنا الإستراتيجي حسابا استراتيجيا !!! وفي حفل تنصيبه كوزير للخارجية التركية صرّح أوغلو: أن السياسة الخارجية لتركيا قد تغيرت من (التوجه نحو الأزمة Crisis-Oriented) إلى الرؤية ( Vision) وأن لدى تركيا حالياً (رؤية سياسة خارجية أقوى ) إزاء الشرق الأوسط والبلقان ومنطقة جنوب القوقاز وهي لم لم تعد تكتفي برد الفعل على الأزمات وإنما لَحظِها قبل اندلاعها والتدخل !!! .

نظرية “العمق الاستراتيجي” لدى داوود أوغلو تقوم على أساسين :الموقع الجيواستراتيجي،والعمق التاريخي .. ويعتقد أوغلو أن تركيا تتمتع بالعاملين ..فموقعها يؤهلها للتأثير في المناطق الجيوــــــ بولتيكية ، وإرثها العثماني يؤهلها ايضاً لتكون إسلاميا القوة الاقلمية !! ويعتقد داوود أوغلو أن تركيا لايجب ان تعتمد على لاعب واحد وإنما عليها أن تبحث حثيثاً عن سبل لتوازن علاقاتها وتحالفاتها حتى تتمكن من المحافظة على استقلالها وتُشَكِّل ثقلاً على المسرح الاقليمي والعالمي وهذا مايتطلب من تركيا (تصفير) خلافاتها مع محيطها الاقليمي وإيجاد حلول وتسويات لكل ذلك ، واستعار تعبير مايعرف (خيار الصفر Zero Option) وإطلاقه على هذه الحالة وهو التعبير أو الإسم الذي سبق وأُطلِقَ على الإقتراح الأمريكي في أوائل عهد الرئيس ريغان عام 1981 والقاضي بسحب كافة الصواريخ النووية المتوسطة المدى (السوفيتية والأمريكية) من أوروبا ، ومن ثم تَوَسّع هذا المصطلح (خيار الصفر) ليشمل فكرة إزالة الأسلحة النووية في كل مكان ،، ولكن وكما يُقال في المثل العامّي (حسابُ الحقل لم ينطبق على حساب البيدر) والتنظير في الكتب الأكاديمية والجامعية شيء والتطبيق الفعلي على أرض الواقع شيء آخر ، فأحمد داوود أوغلو استخدم (خيار الصفر) بمعنى أكاديمي وسياسي وليس بمعنى رقمي حسابي إلاأن هذا الخيار تحول إلى صفراً (بالمعنى السلبي والحساب الرقمي) أي سقط كلية على أرض الواقع وفي الممارسة الدبلوماسية والسياسة التركية في كل محيطها الاقليمي ولم يعد شيئاً ، جرَّاء التدخل التركي السلبي في هذا المحيط …

فتركيا أوغلو وأردوغان الطامحة لتسوية خلافاتها مع محيطها الاقليمي لم تكن بالأساس على استعداد للتنازل عن أي شيء يمس مصالح تركيا في كل محيطها الاقليمي وهي أرادات أن تُسَوّي هذه الخلافات على حساب الجيران الآخرين !! فليست على استعداد للتحدث حول اسكندرون السورية المغتصبة عام 1939 والتي أسموها (هاتاي) ولا عن (أرمينيا الغربية) التي كانت تشكل مع أرمينيا الشرقية (الحالية) بعد الحرب العالمية الثانية جمهورية أرمينيا الأولى واستولوا عليها في أيلول 1920 وأسموها (شرق الأناضول ) وتعادل ثلثي أراضي أرمينيا حاليا ، ولاتقديم أية تنازلات في قبرص أو في بحر إيجه أو لجيرانها في الشمال وفي البلقان ، فما معنى خيار الصفر بعقيدة داوود أوغلو ؟؟ إنه يعني ببساطة ترسيخ الوضع الحالي لتركيا مع كل محيطها الاقليمي والإعتراف لها رسميا بحدودها الحالية التي تضم ضمنها أراضي الغير ، ونزع الاعتراف من هذا المحيط بهذا الواقع وذلك كله لمصلحة تركيا مقابل أن تقبل تركيا فقط علاقة حسن الجوار بما يرتد عليها مكاسب اقتصادية وتجارية !!! أي كما يقال بالمثل العامي (من جيبو خجْلُّو) ومن ثم البحث لتركيا عن الدور المفقود بعد الحرب الباردة عندما كانت تُشَكل خط الدفاع الأول عن الناتو في مواجهة الشيوعية السوفيتية ..

خيار أوغلو هذا لايعني في جوهره سوى المكر والخبث والدهاء وعودة الهيمنة العثمانية الجديدة بلباس جديد ، وهذا إمتداد للتاريخ التركي المرير والذي تَبَدّل عبر التاريخ تحت أسماء متعددة من السلاجقة الأتراك وحتى العثمانيين الأتراك واليوم الأردوغانيين الأتراك تحت عنوان /العمق الإستراتيجي/ وكل ذلك حصل وما زال يحصل بإسم الإسلام ، وطبعا كان لا بد أيضا من بعض الإخراجات والمسرحيات كتلك التي شهدناها أحيانا إزاء الفلسطينيين وهذه ضرورة لكسب المصداقية أولا ، تماما كما فعلت قناة الجزيرة الفضائية في البداية لكسب المصداقية !! ورفع يافطة الشعارات البرَّاقة والجذَّابة !!!
فجوهر النوايا والأطماع والهيمنة التركية لم يتغير وما يتغير هو فقط الجِلد الخارجي !! وها نحن نشهد اليوم مرحلة جديدة وسعي تركي جديد للهيمنة على العالم العربي بإسم الديمقراطية وتحت ستار وخديعة الإنتماء الديني وتسخير القوى الدينية المعادية للفكر والتوجه القومي العربي (ضد أبناء دمها وجلدتها) كجسر لإعادة هذه الهيمنة ، في الوقت الذي يشتد به التركي تعصبا لبني قومه ويرفض أن يتقدم عامل الدين على حساب الرابط القومي مع أي من الشعوب التي تنتمي للطورانية التركية ، أي رابطة الأقوام التوركية الثقافية والعرقية ، وهي الرديف لرابطة العروبة لدى أمة العرب .. فهم يعيدون إنتاج التاريخ العثماني بقوالب وأوان جديدة للهيمنة على العرب ، تماما كما حصل في الماضي عندما استعمروا هذه الأمة اربعمائة عام باسم الدين ، ناهبين ثرواتها ومستغلين كفاءاتها وقاتلين أبنائها في حروبهم التوسعية ، ومُهَمِّشين العنصر العربي وساعين حتى للقضاء على اللغة العربية التي هي لغة القرآن الكريم وإحلال التركية مكانها والقتل على الهوية المذهبية وفرض كل أشكال الجهل والتخلف حتى باتت الى يومنا هذا كلمة (عِصْمَلّي) تُطلَق في مجتمعاتنا العربية على كل عقل جامد ومُتَيبس ومنغلق ومحدود ومتخلف …الخ والهدف الحقيقي لتركيا اليوم هو استثمار واستغلال هذا الوقت الضائع من تاريخ العرب والنفخ في الروح العثمانية التي فارقتها قبل حوالي قرن من الزمن بالتحالف بين الزعامة العربية في حينه وكل من فرنسا وبريطانيا ضد الأتراك .. والتركي يثأر اليوم بالتحالف مع الفرنسي والبريطاني والأمريكي ضد العرب إنطلاقا من مصالح متقاطعة ومتبادلة ومشتركة مبنية على قواعد جديدة مع هذه القوى الغربية وتقاسم الهيمنة والنفوذ والخيرات،، فالغرب بحاجة للدور التركي باسم الدين ضد ايران وفي المنطقة ، وتركيا بحاجة للغرب كي يقبلها كجزءٍ من العالم الغربي ويُوكِل لها دورا تلعبه بثوب جديد وجِلد جديد وتبادل المصالح والمنافع على حساب كل الشعوب العربية !! وعندما يقف احمد داوود أوغلو أمام نخبة من الكُتّاب الأتراك ليلة 8/10/2011 ويرمي بنفسه بقوة في الحضن الغربي ، لعَلّهُم يتلقفوه ، فيُصرّح أن تركيا جزءاً من المعسكر الغربي فإنما هو يؤكد كل ما سلف ذكره وأن تركيا مازالت جاهزة لتشارك هذا الغرب أطماعه الإستعمارية ،،

رغم أن هذا الغرب الذي عانى كثيرا من الأتراك عبر التاريخ لا يريد تركيا جزءاً منه وهذا ما أوضحه الرئيس الفرنسي ساركوزي بشدة لدى زيارته لأرمينيا في 7/10/2011 عندما قال إن تركيا لا تُعتبر جزءا من الإتحاد الأوروبي (أي من الغرب) مطالبا إياها بقوة أيضا للإقرار بماضيها والإعتراف بالمجزرة الأرمنية، مما خلق نوعا من التراشق الدبلوماسي بين الطرفين إذ ردّ كل من رئيس وزراء تركيا ووزير خارجيتها قائلا : أنه على فرنسا أن تواجه ماضيها الإستعماري قبل إعطاء الدروس للآخرين عن كيفية مواجهة التاريخ !!! وفي تعليق لأحدهم حول هذا التراشق قال : من المضحك ذلك فالطرفان يُشبهان من إشتَغَلتا بتلك \”الصنعة\” حتى شاب الرأس وعندما إختَلَفَتا بدأت كل منهما تتحدث عن عِفّتها مُتّهمة زميلتها بقلة الشرف !! فالطرفان تركيا وفرنسا ذات ماضي استعماري بغيض ، وقد خرَقَتَا مع بعض معاهدة (سيفر للسلام Sevres ) المُوَقِعَتان عليها في 10 آب 1920 وتم بموجبها تحديد حدود تركيا ثم بالتواطئ بينهما تم توسيع حدود تركيا غربا خرقا لتلك الإتفاقية وضم لواء اسكندرون وانطاكية السوريين بعد 19 عاما من تلك الإتفاقية أي عام 1939 !!! ولكن بالمقابل فهذا الغرب يقبل أن تكون تركيا قاعدة متقدمة له في وجه ايران ونصب الرادار الأطلسي المتعلق بالدرع الصاروخي في شرق أوروبا على أراضيها ولا يُمانع أن تلعبَ تركيا بإشرافه وضمنَ ما يرسمهُ لها على الساحة العربية فقط ، وتصريح أوغلو رسالة مفادها أن تركيا اليوم عادت لتلعب مع هذا الغرب الاستعماري دورا استعماريا جديدا بأساليب وطرق جديدة !!! هذا رغم أن استطلاعا أجراه (مركز أبحاث بيو) ومقره واشنطن خَلُص الى أن 17% فقط من الشعب التركي تعتقد أن مستقبل تركيا في أوروبا بينما رأت 25% أن مستقبلها هو في الشرق الأؤسط … وربما أن تركيا بهذه السياسة سَتَسْتَفِز الشرق ، ولن تكون جزءا من الغرب !!

ومن هنا يمكن القول أن “خيار الصفر” بالمعنى الذي طرحه داوود أوغلو قد سقط سياسيا ودبلوماسيا وإعلاميا وأكاديميا وأخلاقيا و أضحى صِفرا حسابيا بلا قيمة وذلك أمام إنبعاث المشاعر العثمانية القومية المتعصبة والطامعة والُمغَلّفة بلبوس الدين … وبدل أن تصبح الخلافات صفرا فقد إرتفعت حرارتها الى حد الغليان أحيانا ..

فلجهة العلاقة مع أرمينيا وقَّعت تركيا وأرمينيا في 10/10/2009 بروتوكولين في زيورخ برعاية سويسرا لتطبيع العلاقات وإقامة العلاقات الدبلوماسية إلا أن هذين البروتوكولين لم يشهدا النور ولم يتطبع شيء مع ارميينا ، بل ربما توترت الأمور أكثر !!!

وفي قبرص مازال كل شيء يراوح مكانه منذ احتلال قسمها الشمالي في تموز وآب 1974 ، بل أن التصعيد بلغ مرحلة جديدة مؤخراً عندما بدأت قبرص (الجنوب ) أعمال الحفريات لاستكشاف الغاز والنفط من شرق المتوسط بمساهمة شركات أمريكية وإسرائيلية ، فسارعت تركيا لتوقيع اتفاقية مع القسم الشمالي المحتل من قبرص للتنقيب المشترك عن المصادر الطبيعية (النفط والغاز) وزادت من بوارجها الحربية في شرق المتوسط !!.

أما مع اليونان فما زال النزاع قائماً حول السيادة على بحر إيجه ، ولم يتم حتى الآن التوصل إلى أي إتفاق حول تحديد المياه الاقليمية والمجال الجوي الوطني والمناطق الاقتصادية الخالصة والاستفادة من الجرف القاري ومناطق الطيران التي يجب الاعلام عنها مسبقاً وحالة الجزر اليونانية المنزوعة السلاح !!

وكذلك مع العراق مازالت القوات التركية تتوغل عشرات الكيلومترات خرقاً للسيادة بذريعة ملاحقة المتمردين الأكراد ولم تُعِر أي إهتمام لكل الإحتجاجات والشكاوى العراقية !!

ومع سورية وبعد أن وصلت العلاقات أوجها في فترةٍ ما وإلتَغَت حتى السمات بين البلدين فقد أدّى التدخل التركي السافر والمتحيّز بقوة في الشأن الداخلي السوري إلى تراجع تلك العلاقات وَبَدَت كأنها عادت لمربعها الأول !!

وحتى على الصعيد التركي الداخلي فلم تتصالح تركيا مع ذاتها وإعطاء أبناء الأعراق والمذاهب الأخرى حقوقهم ، فهي ما زالت تنظر الى هؤلاء ، وعددهم يفوق نصف عدد مواطني تركيا ،الى أنهم جماعات لها خصائص ثقافية واجتماعية فقط ولكن لايعترفون بها كمذاهب وقوميات لها حقوقها ويجب أن تمارسها بحرية وذلك في خرق سافر أيضا للمادة 141 من معاهدة “سيفر” التي تعهدت تركيا بموجبها \”بحماية حياة وحرية كل سكان تركيا دون تمييز للمولد والقومية والعِرق والدين وأن من حق الجميع الممارسات الحرة ، العامة والخاصة، لأية عقيدة ودين ومُعتقد” ..

وفي ذات المعاهدة في المادة 142 تم وصف القيادة التركية التي جاءت للسلطة منذ الأول من تشرين ثاني 1914 (أي منذ بداية الحرب العالمية الأولى ) أنها نظام ارهابي (Terrorist Regime ) ورموز ذاك النظام هم من يتغنى بإرثهم اليوم السيد داوود أوغلو .

وما أود التأكيد عليه ختاما أن أمتنا العربية لا يمكن أن تقوم لها قائمة ما لم تتمسك بحبل القومية العربية وجوهرها العروبي أسوة ، على الأقل ، بالأتراك والأمم الأوروبية وسواهم، وتؤمن بها كرابطة تتقدم على أية رابط آخر ديني أو مذهبي …كما الحال لدى كافة أمم الأرض… فهناك من يتمسك بقوميته ويتعصب لها بشكل أعمى وتستنفر أمته كلها إذا تعرض أحد أبنائها للخطر في أي مكان، ولكن يُنكِر على العرب هذه الرابطة لأنه يعلم أنها ستجعل من العرب قوة لايمكن قهرها، فيسعى بكل قواه لتنمية العصبيات الطائفية والمذهبية لدى العرب على حساب الرابط القومي وهذا أخطر تآمر على كينونة ومستقبل هذه الأمة !!! ومن المؤلم والمحزن أن هناك من داخل هذه الأمة من يسير في هذا المشروع الثقافي والفكري الخطير ويساهم في تمزيق أمته خدمة لمصالح خصومها وأعدائها ، والتاريخ لن يرحم هؤلاء سواء كانوا يتصرفون عن جهل أو عمد !!!

فالإسلام الذي نعتز به هو بُعدٌ من أبعاد القومية العربية وليس بديل عنها، وهناك أبعادٌ أخرى عديدة ولكن عندما تذوب القومية لمصلحة الدين فهذا اعتداء على القومية وعلى الدين الذي رسوله عربي وقرآنه عربي ولغة جنة أهله العربية، وكل هذا اعتراف بقومية العرب، فبأي حق ننسف كل ذلك ونلغيه !!؟؟

Share This